الحاجة إلى استراتيجية موحدة ضد الإرهاب

رغيد الصلح (الحياة)

بالمقارنة بين الأوضاع التي سبقت الحرب العالمية الأولى وأوضاعنا الراهنة، يجد المرء الكثير من التباينات والاختلافات، ولكن من ناحية أخرى يعثر على أوجه الشبه التي تثير القلق. من هذه الأوجه أن الذين يملكون القدرة على وقف تصاعد التوترات وعوامل التأزيم والانفجار في الوضع الدولي لم يبذلوا قبل الحرب الكبرى ولا يبذلون اليوم جهداً كافياً للحيلولة دون الوصول إلى الخراب.

وربما كان من الأسباب المهمة لتخلف أصحاب هذه القدرات عن التحرك ضد انفجار الوضع الدولي في السنوات التي سبقت الحرب الأولى هو واقع العلاقات بين النخب الأوروبية الحاكمة، فهذه النخب كانت يتصل بعضها مع بعض عبر صلات القرابة مع ملكة بريطانيا فيكتوريا، فعندما وقعت الحرب، وبينما كان بعض الجيوش الأوروبية يبيد بعضاً، كان هؤلاء الأقرباء يجلسون على عروش روسيا وألمانيا وإسبانيا واليونان ورومانيا الى درجة أن البعض كان يطلق على فيكتوريا لقب «جدة أوروبا»! وهذا الواقع كان يشكل، في نظر الكثيرين، عنصراً مهماً في تهدئة الصراعات الأوروبية- الأوروبية وإبقائها بمنأى من الحرب الشاملة التي ميزت الحرب الأولى. ولكن، كما تبين في ما بعد، فإن العلاقات العائلية لم تصمد في عالم الدول الكبرى وعصر صعود الإمبريالية أمام الأنانيات القومية والمطامع المالية والمشاريع التوسعية.

في عصرنا هذا يوجد القليل من العلاقات العائلية، فمن المؤكد أنه لا يوجد أي صلة من هذا النوع بين فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان، ولا بين فرنسوا هولاند وحسن روحاني. ولكننا اليوم نجد عوامل مشتركة بين القوى الكبرى ونجد أيضاً أن هذه العوامل كثيراً ما جرّت الدول إلى الحروب، فالحروب الكبرى في التاريخ هي، كما يقول مشاهير المؤرخين، ابنة المخاوف الكبرى. ويبرز التغيير في موازين القوى كأهم سبب لاندلاع الحروب، فقد حدث هذا التغيير مرتين في أوروبا ولأسباب بعضها جاء من خارج القارة. ففي بداية القرن الماضي وقعت الحرب الروسية- اليابانية بسبب صراع البلدين على مواطئ النفوذ والسيطرة في منشوريا وكوريا. وتمكنت اليابان من إلحاق هزيمة تاريخية بروسيا عام 1905. هذه النتيجة سمحت لليابان بالتطلع إلى منافسة القوى الكبرى، ما أثر على موقفها لاحقاً في الحرب العالمية الثانية. لكن المهم هنا هو أثر الحرب الروسية- اليابانية على ميزان القوى الأوروبي. قبل الحرب كانت روسيا تلقي بظلها على علاقات القوة الأوروبية. وكانت ألمانيا تحسب حسابات كثيرة قبل أن تجاهر بطموحاتها ومشاريعها التوسعية في القارة وخارجها، وذلك خوفاً من ردود فعل روسيا وخوفاً من تحالف روسيا وفرنسا ضدها. بعد انتصار اليابان في الحرب، تحررت ألمانيا من العقدة الروسية وعلا صوتها في المطالبة بنصيبها من المستعمرات وخاصة في المغرب.

وتصاعد الصراع الألماني-الفرنسي على المغرب بحيث وصل عام 1905 الى شفير الانفجار، ولكن أمكن تطويق هذه الأزمة من طريق عقد مؤتمر «الجزيرة الخضراء» الذي اشتركت فيه الولايات المتحدة. أعلن المؤتمر احترام استقلال المغرب مع ضمان المصالح الفرنسية الأساسية فيه. لم يقبل الفرنسيون بنتيجة المؤتمر، واعتبروا الإشارة إلى استقلال المغرب من قبيل التنازل لألمانيا. هذا الصعود الألماني أثار قلق فرنسا، خصوصاً لأنه اقترن بخسارة الأخيرة حليفها الأوروبي القوي. كذلك أثار ذلك الصعود قلق بريطانيا، فبدأت رحلة التقارب مع فرنسا والتعاون معها على طريق احتواء ألمانيا. ولكن هذا التقارب الفرنسي- البريطاني لم يحد من مخاوفهما المشتركة، بل بالعكس، حول هذه المخاوف الى حافز للإعداد للحرب ودخولها.

علاوة على نتائج مؤتمر «الجزيرة الخضراء»، فقد تتالت مؤشرات أخرى تنبئ بتحول ألمانيا قوة كبرى تنافس فرنسا وبريطانيا على المستعمرات، ذلك أن الألمان اتجهوا إلى بناء أسطول قوي وسكك حديد تصلهم بالولايات العثمانية في المنطقة العربية وفي التحرك داخل هذه الولايات. وتحولت هذه النشاطات الألمانية إلى مبررات للحرب حتى وصلت نقطة الاندلاع بعد أن فشلت كل الجهود التي بذلتها منظمات وقيادات إسلامية لمنع قيامها.

تتكرر على المسرحين العالمي والعربي اليوم المشاهد والفصول ذاتها التي سبقت الحرب العالمية الأولى. إذا استبعدنا عامل الصلات العائلية الحميمة بين العائلات الحاكمة العربية، فإننا نشهد صراعاً قوياً ومتكرراً تقريباً بين الدول المؤثرة في المنطقة، فهناك دول تسير في طريق يفضي الى تغيير الوضع الراهن وتبدل مهم في موازين القوى في العالم. وأهم دولتين هنا هما ألمانيا والصين، مقابل دول الأطلسي الثلاث، الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا. إن هذه الدول الثلاث تعمل بالوسائل كافة على الحفاظ على موازين القوى على حالها. كما أنها حفاظاً على مصالحها تسعى لأن يكون أي تغيير في موازين القوى لصالحها. ولكن هذه المحاولات والسياسات، خاصة التي تطبقها الولايات المتحدة، تدفع العالم في طريق وعر. وهو يشبه الطريق الذي قاد الى الحرب العالمية الأولى.

تدل مواقف اتخذها الزعماء في كل من ألمانيا والصين على حكمة وعلى تعلق بالسلام الدولي. فلقد سعت أنغيلا ميركل إلى تبريد الأجواء الحامية التي أحاطت بقضية أوكرانيا، واتخذت مواقف صائبة تجاه مسألة المهاجرين السوريين رغم ضغوط الأحزاب والجماعات العنصرية. وسعت الصين إلى اتباع سياسة متوازنة بين مصالحها الوطنية من جهة، وبين مقتضيات الحفاظ على علاقات الصداقة والتعاون الإقليمي مع الدول المجاورة لها. وفي إطار هذه السياسة تجنب الرئيس شي جين بينغ دخول صراع مع الولايات المتحدة حول منطقة التجارة الحرة في المحيط الهادئ مع أن عزل الصين كان واحداً من الأهداف الرئيسية لهذا المشروع. وترشح هذه المواقف الزعامتين الصينية والألمانية إلى الاضطلاع بدور أكثر فاعلية في الحد من التوترات الدولية، وفي تطويق الأزمات وخاصة المفتعل منها، التي تهدد الأمن والسلام العالميين.

أن مسؤوليات الزعماء الألمان والصينيين كبيرة ومتنوعة، وهم لا يستطيعون تسخير جهودهم كلها من أجل معالجة الأوضاع الدولية وإيجاد الحلول العاجلة لأزماتها المستعرة. ولكن هذه الأزمات قد تؤدي، في ظل السياسات المتهورة، الى كوارث كبرى لا تصل بالضرورة إلى حروب عالمية جديدة ولكن إلى انهيار كبير في الأوضاع الاقتصادية والأمنية والسياسية يصيب كافة المجتمعات. ومثل هذه الأزمات تدخل الدول من دون استئذان ولا تصريح أو تأشيرة. إن أقل ما يمكن عمله بعد التطورات الخطيرة التي تشهدها المنطقتان العربية والأوسطية، هو عقد مؤتمر قمة للدول الأعضاء في مجلس الأمن من أجل الاتفاق على استراتيجية موحدة ضد الإرهاب، وعلى تحريك اللجنة العسكرية لمجلس الأمن وتفويضها باتخاذ التدابير الضرورية لتطبيق هذه الاستراتيجية. خطوة من هذا النوع تحتاج إلى الوزن المشترك للزعامتين الصينية والألمانية.

اقرأ أيضاً بقلم رغيد الصلح (الحياة)

قبل أن تنجح مشاريع ترحيل الجامعة العربية

سباق السلام والإعمار في المنطقة العربية

ترامب عنصري مثل هتلر تجاه الشعوب والدول الأخرى

الاقتراع الإلزامي واللبننة الجديدة

«الديكتاتور العادل» وأزمة الحكم في العالم العربي

تركيا بين النظام الرئاسي والديموقراطية

قمة الأطلسي وانتقاء العدو المناسب

الحلف الهندي مع إسرائيل والشراكة مع إيران

أوروبا والعرب … إذا حكمها اليمين المتطرف

العلاقات الروسية – الإسرائيلية إلى أين؟

تحسُّن طفيف ولكن مشجّع في الجسم العربي

هل هناك حاجة الى قمم عربية دورية؟

الاتحاد الأوروبي باقٍ

ورقة الصين العربية والفرص الضائعة

العروبيون اللبنانيون والعلاقات مع سورية

«إعادة التمحور» بين الشرقين الأدنى والأقصى

التعددية في لبنان تجربة مهمة للعرب

إرهاب ضد العرب في أوروبا

أخطار الحرب العالمية الثالثة بسبب الأزمة السورية

اليسار الجديد ومتاعب الإتحاد الأوروبي