كريم مروة ناقداً تجارب الماضي بجرأة

محمد شيا (الحياة)

لم يفاجئنا كثيراً اتجاه بوصلة كريم مروّة في كتابه الأخير «فصول من تجربتي في الفكر والسياسة» (الدار العربية للعلوم ناشرون، 2015)، فهو كان بدأ المراجعة تلك منذ سنوات، في غير مقالة وعمل سابق. لكن اللافت في العمل الجديد هو العدد الكبير للعناوين، والإمعان في تفصيلها، وأخيراً التوسّع الذي ما انفك كريم يستكمله في مشروعه الطموح (بغض النظر عن فرصه الواقعية!) لبناء مشروع لبناني العنوان، يساري المضمون الاقتصادي والاجتماعي، وديموقراطي الشكل والآليات المستخدمة.

أقول العدد الكبير للعناوين، فهو في أربعة عشر فصلاً تملأ نحو أربع مئة صفحة من القطع الكبير. تستحضر الفصول الأربعة عشر تجارب الماضي المرّة، من تعثّر مشروع التغيير الديموقراطي في لبنان مطلع سبعينات القرن الماضي، إلى خطأ الانجرار إلى الحرب الأهلية، إلى المقاومة الوطنية اللبنانية الاحتلال الإسرائيلي التي انتقلت ساحتها وشعاراتها سنة 1985، مع نهاية الانسحاب الإسرائيلي الأول الكبير من لبنان، من مجال ساهم فيه بقوة كل الوطنيين اللبنانيين إلى مجال جديد جرى ضبطه بمساهمة من لون واحد فقط.

وتجري في الكتاب استعادة الموضوعات الفكرية والسياسية التي كانت طرحت بدءاً من سنة 1968، فالفصل السادس الذي أسماه: «النظام الاشتراكي العالمي من الأزمة إلى الانهيار». إلى فصول أخرى تناولت بالنقاش الأطروحات الدينية للثورة الإسلامية الخمينية، وحركات إسلامية أخرى، إلى ندوة مجلة الطريق سنة 1997، حول محاولات تجديد المشروع الاشتراكي، وصولاً إلى تجربته الشخصية في خلال ذلك كله، من موقع المشترك والمساهم في ما يجري، والناقد له – كما يصرّ أن يكرر غيرة مرّة.

وإذا كانت كتابات كريم الفكرية ممتعة ومثيرة للنقاش بعامة، أكنت معه أم ضده، فمن الممتع والمفيد ربما قراءة الصفحات القليلة التي عرض فيه لتجربة «المقاومة الوطنية اللبنانية» التي انطلقت بعد الاحتلال الإسرائيلي بيروتَ سنة 1982 ببيان تأسيسي من منزل الشهيد كمال جنبلاط. ممتع ومفيد عرض كريم لأنه يستذكر تحديداً أخطاء اليساريين اللبنانيين وقصور نظرتهم التي جعلت من تحالفهم (على بياض) مع المقاومة الفلسطينية ينتهي كارثة عليهم، وعلى لبنان. وهو ممتع ومفيد كذلك في عرضه للصدمات التي طاولت جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية في الثمانينات ومنها «ما ووجهنا به من رفض مهذب من قبل حزب الله للعمل المشترك في المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي بقرار ضمني من الوصاية السورية التي كانت قررت حصر المقاومة بحزب الله دون سواه» (ص 107) وهو ما أوصل في النهاية إلى التحرير الشامل في 25 أيار (مايو) سنة 2000 – عدا بضع مزارع لم تنسحب منها إسرائيل إبقاء لـ «مسمار» جحا يربط الأمور ببعضها، ويعقّدها، كي يمكن استخدامها لاحقاً من إسرائيل وسورية و «حزب الله»، كما جرى بعد ذلك غير مرة. لكن كريم يضيف هنا فكرة جديدة يفسّر فيها احتفاظ سبب «حزب الله» بسلاحه بعد التحرير ودون سائر المجموعات اللبنانية، يقول: «إلا أن تبرير حزب الله للاحتفاظ بسلاحه باسم المقاومة بعد تحرير الأراضي الواضح انتماؤها إلى الوطن اللبناني كان يخفي موقفاً آخر له علاقة بدوره الجديد بعد التحرير وهو دور لبناني وإقليمي، سرعان ما أكدته الأحداث في المنطقة، سورياً على وجه التحديد… لم يلبث حزب الله أن استخدم المقاومة في الصراع الداخلي أكثر من مرة، وكان عام 2008 الدليل على ذلك. وهو خطأ فادح أساء فيه حزب الله إلى دوره التاريخي في المقاومة، وخالف في الآن ذاته القواعد التي صارت معروفة في تواريخ المقاومة للعدوان الخارجي في العالم المعاصر، لا سيما في أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية.» (107 – 108)

تدور سائر فصول الكتاب المتبقية حول أزمة النظام الاشتراكي العالمي التي أفضت إلى سقوط الاتحاد السوفياتي سنة 1989، وأزمة الحزب الشيوعي اللبناني تفصيلاً. لكن كريم لا يجري هنا جردة حساب شخصية وحزبية فحسب، بل هو ينطلق من الجانب التاريخي والحزبي والشخصي فيها إلى الجانب السياسي، والنظري على وجه الخصوص، حيث ناقش أزمة الحركة الشيوعية العالمية، وفي جوهرها أزمة الماركسية كنظرية وعجزها عن التكيّف مع التحولات العالمية اللاحقة، التاريخية والعلمية والتكنولوجية والسياسية وسواها. في هذا المجال تقدّم كريم بأفكار جديدة نقدية للماركسية كفكرة ونظرية وليس فقط لتشكلها الاقتصادي والسياسي هنا أو هناك. وهي إضافات نقدية جريئة تخالف ما يستمر عليه بعض الدوغمائيين اللبنانيين، وربما غيرهم أيضاً، من اعتبار الماركسية نظرية فوق النقاش!

كتاب كريم الجديد ممتع ومفيد، كما قلت، لذلك هو مهم ومغر بالقراءة. لكني لا أترك هذه العجالة من دون ملاحظات سريعة مني لعمل كريم، وبسبب من أهميته الفائقة، في أمور جزئية، من مثل أن يكون الفصل الأول هو الأخير لأنه الخلاصة التي يقترحها المؤلف «لبنان الغد الذي نريد»، هي التي كان يجب أن يختتم بها، كي يكون للنقاش صلة ومستقبل. كذلك كان بالإمكان إخضاع الفصول لترتيب منهجي أفضل يحول دون التكرار من جهة، ويتوسع في فصول، ويفتح لفصول أخرى ربما من مثل النقاش مع الخيار القومي مثلاً، كما النقاش مع الذي جرى مع الخيار الإسلامي؛ وأخيراً كنت لا أتردد في أن أقترح على المؤلف ضرورة تخصيص أكثر من فصل واحد لتجربته الشخصية الغنية جداً – ومن موقع الشاهد على عصر مليء بالأحداث المثيرة، والدروس العميقة بالتالي. يلي ذلك فصل آخر، كذلك، يجب أن يتضمن نقده لاشتراكه ومساهماته الشخصية في الأحداث والتحولات تلك، وبسبب من غناها الاستثنائي، وبيان الظروف التاريخية التي أحاطت بها، ثم السؤال، هل كان بالإمكان أخذ خيارات فكرية وتنظيمية وسياسية أخرى، وإذا كان الجواب نعم، فما الذي حال دون ذلك؟ وما الذي يحول عموماً دون أخذ من يكون في موقع المسؤولية – أكان في مكتب سياسي أم في قيادة نظام – الخيارات السليمة والقرارات الصحيحة في الوقت الذي كان يجب أن تتخذ فيه!

وتبقى ملاحظة أخيرة، ربما تكون أكثر جوهرية، وهي تتصل ببنية الكتاب واستراتيجيته. يحتاج عرض الملاحظة النقدية تلك إلى مساحة أكثر اتساعاً، وتخصصاً بالتأكيد، لكني اختصرها بالقول أن المؤلف – وفي تقليد لم يخرج به كريم عن عادات المفكرين والمناضلين العرب – لم يف الآخرين (الذين كانوا موجودين ضمناً في كتابه) حقوقهم الشخصية والتاريخية والنظرية. هو لم يف تحديداً الطرف التقدمي، الديموقراطي، اللبناني حقه في النجاحات الوطنية واليسارية والديموقراطية التي تحققت (لم يخصص لنضالاتهم فصلاً ولا عنواناً في فصل في كتاب أريد منه ألا يكون مجرد سيرة ذاتية أو جردة حزبية داخلية – ولو كان كذلك لانتفى مبرر الملاحظة كلياً – بل أراده صاحبه أكثر من ذلك بكثير، مساهمة «تخرج يسارنا من الهزيمة والأزمة»)، فهل تكتمل المراجعة، وتتجدد المساهمة، بمشروع وطني يقوم على مكوّن واحد أو اثنين دون سائر المكوّنات الطبيعية والمنطقية؟

وفي الجانب النظري أيضاً، كان جديراً، كما أعتقد، بالمفكر كريم مروة أن لا يغفل المساهمات النظرية النقدية العميقة السابقة لنقده للماركسة كنظرية، وللحركة الشيوعية العالمية كشكل سياسي، ولتجربة الاتحاد السوفياتي كدولة – ومن أجل تحويل كتابه إلى ثبت في تصرف الأجيال اللاحقة. كان مفيداً تذكّر مصادر النقد تلك – وقد جاءت من مشارب مختلفة – فيما هو يقدّم نقده للكيانات الثلاثة – وكيف (على وجه الخصوص) أن أعمال النقد السابقة تلك لم تنل يومذاك ما تستحق من عناية ونقاش الأحزاب الشيوعية العربية، ومنها اللبناني، بل كان في انتظارها التأطير الشيوعي التقليدي «من أعمال البرجوازية الصغيرة» الذي كان كفيلاً بشطبها وإبعادها عن أي نقاش حقيقي.

كان في وسع استذكار المصادر النقدية تلك أن يضيف إلى موضوعية كريم الظاهرة أبعاداً إضافية، ولعلها كانت ستفيد أيضاً في إدخال أفكار ومساهمات جديدة لتجيب عن سؤال: ما العمل للخروج بالمشروع الوطني الجامع، اليساري والقومي، والديموقراطي أولاً وأخيراً، من قعر البئر التي سقط فيها، وبسبب من أزمته المركّبة – النظرية والعملية والاجتماعية والسياسية، والقيادية أيضاً.