طبخة الحل في المنطقة على نار الفتن

عرفان نظام الدين (الحياة)

كلمة السر الدولية لم تعد تُهمس سراً، فهي أصبحت علنية هذه الأيام تتردد في مختلف الأروقة الدولية والعربية وعلى ألسنة رجال السياسة والإعلام بعد الانتشار العسكري الروسي الكبير في سورية والقمة الأميركية – الروسية في نيويورك «وتصعيد» محنة اللاجئين السوريين فجأة.

«الطبخة استوت» (أي نضجت)، هي كلمة السر السحرية ويُقصد بها طبخة الحل السلمي الذي سيفرض فرضاً، ليس للحرب السورية وحسب، بل لكل حروب المنطقة، من سورية والعراق إلى ليبيا واليمن، وما بينها وما حولها لتشمل الأزمة اللبنانية المتجذرة. وقبل كلمة السر كانت هناك مؤشرات ودلائل انطلقت بوادرها إثر التوقيع على اتفاق الملف النووي الإيراني، ومن ثم الدخول الروسي المباشر في خضم الصراع بعدما كان سرياً إلى حد ما مع أنه معروف وملموس منذ بداية حوادث «الربيع العربي» والحرب السورية بالذات.

في المقابل، تطور التجاوب الأميركي المعلن الذي وصل إلى حدود الغزل، واتضحت الرغبة المتبادلة في العناق والوفاق على أطلال الأوطان المنكوبة، على رغم ما أعلن عن القلق والتفاجؤ بالتحرك الروسي. فبعد انتقاد خجول وقلق شكلي، اتضحت المواقف ليجري تداول الحديث الصريح عن التعاون في محاربة الإرهاب ومشاركة روسيا في التحالف الدولي الذي جرى تشكيله لمحاربة تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش).

وبعد اتصالات سرية ومعلنة، جاءت القمة بين أوباما ونظيره الروسي لتحدد طبيعة العلاقة وخريطة الحلول ومسار العمل والتنسيق لإنجاز صفقة ثنائية، على أن تُستكمل بـ الكومبارس» الأوروبي وبعض القوى العربية والإقليمية، ومن ثم يجري تأمين مظلة شرعية دولية بقرار لمجلس الأمن للإشراف على التنفيذ بالنسبة إلى إجراءات وقف إطلاق النار وتأمين عودة اللاجئين وخطوات استكمال المرحلة الانتقالية من أمن وانتخابات وتوابعها.

النقطة الوحيدة التي كانت تقف عثرة أمام الحل جرى تجاوزها، وهي قضية بقاء الرئيس السوري بشار الأسد في السلطة واستمراره في الإمساك بزمامها خلال الفترة الانتقالية، فقد انتقل الحديث من رفض مشاركته في الحل والإصرار على رحيله إلى القبول المتدرّج بمشاركته في المفاوضات. والحل المنشود بدأه الرئيس بوتين بالتأكيد أن هذا الموضوع غير قابل للبحث، لتكر بعدها سبحة التراجعات على لسان جون كيري أولاً الذي قال إن هناك حاجة إلى تجديد جهود التسوية من دون الأسد، ولكن ليس الآن أو على الفور، ولحقت به ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وتركيا.

 وعند الربط بين الحوار الأميركي – الروسي والحوادث المتسارعة في المنطقة، يمكن فهم أبعاد الصفقة المرتقبة والحاجة الملحة إلى التوصل إليها فوراً ومن دون أي تأخير، نظراً إلى الضغوط الهائلة التي تقلق بال الدول الكبرى، ومعها دول المنطقة، وبينها المخاوف من خروج الحروب عن السيطرة وامتداد خطر الاٍرهاب بعد التأخر والتعثر، أو التباطؤ الممنهج، في القضاء عليها بعد توافر المؤشرات التالية:

* التدفق الهائل للاجئين على أوروبا، الذي بدا بريئاً في البداية ثم أثار علامات استفهام كبيرة حول التوقيت والضجة الإعلامية وكلمة السر التي شجعت هؤلاء على التحرك الجماعي في وقت واحد واتجاهات محددة. ورافق هذه الحالة الضاغطة تحذير من أن تفاقم الأزمة في سورية والمنطقة ستكون له انعكاسات كارثية على الاقتصاد والأوضاع الأمنية والاجتماعية والسياسة، وسط مخاوف من تسلل مئات الإرهابيين.

* تسارع الحوادث في العراق بعد إطاحة رئيس الوزراء نوري المالكي وقيام خلفه حيدر العبادي بحملة تطهير شملت كبار مساعديه وبينهم من المحسوبين على إيران، مثل المالكي، لضرب الفساد والتحذير من تمادي إيران في الهيمنة على بعض المرافق، وبينها حقول نفط حدودية، وسط مخاوف جدية من تعرض العبادي نفسه للإغتيال، خصوصاً أن التظاهرات الشعبية ومواقف الإمام السيستاني، المرجع الشيعي الأعلى في العراق، تلتقي حول عروبة العراق ورفض الانتهاكات التي ارتكبتها ميليشيات «الحشد الشعبي» ضد السنّة.

وتزامنت هذه التطورات مع تعثر مسيرة الحرب على «داعش» وفشل «الحرس الثوري» الإيراني في  دعم القوات العراقية والميليشيات في مقابل تصاعد الدعوات إلى إشراك العشائر و»الحرس الوطني»، الذي بقي قرار تشكيله حبراً على ورق.

 وعلى رغم ضبابية المواقف، فإن المعركة لم تحسم بعد، إن على الصعيد الداخلي أو بالنسبة إلى العلاقة مع إيران وتركيا وبين الحكومة المركزية والأكراد أو بالنسبة إلى الحرب على «داعش».

* دخول تركيا علناً في الحرب السورية في اتجاهين: إطلاق يدها في ضرب حزب العمال الكردستاني، في مقابل القبول بالمشاركة في الحرب على «داعش» وقطع سبل الإمداد البشري والمادي والسماح للأميركيين باستخدام قواعد تركيا لشن غارات عليه.

إلا أن أخطر ما في التدخل التركي هو التخطيط لإقامة منطقة عازلة على طول الشريط الحدودي مع سورية، من طرابلس إلى الساحل عند حدود الإسكندرون (هاتاي) لضرب عصفورين بحجر واحد: منع الأكراد من التمدد إلى هذه المناطق التي يعتبرونها جزءاً من كردستان، والحصول على ضوء أخضر أميركي ودولي بإقامة المنطقة خوفاً من وصول «داعش» إليها، إضافة إلى الرغبة في التخلص من أعباء مئات الآلاف من اللاجئين السوريين بنقلهم إليها وتحميل الأمم المتحدة مسؤولية حمايتهم ورعايتهم. إلا أن كل هذه المخططات لن يتحدد مصيرها إلا بعد ظهور نتائج الانتخابات البرلمانية التركية المقررة في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل.

أما الأمر الآخر الذي يحسم مصير هذه المخططات، فيتعلق مباشرة بالموقف الروسي ودوره العسكري المرتقب، وما إذا كان سيسمح بإقامة المنطقة الآمنة أو منعها بالقوة.

* متغيرات وتطورات الحرب السورية والدور الروسي فيها، وهذا لا بد أن يثير تساؤلات عن التنسيق بين القوات الروسية وقوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة التي تشن غارات على مواقع «داعش» من جهة، أو بالنسبة إلى التنسيق مع القوات السورية والميليشيات المتحالفة معها وعلى رأسها «الحرس الثوري» و»حزب الله» اللبناني؟ والسؤال المطروح اليوم هو هل انتهى دور هذه الميليشيات، أم أنها ستنضوي تحت قيادة واحدة لا يكون لها الدور ذاته الذي كانت تقوم به؟

أما الأسئلة الكبيرة المطروحة، فتتعلق بحقيقة وأهداف الدور الروسي الذي خطط له القيصر بوتين:

– هل الغاية تثبيت دعائم النظام السوري والمشاركة المباشرة في الحرب على مختلف الجبهات لضرب المعارضة أو إضعافها؟ مع عدم استبعاد المشاركة في الهجوم على «داعش»، وهذا يرضي الأميركيين والأوروبيين، كما يزيح أخطار انتقال الإرهابيين الشيشان وغيرهم من دول المجموعة الآسيوية التي تنضوي تحت سقف الهيمنة الروسية، مع عدم استبعاد أعمال انتقامية من هؤلاء ضد المصالح الروسية.

– أم أن الهدف الروسي المتفق عليه، من تحت الطاولة، مع الأميركيين هو وضع حد للحرب وفرض مبادرة سلام على جميع الأطراف، وهذا ما جرى بحثه في نيويورك وما يتوقع تصعيد خطواته خلال الأسابيع القليلة المقبلة.

– أما السؤال الأهم والمرعب، فيتناول خفايا الموقف الروسي واحتمال توصل بوتين إلى قناعة بأن الحرب ستؤدي إلى تنفيذ المخطط الجهنمي بتقسيم  سورية، وبالتالي تقسيم الدول الأخرى. ولهذا قام بضربته لتأمين مناطق نفوذه على الساحل السوري من اللاذقية التي يقيم فيها قاعدة جديدة تضاف إلى القاعدة البحرية في طرطوس تحت ستار حماية أمن الدولة التي ستقام عليها بعد ضمان الحصول على حقوق التنقيب عن النفط والغاز على امتداد  المياه الإقليمية.

– والسؤال المهم الآخر يتعلق بالمشروع الروسي الرامي إلى إقامة تحالف رباعي بين روسيا والعراق وسورية وإيران للتنسيق عسكرياً وسياسياً تحت ستار المشاركة في الحرب على «داعش».

أما السؤال الأخير، فيتعلق بدور إسرائيل ومدى رضوخها للواقع الجديد وقدوم «الدب الروسي إلى كرمها»، كما يقول المثل، ومعه الإيرانيون و»حزب الله»، وما مسارعة بنيامين نتانياهو إلى الذهاب إلى موسكو واجتماعه مع بوتين سوى تعبير واضح عن مدى القلق الإسرائيلي والخوف من فقدان أوراق القوة التي تملكها، وبينها الاعتداء على الأراضي السورية في أي وقت، والعمل على منع تشكيل مقاومة سورية على حدود الجولان بإشراف إيراني ودعم من «حزب الله»، مع العلم أن الإعلان عن حصول نتانياهو على ضمانات وتطمينات لا يبدد هذه المخاوف.

من هنا، يكثر الحديث عن محاذير الوقوع الروسي في مستنقع الحرب السورية إن لم يجر التنسيق بين كل الأطراف الفاعلة في الساحة، وبينها قوى المعارضة لأن أي خطأ سيؤدي إلى مواجهة معها من طائرات التحالف أو الطائرات التركية والإسرائيلية أو القوات المقاتلة على الأرض، وبينها «داعش».

في انتظار اتضاح الردود على هذه التساؤلات، تبقى المنطقة متأرجحة بين الأمن والسلام، لتشمل اليمن وليبيا مع سورية والعراق وبينهما لبنان العالق بين تقاطعات الحروب. ويزداد القلق من شكل الخريطة الجديدة التي يجري رسمها هذه الأيام ويجري تقاسم النفوذ فيها بعد دفن خرائط «سايكس – بيكو» وملحقاتها. وكل ذلك يفسر معنى عبارة «الطبخة استوت» تمهيداً لصفقة شاملة لن  تكون بنودها بعد الدخول الروسي العلني واحتمال إرسال قوات برية إلى سورية، كما كانت قبلها، وفق مصالح الكبار ليكون العرب الكرام شهود زور على مائدة اللئام، إن بالنسبة إلى مختلف الأوضاع، أو بالنسبة إلى مصارعة إسرائيل أو استغلال الوقت للتصعيد في القدس والجولان.

ويبقى هاجس متداول يتعلق بسيناريو التنفيذ وما إذا كان سيجري بيسر وسلام، أم أنه سيسبقه تصعيد عسكري وأمني وسياسي وتأجيج نار الفتن لتبرير فرض الحلول بالقوة، وهو احتمال مرجح ليشمل المنطقة بأسرها ومن ضمنها لبنان. وما يهم العرب ألا تدور كل الدوائر عليهم لحملهم عَلى تجرع كؤوس سم المطامع الأجنبية والإقليمية والإسرائيلية، وهو كأس التقسيم على أسس طائفية ومذهبية وعرقية. ذلك هو الويل القاتل والخطر الداهم والسؤال المفصلي: نكون أو لا نكون؟ تلك هي المسألة، وهذا هو المصير!