يهودية الدولة في إسرائيل الهوية المنقسمة والخوف من المستقبل

بقلم صقر أبو فخر

عندما توقف القتال في فلسطين في أواخر سنة 1948 وانقشع عجاج المعارك، اكتشف الفلسطينيون أن المجتمع الفلسطيني انهار تمامًا، وتحول هذا المجتمع الذي كان يزدحم بالمفكرين والكتاب والمثقفين والسياسيين والمتعلمين والفنانين والصحافيين والتجار وملاك الأرض والفلاحين والعمال وأصحاب الحرف إلى مجتمع من اللاجئين الذين تناثروا في الدول العربية المحيطة بفلسطين. أما مَن بقي في أرضه فقد رأى في بقائه أعجوبة، قياسًا على تهجير 860 ألف فلسطيني إلى خارج الحدود، وشعر بعض هؤلاء بأن بقاءهم في وطنهم يعود إلى أن الله أسعفهم وحماهم من التهجير واللجوء. واليهود أيضًا الذين منحهم قرار التقسيم دولة فيها 600 ألف فلسطيني و650 ألف يهودي، وجدوا أنفسهم وقد نالوا أكثر مما منحهم إياه هذا القرار. وهذا الأمر فاق أحلام القادة الصهيونيين أمثال دافيد بن غوريون، فرأوا في ذلك أعجوبة. وعلى الرغم من ذلك، لم يكن أي من الطرفين سعيدًا تمامًا بهذه النتيجة؛ فالفلسطينيون فُرضت عليهم المواطنة الإسرائيلية، لكنهم لم يعتبروا هذه الدولة اليهودية الجديدة دولتهم. والدولة الإسرائيلية بدورها لم تعتبرهم مواطنين، فتحولوا مجموعةً بشرية غير مرحب بها. لكنهم في الوقت نفسه باتوا مواطنين في دولة تعلن عن نفسها أنها ليست دولتهم، لأنها، باختصار، دولة اليهود.

من مفارقات ذلك الحدث الذي غيّر صورة المشرق العربي بأسره، أن الفلسطيني الذي اضطر إلى حمل الجنسية الإسرائيلية صار مواطنًا إسرائيليًا بحسب القانون، وله حق الانتخاب والترشح للانتخابات والتقدم إلى العمل في وظائف الدولة. لكن هذا “المواطن” لو تقدم للمطالبة بأرضه المصادرة والموضوعة في تصرف “القيم على أملاك الغائبين” لانقلبت الحال فورًا، وصار هذا المواطن “غائبًا” يُطبق في حقه قانون أملاك الغائبين. ولو رغب أحد المواطنين الفلسطينيين المهجّرين من قرى الجليل إلى الناصرة مثلًا في أن يزور قريته المدمرة، وأن يتجول في المكان مستذكرًا طفولته وأهله الراحلين، وامتدت يده في أثناء تجواله لتقطف ثمرة من شجرة ربما زرعها بنفسه حين كان يافعًا، أو زرعها والده في الماضي، سيُعتقل ويسلم إلى الشرطة ويحال على القضاء بتهمة سرقة أملاك الغير. والمعروف أن من بين نحو مليون وثلاثمئة ألف فلسطيني يحملون الجنسية الإسرائيلية اليوم هناك نحو 250 ألفًا يطلق عليهم “اللاجئون في وطنهم” أو “الحاضرون الغائبون”، فهم حاضرون كمواطنين، وغائبون كأصحاب أرض.

isreal-palastin

أردت من هذا التقديم أن أقول إن إسرائيل، حتى لو لم يسمونها دولة يهودية رسميًا، هي دولة يهودية بالفعل كما جاء مرارًا في “وثيقة إعلان الاستقلال” التي أذاعها دافيد بن غوريون من مقر الجمعية التأسيسية اليهودية في تل أبيب حيث كانت صورة تيودور هيرتسل تظلل الجميع، ونشيد “هاتكفا” (الأمل) يصدح في تلك القاعة. غير أن أول تحدّ عربي ليهودية هذه الدولة ظهر في سنة 1965 حين أُعلن تأسيس “حركة الأرض” التي لا تعترف بإسرائيل على الإطلاق. وفوجئ النظام القانوني الإسرائيلي آنذاك بعدم وجود أي نص يمنع على أي حزب أو جماعة أو فرد الترشح للانتخابات حتى لو كان لا يعترف بدولة إسرائيل. وهذا الحدث أيقظ القانونيين الإسرائيليين الذين راحوا يسعون إلى إصدار تشريعات تعرِّف إسرائيل على أنها “دولة يهودية”. ولم تكن إسرائيل لتحتاج إلى تشريعات تضمن يهوديتها قبل سنة 1965، لأن يهودية الدولة أمر مفروغ منه. لكن، مع انتهاء مرحلة الخوف على الكيان الإسرائيلي، عمدت إسرائيل في كانون الأول 1966 إلى إنهاء الحكم العسكري المفروض على الفلسطينيين.

وشرعت في صوغ مجموعة من القوانين ذات المضامين العنصرية الواضحة، والتي أضيفت، بالتدريج، إلى “قانون عودة اليهود” الصادر في سنة 1950. ومهما يكن الأمر فإن عبارة “إسرائيل دولة يهودية” التي كانت مفاعيلها جارية منذ النكبة، نامت في أدراج التداول السياسي طوال حقبة ما بعد حرب حزيران 1967، لتستيقظ، كما هو معروف، في سياق سياسي جديد وخطير، إذ وردت في خطبة الرئيس الأميركي جورج بوش في قمة العقبة في 4/6/2003، أي بعد احتلال العراق مباشرة، ومنذ تلك الخطبة لم يتوقف الحديث عنها في الأوساط الإسرائيلية وفي مراكز صنع القرار. وسيكون ملائمًا أن نعود إلى التاريخ قليلًا لنستقصي فكرة تشكل الهوية لدى الإسرائيليين في خضم التحولات التي خضعت لها اليهودية واليهود في أماكنهم المختلفة.

التوراة والهوية التاريخية
كانت التوراة هي الركيزة الأساس في تشكيل الهوية اليهودية طوال حقبة الدياسبورا (الشتات)، وعليها دارت الحياة الروحية لليهود، فرديًا وجماعيًا، وهي التي منحتهم الشعور بأنهم جماعة مؤمنين لها قوامها التاريخي والعقيدي المتواصل. لكن في فترة “الهسكالاه” (التنوير) رأى دعاة الاندماج أن في إمكان اليهودي أن يكون مخلصًا لشعبه اليهودي ومواطنًا جيدًا في الدولة التي يعيش فيها من دون التمسك بحرفية وصايا التوراة. وهذا يعني زحزحة الدين عن الحياة اليومية لليهود في شتى بقاع العالم، ولا سيما في أوروبا، وخلخلة هذه الركيزة التي كانت السند الأهم في تكوين الهوية اليهودية في المنافي.

مع صعود الصهيونية كحركة سياسية حديثة في أواخر القرن التاسع عشر، والتي أرادت إيجاد رابط بين الماضي والحاضر، عادت التوراة لتحتل مكانة مهمة في الأيديولوجيا الصهيونية. لكن، بعد التحول الكبير من المنفى إلى الدولة في سنة 1948، وإعلان تأسيس دولة إسرائيل، بدأت مكانة التوراة بالانحسار لتحل الهولوكوست (المحرقة) في محلها في سياق تشكُّل الهوية اليهودية الجديدة، من غير أن ينتهي تأثير التوراة التي وجدت، لاحقًا، من يحييها بقوة أي جماعات الحريديم (الأتقياء).

كان الشتات مقدسًا لدى الطوائف اليهودية المختلفة، والأَيمان الثلاثة في التلمود البابلي تقول: لا تُعَدْ إلى أرض إسرائيل بكثافة وبطريقة جماعية ومنظمة؛ ولا تسعَ إلى إنشاء دولة لليهود؛ ولا تتمرد على الأمم لأن هذه الأمم ستكرهك وتحاربك. وكانت الكوارث، وهي إرادة إلهية، بحسب العقيدة اليهودية، جزءًا من هوية اليهودي أينما كان مثل كارثة الخروج من مصر، وكارثة التيه في سيناء، وكارثة تدمير الهيكل في القدس، وكارثة الشتات، وأخيرًا الكارثة النازية. والشتات مقدس عند اليهود لأن النبي ابراهيم اكتشف الله خارج أرض إسرائيل، ويعقوب أنجب الأسباط الاثني عشر خارج فلسطين، وتحول الأسباط إلى شعب في مصر، أي في الشتات، وأنزل الله التوراة على بني إسرائيل في سيناء، أي خارج “أرض إسرائيل”. أما الصهيونية فهي تقوم على نفي الشتات، بل هي قومية الشتات خلافًا لليهودية التي تعتقد أن الشتات هو المطهر قبل مجيء المسيح. غير أن الصهيونية هي، فوق ذلك كله، تجسيد للتطابق بين الدين والقومية، فالشعب اليهودي يعني الدين اليهودي في الوقت نفسه. وقد صاغ آباء الصهيونية مفاهيمهم القومية متأثرين بنظريات القومية في أوروبا الشرقية، ولا سيما في بولونيا الكاثوليكية وروسيا الأرثوذكسية، حيث شهدت تلك البلاد تفاقم “المسألة اليهودية” في القرن التاسع عشر. فالقومية بحسب تلك النظريات، وخلافًا لنظريات القومية في أوروبا الغربية، تقوم على الدين وليس على السلالة (النظرية الآرية مثلًا) أو على الثقافة (القومية الفرنسية) أو على الدولة (القومية الألمانية). ومع قيام إسرائيل في سنة 1948 ظهر إشكال تطبيقي وقانوني يتعلق بنقطتين: الهوية القومية والمواطنة، وصار هناك إسرائيلي غير يهودي (عرب 1948 مثلًا). وبهذا التفريق فإن اليهودي الذي يغير دينه يفقد حق العودة إلى أرض إسرائيل.

الهيكل - القدس

ومنشأ الالتباس هنا هو أن اليهودية باتت قومية وهي دين في الوقت نفسه. وتفاقم هذا الإشكال حتى تحول إلى مشكلة قانونية في سنة 1970 حين وافقت المحكمة العليا الإسرائيلية على طلب تقدم به أحد اليهود ضد وزير الداخلية لتسجيل أبنائه كيهود في بند القومية في بطاقة الهوية وهم من أم غير يهودية. والحجة أن الأب يهودي، وأن أبناءه يتكلمون العبرية وعاشوا يهودًا وخدموا في الجيش الإسرائيلي، لكنهم ليسوا يهودًا بحسب شريعة اليهود. بمعنى آخر، إن اليهودية في هذه الحال قومية وليست دينًا.

واللافت في هذا الميدان أن الآباء المؤسسين للصهيونية لم يكونوا يهودًا بالمعنى الديني للكلمة. فتيودور هيرتزل مؤسس الحركة الصهيونية لم يختنْ ابنه الوحيد الذي تحول إلى المسيحية في ما بعد، ولم يكن يعرف العبرية أو حتى الييديشية، وكان “ينتهك” الشعائر اليهودية دائمًا، ويردد: “إن الدين لا يهمني، بل إن ما يهمني هو الأسطورة الجبارة للعودة”. وقد رأى آباء الصهيونية في كتب اليهود كالتوراة والتلمود مجرد فلكلور قومي يهودي. ولهذا كانت الرموز اليهودية لدولة إسرائيل في نظر الصهيونيين تعكس الانبعاث القومي لا التاريخ الديني. وبهذا المعنى تحولت عبارة “لتنسني يميني إن نسيتك يا أورشليم” من جملة شعرية إلى شعار صهيوني، وأطلقوا على دولتهم الجديدة اسم “إسرائيل” وليس “يهودا” مثلًا.

يهود معادون للصهيونية
رفض المتدينون اليهود، في معظمهم، الصهيونية لأنها أرادت علمنة الدين اليهودي بتحويله إلى قومية، وأرادوا الإبقاء على اليهودية كامتياز روحي، أي “شعب الله المختار” أو “شعب السبت” الذي ينتظر قدوم المسيح المخلص. ومن أبرز جماعات المتدينين (الحريديم) جماعة “حَبَدْ”، والكلمة اختصار لـِ : “حوخماه”، أي الحكمة، و”بيناه”، أي الرشد، و”داعات”، أي المعرفة. وهذه الجماعة كان يرئسها ميناحم مندل شنيرسون المتوفى في سنة 1994، والذي كان لا يمل من القول إن الصهيونية هي العدو الأكبر والخطيئة الكبرى التي ابتلي بها شعب إسرائيل. ومن الجماعات اليهودية المعادية للصهيونية “أغودات يسرائيل” التي أسسها الحاخام شمشون هيرش في سنة 1885، وجماعة “ساتمار” وهي جماعة حسيدية (صوفية غنوصية انتظارية) ظهرت سنة 1946، وجماعة “ناطوري كارتا” (حراس المدينة) التي أسسها الحاخام موشي هيرش في سنة 1938. والحسيدية حركة يهودية كبيرة تعتقد أن الخلاص فردي وليس جماعيًا، وهي تركز على العبادة وانتظار المسيح المخلص، ويميل أفرادها إلى المرح والغناء والرقص وشرب الخمور والصراخ للتخلص من هموم الحياة اليومية.

الصهيونية

أما اليهودية الإصلاحية التي تزعمها موشي مندلسون فقد رفضت القومية اليهودية ووقفت ضد تأسيس وطن قومي لليهود، ودعت إلى الاندماج بالمجتمعات التي يعيش اليهود فيها، ونقضت فكرة العودة الشخصية للماشيح (المسيح) وأحلت في محلها فكرة العصر الماشيحاني، أي العصر العادل الذي يمكن الوصول إليه من خلال السلام والتقدم العلمي والحضاري. وللمفارقة فإن الصهيونيين من غير اليهود كانوا يكرهون اليهود، وأرادوا الخلاص منهم بنقلهم إلى خارج أوروبا واستخدامهم لمصلحة بلدانهم. بلفور مثلًا هو الذي تبنى قانون الغرباء في سنة 1903 الذي وضع حدًا لدخول اليهود إلى إنكلترا. ولويد جورج رئيس الحكومة البريطانية التي أصدرت إعلان بلفور كان يمقت اليهود. ومارك سايكس شريك جورج بيكو في تقسيم سوريا التاريخية (بلاد الشام) تمهيدًا لتأسيس وطن قومي يهودي، كان معاديًا لليهود. وفي هذا الميدان فإن بلفور لا يختلف عن هتلر كثيرًا؛ فبلفور كانت لديه مستعمرات (فلسطين) فأرسل اليهود إليها، بينما لم يكن لهتلر مستعمرات فأبادهم.

ضدان لا يجتمعان: الديمقراطية واليهودية
عملت الصهيونية على ترويج المزاعم القائلة إن إسرائيل دولة يهودية وديمقراطية في آن. ووردت عبارة “الدولة اليهودية” خمس مرات صريحة في وثيقة تأسيس إسرائيل التي أذاعها دافيد بن غوريون مساء 14/5/1948. ولم تكن إسرائيل تحتاج إلى تعريف نفسها دولة يهودية لأنها كانت دولة يهودية بالفعل، لكن مؤسسي إسرائيل طالما ارتعدوا من الديمقراطية مع وجود الفلسطينيين العر ب في النطاق الذي منحهم إياه قرار التقسيم رقم 181 الصادر في 29/11/1947. وكان من المحال أن تبقى إسرائيل يهودية بوجود الفلسطينيين. لذلك جرى طرد 80 % من السكان العرب إلى خارج حدود فلسطين الانتدابية، فحققت إسرائيل بذلك الأكثرية اليهودية، وصار في إمكانها الادعاء أنها دولة يهودية وديمقراطية معًا.

isreal-Army

ليست إسرائيل دولة متعددة القوميات كي تكون ديمقراطيتها ديمقراطية توافقية بين المجموعات القومية المؤلفة لها، وإنما هي دولة لليهود. أما العرب الفلسطينيون فليسوا أقلية قومية، من وجهة نظرها، بل هم أقلية غير معترف بها أساسًا، إذ يتم تعريف العرب الفلسطينيين على أنهم “غير يهود”، فيتم نزع الصفة القومية عنهم. كما أن إسرائيل لم تعلن نفسها دولة يهودية في الحقبة الأخيرة فحسب، بل أعلنت ذلك منذ قيامها في سنة 1948. والجديد في الأمر هي أنها راحت تطالب الفلسطينيين والعرب، والفلسطينيين بالتحديد، بالاعتراف بها دولة يهودية كشرط لأي تسوية مقبلة. وهكذا انتقلت إسرائيل من شرط الاعتراف بها سياسيًا ونبذ “الإرهاب” (أي المقاومة) إلى شرط الاعتراف بها دولة يهودية. وانتقل مصطلح “الدولة اليهودية” من تعريف ذاتي بحسب القانون الأساس لسنة 1992، إلى مسألة دولية بعد خطبة الرئيس الأميركي جورج بوش أمام قمة العقبة التي قال فيها: “إن من شأن قيام دولة فلسطينية ديمقراطية تعيش في سلام كامل مع إسرائيل أن يدفع قدمًا أمن دولة إسرائيل وازدهارها باعتبارها دولة يهودية”، ثم إلى مسألة شرطية غداة إعلان الحكومة الإسرائيلية في 25/5/2003 البنود الأربعة عشر الاعتراضية على خريطة الطريق. وظهرت المطالبة باعتراف الدول العربية بإسرائيل دولة يهودية في خطبة إيهود أولمرت أمام مؤتمر أنابوليس في 27/11/2007، وكرر باراك أوباما الأمر نفسه أمام مؤتمر “إيباك” في سنة 2008 وأمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول 2010. وأصر بنيامين نتنياهو على القول: “لن تقوم دولة فلسطينية من دون اعتراف الفلسطينيين بإسرائيل دولة للشعب اليهودي، ومن دون إعلانهم إنهاء الصراع، ومن دون ترتيبات أمنية حقيقية تحمي إسرائيل ومواطنيها” (جريدة “الحياة”، 30/11/2012).

خطر العرب
إن إسرائيل بمطالبتها الدائمة بالاعتراف بها دولة يهودية تفصح عن خشية مركبة؛ خشية من أن ينتقل الفلسطينيون من المطالبة بدولة لجميع مواطنيها كما هي الحال اليوم (أي المطالبة بالمساواة)، إلى استخدام العنف في المستقبل للمطالبة بحقوق قومية متساوية، ولا سيما أن عدد اليهود في فلسطين سيصل، بحسب التوقعات الديموغرافية، إلى نحو 8 ملايين نسمة في سنة 2030، وسيصل عدد الفلسطينيين إلى نحو عشرة ملايين في فلسطين التاريخية. أما فلسطينيو 1948 فمن المتوقع أن يصل عددهم في سنة 2030 إلى نحو 2,4 مليون نسمة، أي إلى نحو 30% من سكان إسرائيل، وهذا أمر يخيف راسمي السياسات الإسرائيلية المستقبلية.

وأبعد من ذلك، فقد كشف يغئيل عمير، وهو الذي اغتال يتسحاق رابين، أن دافعه للاغتيال هو أن رابين ما كان يستطيع تمرير اتفاق أوسلو في الكنيست لولا أصوات النواب العرب. وهذا يؤكد أن مصير إسرائيل ما عاد في أيدي اليهود وحدهم، بل صار الفلسطينيون شركاء فيه. وتكشف هذه البلبلة في الأوساط الأكثر تطرفًا في إسرائيل اضطرابًا متزايدًا في الهوية الإسرائيلية وانقسامًا جديًا في مكوناتها. واحتدم الجدال في بعض الأحيان في شأن المخاطر المحدقة بإسرائيل في المستقبل. فالبعض يعتقد، بقوة، أن اليهودية خطر على إسرائيل، والدليل حادث اغتيال رابين الذي نفذه يهودي متطرف؛ وهذه وجهة نظر العَلمانيين. بينما يعتقد كثيرون أن إسرائيل خطر على اليهودية؛ وهذه وجهة نظر بعض الجماعات الحريدية المعادية للصهيونية أمثال “ناطوري كارتا”، أو أفراد أمثال يسرائيل شاحاك وأبراهام بورغ.

الاقصى 3

في معمعان هذه المجادلات الحامية، دأبت الأحزاب اليمينية على التقدم من الكنيست بمشروعات قوانين أساس (القوانين الأساس تحل محل الدستور لأن إسرائيل لا دستور لها) من شأنها ترسيخ فكرة يهودية الدولة. وفي هذا السياق أقرَّ الكنيست، على الرغم من اعتراض النواب العرب وبعض النواب اليهود، قانون المواطنة والدخول إلى إسرائيل في 12/5/2002. ويمنع هذا القانون لم شمل عائلة إذا كان أحد أفرادها فلسطينيًا، ويمنع أيضًا منح الجنسية الإسرائيلية لمن يتزوج إسرائيلية أو إسرائيلي إذا كان من أصل فلسطيني أو من سكان الأراضي الفلسطينية المحتلة. أي أن الفلسطينيين من سكان مناطق 1948 (داخل الخط الأخضر) الذين تزوجوا فلسطينيات من الضفة الغربية سيعيشون، بموجب هذا القانون، منفصلين عن زوجاتهم. وفي 11/10/2010 أقرَّ الكنيست قانون “المواطنة والولاء” الذي يلزم كل طالب جنسية أداء قسم الولاء لإسرائيل كدولة يهودية. وهذا القانون سيكون مقدمة لسلسلة من الإجراءات التي تمنح السلطات الإسرائيلية القدرة على الادعاء بعدم ولاء المواطنين الفلسطينيين لدولة إسرائيل. وحينذاك سيكون في إمكان هذه السلطات سحب الجنسية منهم. وفي 23/11/2014 صدّقت الحكومة الإسرائيلية ثلاثة مشروعات قوانين أساس تحت عنوان “الدولة القومية للشعب اليهودي” وأحالتها على الكنيست. وهذه القوانين العنصرية تحاول تزوير الرواية التاريخية الفلسطينية عن النكبة، الأمر الذي يؤدي إلى إلغاء الوجود القومي للفلسطينيين في أرضهم التاريخية، ويهدف، فوق ذلك، إلى تعزيز الطابع اليهودي لإسرائيل كدولة يهودية.

تهدف إسرائيل، على المدى البعيد، إلى خفض نسبة الفلسطينيين إلى مجموع السكان من 18% كما هي اليوم إلى 10% أو أقل، الأمر الذي يحول دون تحوُّل إسرائيل إلى دولة ثنائية القومية. وحتى ذلك الوقت يصر اليمين الصهيوني على اعتراف الفلسطينيين بيهودية الدولة وإعلان الولاء لها. والرد الفلسطيني كان دائمًا هو هو: إن ولاء الفلسطينيين في مناطق 1948 هو لشعبهم وليس للدولة التي تحكمهم. غير أن إسرائيل تخفي أهدافًا أبعد جراء هذا الإصرار؛ فالاعتراف بيهودية الدولة يعني الاعتراف بالصهيونية وبالرواية الصهيونية عن احتلال فلسطين، ما يؤدي إلى الاعتراف بحق اليهود في فلسطين، وكأن الفلسطينيين والعرب كانوا طوال الصراع العربي – الصهيوني، معتدين على اليهود؛ إنهم يطالبوننا باعتناق الصهيونية.

مهما يكن الأمر، فإن الاعتراف بإسرائيل دولة يهودية سيجرجر الفلسطينيين بالتدريج إلى التنازل عن حق عودة اللاجئين إلى ديارهم الأصلية التي هُجِّروا منها في سنة 1948، ويسقط القرار 194 (11/12/1948). وبناء عليه ستصبح حقوق الفلسطينيين في مناطق 1948 في مهب الرياح؛ فحتى لو أصبح هؤلاء في يوم من الأيام نصف سكان إسرائيل فلن يكون لهم، بموجب الاعتراف بيهودية إسرائيل، أي حقوق قومية.

قصارى القول إن إحدى نتائج حرب 1948 كانت خسران الفلسطينيين وطنهم، أما اليهود فتمكنوا من تأسيس وطن. ومنذ ذلك الحين بدأ اليهود يخرجون من فكرة المنفى والشتات، بينما راح الفلسطينيون يتحولون إلى لاجئين مشتتين في المنافي. ومع ذلك فإن إسرائيل ما برحت مصرة على اعتراف الفلسطينيين بها دولة يهودية، وهي مفارقة عجيبة. فإذا كانت منظمة التحرير الفلسطينية لا تمتلك السيادة على الأراضي الفلسطينية، فلماذا تطالبها إسرائيل بالاعتراف بحق اليهود في امتلاك معظم أراضي فلسطين؟ إنه إقرار صريح بأن مصير إسرائيل مرهون بإرادة الضحية، وأن اعتراف العالم بإسرائيل الذي كان كافيًا في الماضي، ما عاد كافيًا اليوم، وأن مستقبل اليهود في فلسطين لا يمكن ضمانه إذا لم تُحل القضية الفلسطينية حلًا يُرضي الفلسطينيين أنفسهم. وعلى هذا الحل الغائب وصورته ومضمونه يدور الصراع الدامي في هذه الأيام.

(*) كلمة ألقيت في ندوة بدعوة من “منتدى الفكر التقدمي”