أية قوانين إنتخابية تصلح للبنان، وهل القانون النسبي هو الحل …أم الكارثة؟

ربيع كمال الدين

يصلح القول في لبنان عن قوانين الإنتخاب بأنها “وان واي” لا تستعمل سوى لدورة واحدة، وقليلة جداً هي المرات التي أعيد إستعمال احد القوانين إذا ما إستثنينا قانون الستين وتعديلاته وقانون “غازي كنعان” عام 2000…حيث أن القانون يولد إبن ساعته ويكون نتيجة توازنات دقيقة فرضتها لحظة أو مرحلة سياسية معينة ولا يمكن إعادة تطبيقه إلا إذا تكررت هذه اللحظة وأبقت أو أعادت التوازنات كما هي.

جميع القوانين التي أقرت لغاية اليوم كانت على أساس النظام الأكثري، غير أن الذي كان يتغير من قانون لآخر هو عدد النواب وحجم الدوائر الإنتخابية وهو الأهم، أضف إلى بعض التفاصيل التي تعتبر أقل أهمية. فإذا ما نظرنا إلى مرحلة ما بعد الإستقلال وصولاً إلى إتفاق الطائف، نلاحظ بأن القانون الإنتخابي الأول صدر عن المجلس النيابي في العام 1950 وقد كان ينص على إنتخاب سبع وسبعين نائباً، على اساس المحافظة دائرة إنتخابية واحدة باستثناء محافظتي جبل لبنان والشمال حيث جرى تقسيم كل منهما إلى دوائر ثلاث.

في العام 1952 وبسبب تغير في التوازنات السياسية آنذاك، عدل هذا القانون بموجب مرسوم اشتراعي، خفض بموجبه عدد النواب إلى أربع وأربعين ، وقسم لبنان بأكمله إلى ثلاثة وثلاثين دائرة إنتخابية حيث كاد أن يكون نائباً واحداً لكل دائرة. يشار إلى أنه وحتى ما قبل العام 1957 كان شكل الدوائر الإنتخابية لا يزال مقبولاً من قبل الجميع ولم يجر إستفزاز أي طرف أساسي من التركيبة اللبنانية، وعليه كان الوضع السياسي مستقراً إلى حد بعيد رغم بروز خلاف كبير على الخيارات بين الجبهتين السياسيتين الأساسيتين اللتين تزعمهما آنذاك رئيس الجمهورية كميل شمعون والزعيم كمال جنبلاط، إلا أن هذا العام حمل الخطيئة الكبرى، حيث أنه وبنتيجة ضغط كبير من رئيس الجمهورية وتواطىء من بعض القوى جرى إقرار قانون إنتخابي يهدف صراحة ومن خلال تركيبة الدوائر الإنتخابية التي لا تخطر على بال عاقل “كأن يجمع دير القمر وشحيم فقط في دائرة انتخابية”، إلى ضرب الثقل والحجم الذي يمثله كمال جنبلاط وجبهته. وقد نص هذا القانون الذي جرت على أساسه إنتخابات العام 1958، على انتخاب ستة وستين نائباً موزعين على سبعة وعشرين دائرة انتخابية، وهو الذي أدى إلى إعلان ثورة الـ58 وما تبعها من أحداث في ما بعد.

IMG-20151111-WA0009

أدت النتائج التي أحدثتها هذه الثورة والتغيرات التي جرت على الأرض إلى إعادة التوازن السياسي، مما سمح بصدور قانون إنتخاب في العام 1960 وهو يعد الأعدل والأنصف في قوانين مرحلة ما قبل الطائف. أضيف عدد النواب بموجب هذا القانون إلى تسعة وتسعين، ينتخبون على أساس القضاء مع تقسيم بيروت إلى ثلاث دوائر، وقد إعتمد هذا القانون “وهو الإستثناء” في أربع دورات متتالية آخرها كان في العام 1972، يذكر أنه وبنتيجة هذا القانون ظهرت الحالة الشهابية “نسبةً إلى الرئيس فؤاد شهاب” وشهد لبنان فترة ذهبية إقتصادياً، إنمائياً وحتى سياسياً إلى أن إندلعت الحرب في العام 1975. إشارةً إلى أن النواب الذين إنتخبوا على أساس هذا القانون في دورة العام 1972 هم الذين أقروا إتفاق الطائف في العام 1989 وأنهوا بموجبه فترة الحرب الأهلية الأليمة.

بعد إتفاق الطائف والذي تضمن بأحد بنوده إقرار قانون إنتخابات مناصفة بين المسلمين والمسيحيين ويقوم على أساس المحافظة بعد إعادة تحديدها، جرى إقصاء الفريق السياسي المسيحي عن المشاركة إلى حد بعيد في الحياة السياسية اللبنانية وذلك بقرار سوري وموافقة إقليمية ودولية من خلال إعتقال الدكتور سميرجعجع وإبعاد كل من العماد ميشال عون والرئيس أمين الجميل، وقد جاءت قوانين الإنتخابات وفقاً لأهواء النظام السوري المتحكم بمفاصل الحياة السياسية اللبنانية بشكل كامل مع مراعاة “شكلية” لخصوصية بعض الفئات والشخصيات. إذاً القانون الإنتخابي الأول بعد الطائف جاء في العام 1992 وقد نص على إنتخاب ماية وثمانية وعشرين نائباً على أساس المحافظة دائرة أنتخابية واحدة مع بعض الإستثناءات “ولمرة واحدة” في جبل لبنان والبقاع حيث إعتمد القضاء أو دمج قضاءين لتشكيل الدائرة الإنتخابية.

توالى بعد ذلك إقرار القوانين الإنتخابية في كل دورة، وكان التغير الأبرز في كل منها هو حجم الدائرة الإنتخابية، وكان يتم ذلك وفقاً للمزاج السوري أولاً وبمراعاة لبعض القوى السياسية، علماً أنه وبرغم هذه المراعاة كان يجري “إسقاط” أو فرض بعض الأسماء على هذه القوى التي من أبرزها الرئيس الشهيد رفيق الحريري والزعيم وليد جنبلاط. ففي العام 1996 أقر القانون على اساس المحافظة أيضاً باستثناء محافظة جبل لبنان، إلا أنه وفي العام 2000 أقر القانون الشهير الذي عرف بقانون غازي كنعان والذي كان يهدف أولاً إلى ضرب الحجم التمثيلي للقوتين السياسيتين الآنفتي الذكر، فقد قسمت بيروت خلافاً لكل ما عرف سابقاً، وجرى دمج بعض الأقضية جزافاً، إلا أن النتيجة كانت عكسية وحقق الثنائي المذكور نتائج باهرة، ربما حصل ذلك نتيجةً لردة الفعل التي تولدت عند الناخبين من جراء الإستهداف السياسي الفاضح لهذين المكوّنين. وقد أعيد إعتماد هذا القانون في دورة العام 2005 لعدم التمكن من إقرار قانون جديد بعد إستشهاد الرئيس الحريري. وصولاً إلى العام 2008، وفي ظل معادلة جديدة بدأت بكون النظام السوري أصبح خارجاً “باستثناء الحلفاء والملحقين به” وكل الزعامات المسيحية قد عادت إلى الحياة السياسية اللبنانية، وبعد حربين طاحنتين واحدة مع العدو الصهيوني في تموز من عام 2006 وأخرى مع جماعات إسلامية تكفيرية متطرفة في نهر البارد في شهر آب من العام 2007 ، ونتيجة لأحداث 7 أيار “المشؤومة” التي كادت أن تصل بلبنان إلى حرب طائفية ومذهبية، أتى إتفاق الدوحة الذي إنبثق منه إعادة إقرار قانون الستين معدلاً ، وعليه جرت إنتخابات العام 2009 والتي كانت الأخيرة، حيث من بعدها وحتى يومنا هذا لا يزال المجلس يمدد لنفسه وما زال قانون الإنتخاب الساري هو قانون الستين.

مجلس النواب

ما هي النسبية، ولما يسوق لها بأنها الحل الأوحد والأنجح لإعادة تكوين السلطة في لبنان؟

ينظر البعض إلى لبنان ويتحدثون عنه وعن قوانين الإنتخاب التي تلائمه، وكأنهم يتحدثون عن بلد أوروبي تسوده المواطنية وإحترام القوانين، جميع الحقوق محفوظة والواجبات تؤدى إلى أبعد مدى، بلد لا تنخره الطائفية إلى العظم ولا تتحكم بمعظم مفاصله ميليشيا أو ميليشيات طائفية مسلحة ومنظمة وتفوق بقوتها جيشه وقواه الأمنية، بلد إقتصاده قوي وموقعه الجغرافي استراتيجي بعيد عن كل الحروب والكوارث. إننا في لبنان يا سادة، لبنان الذي تنصب عليه كل عيون العالم، لبنان الذي يتضمن بتركيبته 19 طائفة تقاس العلاقة في ما بينها بميزان الذهب، لبنان التي تحده إسرائيل جنوباً وسوريا شمالاً وشرقاً وما تعنيه هاتين الدولتين سابقاً وحاليا ً في النواحي السياسية، الإقتصادية والعسكرية، وأخيراً لبنان الذي تتمركز فيه الذراع العسكرية الإيرانية الأقوى في المنطقة والتي تهيمن على معظم حياته السياسية والأمنية وتؤثر بشكل أو بآخر على النواحي الإقتصادية، الإجتماعية، المالية وحتى الثقافية.

قد تكون قوانين الإنتخاب المرتكزة على النسبية من أفضل وأعدل القوانين، فهي تقوم على مبدأ تمثيل القوى أو اللوائح المتنافسة بالنسب التي تنالها من أصوات المقترعين، كأن تنال اللائحة الأولى مثلاُ نسبة 50% والثانية 25 % والثالثة 15% فتوزع مقاعد الدائرة عليها وفقاً للنسب التي نالتها وهكذا دواليك. تختلف القوانين المعتمدة على النسبية بين بعضها في العديد من الأمور كالحد الأدنى التي من الواجب أن تنالها اللائحة أو كيفية توزيع المرشحين المستقلين، حجم الدوائر وعدد النواب فيها الخ….. مع الإشارة إلى أن العديد من الدول المتحضرة في أوروبا وغيرها لا تعتمد النسبية في قوانينها الإنتخابية وتفضل النظام الأكثري مع تصغير الدوائر لتصبح فردية أو مزدوجة على أبعد تقدير.

إن للنسبية شروط كثيرة ومتطلبات أكثر لضمان نجاحها وعدم إعطاء نتائج عكسية وكارثية في بعض الأحيان. تكافؤ الفرص للمرشحين وللمقترعين من أبرز شروط النسبية، أضف إلى حس المواطنية وعدم وجود القيد الطائفي في الترشيح والإقتراع كون ذلك سيدخل النسبية في تعقيدات كثيرة من الصعب بمكان تجاوزها، ناهيك عن وجود الثقافة السياسية والعلمية اللازمة لهذا النوع من القوانين. فمع تقديرنا واحترامنا لكل من يطالب “وبحسن نية” بإقرار قانون الإنتخاب على أساس النسبية من قوى، جمعيات وحراك مدني نلفت إنتباههم إلى أن تطبيق النسبية في لبنان حالياً وفي ظل الواقع الراهن سيؤدي إلى نتيجة واحدة هي سيطرة فريق السلاح وحلفائه على كامل مفاصل الحياة السياسية وكسر مفهوم الدولة والرأي الآخر الحر والإستقلالي. إنما قد يتساءل البعض كيف ذلك وهذا القانون سيتيح تمثيل الجميع بحسب النسب التي ينالها كل منهم لا سيما الفئات الصغيرة والمعارضة في طوائفها والتي لا تستطيع التمثل حالياً…، لهؤلاء أقول أن سطوة السلاح وهيبته وفرض الرأي كما شاهدناه ونشاهده في مناطق سيطرة السلاح من الضاحية الجنوبية مروراً بالجنوب وصولاً إلى بعلبك الهرمل سيجعل وصول أي مرشح يغرد خارج سرب 8 أذار إجمالاً أمراً مستحيلاً، أضف إلى تقاسم هذا الفريق وبضغط مضاعف عن السابق باقي المقاعد البرلمانية عن كافة المناطق اللبنانية الأخرى مباشرة أو عبر حلفائه، مما سيؤمن لهذا الفريق الأغلبية الساحقة التي ستمكنه من فرض أمر واقع قانونياً ربما يؤدي إلى تغيير وجه لبنان الذي نعرفه.

على الرغم منذ ذلك وفي سياق العمل على تطوير القوانين الإنتخابية وتحديثها، قد يكون من المفيد أن يتم تجربة النسبية على نطاق ضيق، كأن يصار إلى إقتراع 10% من مجمل عدد النواب على أساسها وفق شروط وطرق معينة تحدد في القانون ويصار إلى تقييم التجربة من قبل كافة القوى السياسية والمدنية والخبراء والعمل على تطويرها لاحقاً.