عن مخاطر الحسابات الروسية الجديدة في سوريا!

د. ناصر زيدان

في العام 1772 أرسلت الامبراطورة الروسية كاترينا أسطولاً عسكرياً بحرياً كبيراً إلى شواطئ البحر المتوسط الشرقية، بهدف مساعدة الحركات المُناهضة للعثمانيين على الإنفصال، وعلى رأسهم علي بك الكبير في مصر. كما هدفت الحملة لمواجهة النفوذ الفرنسي في لبنان وفلسطين، وقد إحتلت هذه القوات بيروت من 10/10/1773 إلى 10/2/ 1774، بعد أن طردت قوات الأمير الدرزي يوسف الشهابي منها (وفقاً لما ذكره حرفياً المؤرخ طنوس الشدياق في كتابه “أخبار الأعيان في جبل لبنان”) وكانت الحملة الروسية في حينها، تضمّ 7 سفن حربية كبيرة و4 فرقاطات وعدد من سفن الشحن و1500 ضابط وجندي.

لم تنجح الإمبراطورة كاترينا في تحقيق أهدافها في تفكيك الإمبراطورية العثمانية التي كانت تمنعها من السيطرة على جزيرة القرم وكامل البحر الأسود وممراته الاستراتيجية. وأسست هذه الحملة الروسية لعداء مع الفرنسيين إنتهى بالغزوة الفرنسية لموسكو في العام 1811، وأعقبها مشاركة روسية فاعلة في هزيمة مشروع نابليون بونابرت التوسعي.

منذ ذلك الحين، لم يُسجَّل تدخُّل عسكري روسي مباشر في الشرق الأوسط، برغم الأحداث الكبرى التي مرَّت على المنطقة أيام الاتحاد السوفياتي السابق، وكانت موسكو إبان تلك الفترة شريكاً أساسياً في الأحداث، وحليفةً لمجموعة من الدول التي تعرَّضت للعدوان، خصوصاً مصر أيام الرئيس جمال عبد الناصر، وسوريا أيام الرئيس حافظ الأسد، ودولة اليمن الجنوبي التي كانت جزءاً من المنظومة الشيوعية من العام 1970 إلى العام 1990.

022

التدخُّل العسكري الروسي المباشر في الأحداث السورية منذ بداية تشرين الأول 2015، كان مفاجئاً، ذلك أنه أعقب فترة طويلة من مفاوضات قادتها موسكو بهدف إيجاد تسوية سياسية. وقد تجاوبت المعارضة السورية – برغبة من أصدقائها اللبنانيين والخليجيين –  مع المبادرة الروسية وزارت موسكو أكثر من مرَّة، آخرها في آب الماضي.

وبالتأكيد، فإن النتائج السلبية الأولى للضربات الروسية – الجوية والصاروخية – كانت خسارة روسيا لدورها كوسيط، برغم أن المعارضة السورية المُعتدلة، كانت تعلم أن دور موسكو وطهران حال دون سقوط نظام الأسد أمام توسُّع حجم المعارضة العارمة لنظامه منذ آذار 2011.

الحسابات الروسية الجديدة لقادة الكرملين بدأت تتوضح، بصرف النظر عن مدى نجاحها، أو مخاطر الفشل التي تتهددُها.

الإعتبار الأول لهذه الحسابات إنقاذ النظام الذي بانت علامات سقوطه المُحتَّم في الصيف الماضي، لا سيما من خلال توسُّع نفوذ المعارضة في درعا والسويداء في الجنوب، وفي الوسط الشمالي، خاصةً في المناطق المُحاذية لمحافظتي اللاذقية وطرطوس الساحليتين، حيث القواعد العسكرية البحرية والأرضية الروسية، وفيهما معاقل الأغلبية المذهبية “العلوية” التي يستند إليها النظام… ولا يبدو أن القضاء على الإرهاب الداعشي هدف روسي إلا بالإعلام.

كما أن الشعار الذي ترفعه موسكو، والذي ينادي بضرورة الحفاظ على الجيش وعلى مؤسسات الدول، لم يُقنِع أغلبية السوريين والعرب، لأن هذا الهدف يمكن تحقيقه عن طريق المفاوضات، وليس بالضرورة من خلال الإبقاء على الأسد في السلطة. وفي هذا الإطار، لا يمكن لموسكو التلطي خلف ضبابية الموقف المصري، ولا خلف الأولوية التي تعطيها بعض الدول الخليجية لمحاربة الإرهاب، وليس صحيحاً ما ذكره نائب وزير خارجية روسيا ميخائيل بغدانوف من أن البديل عن الأسد هو أبو بكر البغدادي.

012

والاعتبار الثاني لحسابات التدخُّل الروسي، هو إعادة فرض المكانة السلافية المُتقدِّمة على الخارطة الدولية (وإذا شئتم المكانة الأرثوذكسية)، بعد أن تمَّ تهميشها في المرحلة الماضية، من جراء ما يعتبره الروس “حصاراً غربياً على بلادهم” منذ ضم القرم في ربيع العام 2014.

وهذا الحصار مع إنخفاض أسعار المُشتقات النفطية، أدى إلى كوارث لا تُحصى أصابت الإقتصاد الروسي. ويرى الرئيس بوتين أن الفرصة مُهيئة لإستعادة المكانة الروسية من خلال التدخُل في سوريا، في ظُلِّ غيابٍ واضح للإستراتيجية الاميركية، وتشتُّت المواقف الأوروبية، ورضا ضمني “إسرائيلي” عن المهمة الروسية الجديدة، عبر عنه قادة “إسرائيل” أثناء زيارة رئيس الأركان الروسي إلى تل أبيب في 6/10/2015.

ولكن الطموح الروسي بالتحكُّم بمسار الحلول في الشرق الأوسط، هدفٌ بعيد المنال، نظراً للتعقيدات الهائلة التي تسبح في المياه الهائجة للمنطقة.
وفي الحسابات الروسية الأُخرى مطامع مالية، يمكن تحقيقها من خلال رفع أسعار النفط من جراء أجواء التوتر، وأيضاً من خلال إستثمارات واعدة في المخزونات النفطية الهائلة مقابل السواحل السورية واللبنانية. ولا ننسى حسابات الروس في تأمين حجز حصة كبيرة لهم في مراحل إعادة إعمار سوريا لاحقاً، حيث البُنى التحتية أصابها دمار هائل، ومُعظمها كانت قد بُنِيت وفق النموذج الروسي، نظراً للعلاقات المُميَّزة التي ربطت موسكو ودمشق خلال ما يُقارب الخمسين عاماً الماضية.

0444

رغم إتساع الضربات الروسية – ومنها بصواريخ مُدمِرة بعيدة المدى أُطلقت من بحر قزوين – فإن حسابات الحقل السوري قد لا تتطابق مع حسابات البيدر الروسي. ذلك أن مؤشرات الهجوم البري الذي أعقب الغارات الروسية على مواقع المعارضة في سهل الغاب الاستراتيجي غرب حماه، لا تبدو مُشجعة. فقد نقلت وسائل الإعلام صوراً عن صمودٍ واسع لقوات المعارضة أمام الجيش النظامي المدعوم من حزب الله والروس. ولا يبدو أن خطة إستعادة “مناطق سوريا الحيوية” بما فيها حلب، ستنجح بالسهولة والسرعة التي يتوقعها الرئيس بوتين، وعندئذٍ سيكون الروس أمام نوع من الحروب الاستنزافية التي لا يستطيعون تحمُلها، كما أنهم لا يتحملون فترة تدخُّل طويلة في الرمال السورية المُتحرِّكة، وما يُحيط بها من صعوبات تُنتجها الجغرافيا السياسية المُعقدة للمنطقة، لا سيما التأثيرات الجيودينية، والجيوسياسية على مساحة واسعة، تمتدُ من لواء الاسكندرون مروراً بدول الوسط الاوراسي، وصولاً الى جنوب الغرب الروسي الذي يعجُّ بالسكان الروس المُسلمين.

لم تنجح مثل هذه التدخلات الروسية عبر التاريخ؛ لا في تفكيك الامبرطورية العثمانية (التي تفككت بفعل التهوُّر الألماني في الحرب العالمية الأولى) ولا في إستمالة مسيحيي الشرق الذين لم يعترفوا بوصاية موسكو، ووجهة معظمهم يجذبها الهوى الغربي، كما أن الروس أخفقوا في إنشاء قائمقامية أرثوذكسية في بلاد الكورة – بُعيد إنتهاء حرب العام 1860 في لبنان – وفشلوا في الحفاظ على مفاتيح كنيسة المهد في بيت لحم، حيث سحبتها منهم السلطات العثمانية وسلمتها للرهبان الكاثوليك عام 1852.

إذا كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يعتقد أن الفراغ في سدَّة المسؤولية الدولية – أو لنَقُل التشتُّت الدولي – بمثابة الفرصة له لتغيير المُعادلات القائمة، ولفرض شروط مُبالغ فيها، فذلك محّل شكٍ مؤكد.

اما تهديد روسيا بتغيير الخارطة السياسية للمنطقة برُمتها – بما في ذلك إعادة لواء الاسكندرون من تركيا إلى السيادة السورية، دغدغةً للمشاعر العربية – فهو سيرٌ في طريقٍ وعِر، غير مضمون النتائج، ذلك أن الاسكندرون – وبصرف النظر عن هويته الحقيقية – هو منطقة حدودية، ليس مع تركيا فحسب، إنما مع الحلف الاطلسي برُمته.

اقرأ أيضاً بقلم د. ناصر زيدان

قبل أن يسقط الهيكل

عن الصراعات المُخيفة بين سواحل البحر الاسود وشواطىء البحر المتوسط الشرقية

تحوُّل كبير في السياسة الصينية نحو الشرق الاوسط

مصاعب سياسية وإقتصادية تواجه روسيا

مؤشرات على إندفاعة جديدة لجامعة الدول العربية

كلفة اقتصادية خيالية لإسقاط “السوخوي” الروسية من قبل المقاتلات التركية

تحديات التنمية العربية لما بعد العام 2015

هل تُهدِّد الاضطرابات الأمنية التغلغُل الصيني الواسع في أفريقيا؟

الحكومة الأفغانية عالقة بين طالبان وداعش والافيون والسياسة الاميركية

التواطؤ الأميركي وإنتفاضة القُدس الثالثة

تغييرات كبيرة في نسق العلاقات الدولية على وقع المآسي الانسانية

عودة هادي إلى عدن وتقلُّص الإنفلاش الإيراني

تحولات كبيرة في الموقف الروسي تجاه الأزمة السورية

معالم تراجع في أخلاقيات النظام الدولي!

هل يلاحق القضاء البريطاني نتنياهو اثناء زيارته الى لندن؟

عن المسؤولية الجنائية لقادة العدو الإسرائيلي في إحراق الطفل دواشنة

ايران: مصلحة الدولة ومصلحة النظام

عن تآمر “إسرائيل” والنظام السوري على العرب الدروز!

سِباق بين عصا البشير والمحكمة الدولية من جنوب افريقيا الى السودان

لماذا تحدث البابا فرنسيس عن “مناخ الحرب” في العالم؟