إيلان غرافيتي الطفولة المعذبة على شرشف البحر

د. قصي الحسين 

حين خطفه موج النـزوح من كوباني وأودعه لموج اللجوء في البحر، لم يتسن لابن السنوات الثلاث الطفل الغريق إيلان الكردي، أن يحمل معه طبشوره وأقلامه وسبورته، أو بخاخه وأقلام الماركر والألوان الصارخة والخرطوم Nozzel وجميع أدواته التعبيرية، التي كان يخربش بها لعنة كوباني البائسة على جدرانها المهشمة وحقولها المهشمة ومدارسها المهشمة وطرقها المهشمة وملاعب الطفولة المهشمة. كان فقط قد حمل بين ثيابه ورود الجزيرة الفراتية وأزهارها وألوانها وفقش أمواج الفرات والخابور وآذيه الموسمي في أوائل فصل الشتاء وأواخر فصل الربيع وهو يهدر باتجاه دجلة العرب.

وجد الطفل ايلان الكردي ابن الثلاث سنوات نفسه فجأة بين موج النـزوج من كوباني. نسي دفاتره المدرسية المحروقة من أطرافها وحقيبته المحروقة من أطرافها ومدينته المحروقة من أطرافها وشعبه المحروق من أطرافه ورفاقه وأترابه وأعمامه وأخواله وأرضه ووطنه. حمله موج النـزوح دون أن يدري ليودعه موج اللجوء في البحر على حين غرة.

كان الطفل الصغير ايلان الكردي يسمع عن طفلة لاجئة مثله تنجح في التسلل من تحت الشريط الشائك وهي تعبر من صربيا إلى منطقة روزكي في هنغاريا. وقد خلدت بطولتها بصورة فوتوغرافية بعدسة دار كوبانديك ووزعتها وكالة أسوشيتدبرس في 30/8/2015.

وكان يسمع أيضاً عن طفل مهاجر يتشبث بقارورة ماء، سائراً ليستقل قطاراً متوجهاً إلى صربيا، حيث يحتشد موج اللجوء عند نقطة حدودية محاذية لليونان، بالقرب من بلدة جفجيليغا، جنوب مقدونية بصورة بوريس غدانوسكي ووزعتها الوكالة نفسها أيضاً بتاريخ 30/8/2015.

وكان يسمع الطفل ايلان عن طفلة مهاجرة مثله تشق دربها الطويل، وهي تسير وسط سكة الحديد، حاجبة وجهها بيديها، خارج قرية هورغوس في صربيا. وكان أهلها كما أهل ايلان يأملون العبور إلى هنغاريا والصورة بعدسة ماركو دجوريكا ووزعتها وكالة رويترز 31/9/2015. كذلك كان يرى ضجيج الشاشات والإذاعات وهي تتحدث عن أمواج اللاجئين السوريين وآخرين مثلهم من جنسيات أخرى، يتكدسون بعضهم فوق بعض، نياماً وجلوساً في أروقة القطارات والمحطات في رحلة آلام النـزوح واللجوء من مقدونيا إلى الحدود الصربية، كما خلدتها عدسة أريس ماسينيس ووزعتها وكالة الصحافة الفرنسية في 30/8/2015.

ايلان

وربما رأى أو سمع أيضاً عن عائلة من اللاجئين، تحتل مقعدين في قطار ينطلق من محطة بودابست – هنغاريا متوجهاً إلى النمسا، وقد بدت الابتسامة على وجوه الأطفال الثلاثة وأبويهم، بعد أن أصبح عناء الرحلة الشاقة وراءهم. والصورة بعدسة لازلو بالوغ ووزعتها رويترز 31/8/2015.

وربما قالوا له إن أمواج اللجوء والنـزوح والهجرة، حين يتعب شبانه ويهدهم الإرهاق، يستسلمون للنوم على مقاعد حدائق بلغراد في صربيا، بعدما احترقت حدائق كوباني وأغلقت أبوابها أمام أطفالها. والصورة خلدتها عجسة ماركو دوبجاكوفيتش ووزعتها أسوشيتدبرس 31/8/2015 فقرر – ربما – أن يجسد تلك الصورة على طريقته الخاصة.

عصفت كوباني بطفلها ايلان فجأة. أتت موجة نازحين وحملته إلى حيث مجمع أمواج النازحين، وضمته اليهم في غفلة الطفولة المسهدة، وقذفت به في عمق اليم، حيث يحتشد موج اللجوء فوق بعضه البعض، في قوارب القراصنة وهواة الدماء وبائعي الأسماك وكارهي الأوطان والحاقدين والمستبدين والمتعطشين إلى السلب والنهب والثراء الفاحش والقذر. وهو يحلم بحلوى كوباني وملاعب كوباني ونوافذ كوباني ودروب وأزقة وزوايا كوباني، تلك البلدة الكردية العربية السورية، النائمة على كتف الفرات. وكل ماء عذب هو فرات، كما كان قد تعلم في المدرسة العربية.

كانت طفولة ايلان الكردي تحتشد بأحقاد المستبدين وأحقاد الحاقدين، وآلام المعذبين والمقهورين والمطاردين والمسجونين، والباحثين عن رغيف الخبز، والعاثرين في المقابر الجماعية والمدافن العشوائية والحفر الممتلئة بالرؤوس المقطوعة والجثث المحروقة. والصواريخ المنفجرة والبراميل المتفجرة والسواتر الترابية السوداء والأسلاك المكهربة.

واستيقظت الطفولة الوادعة فجأة في الطفل ايلان الكردي، وهو في عمق اليم، يلوح بيديه الراعفتين للأمواج العاتية بمناديل الطفولة ومناديل الحب ومناديل السلام، ومناديل التضامن الوطني والعربي والعالمي يستصرخ الضمائر. ويستهجن الكبائر ويستطلع البشائر. وقرر فجأة أن يفعل شيئاً ما أن ينادي على شيء ما. أن يعبر عن شيء ما.

كأن الخلق جميعاً نيامٌ، وايلان الكردي وحده يقظة البر ويقظة البحر ويقظة الموج. ونادى على موجة عاتية، فلبت نداءه وحملته إلى الساحل ونزل هناك. أنس بشرشف البحر وهو يلامس طرف الشاطئ الذي يصل كوباني، بعواصم العالم ومراكز القرار وموانئ الأساطيل والمطارات العسكرية وأندية حقوق الإنسان وحقوق الطفل وأروقة الأمم المتحدة وأروقة مجلس الأمن.

وهناك على شرشف البحر أراد أن يبعث برسالته رسالة الطفولة المعذبة والمجتمع المعذب والشعوب المعذبة، أراد أن يبعث – نفسه بنفسه – رسالة الأطفال المعذبين إلى الضمير العالمي. فمد يده إلى شرشف البحر وسحب أطرافه بأطراف طفولته وبنانها الناعم الغض الطري واستلقى عليه، ببدنه الوردي ليجسد غرافيتي الطفولة السورية المعذبة.

ترك ايلان بدنه الوردي بثيابه وقفطانه وحذائه نقشاً لغرافيتي طفولة ضاعت في البحر وذهب إلى نومه يحلم بملاعب طفولته المهشمة في كوباني.

اقرأ أيضاً بقلم د. قصي الحسين 

كمال جنبلاط البيئي وإلتقاط البرهة!

مجتمع البستنة

الدكتور اسكندر بشير التجربة والرؤيا الإدارية

 ساق الحرب

جائزة إدلب

جميل ملاعب والقدس: تأبيد الرؤيويات البصرية

جسر السلام: ثوابت كمال جنبلاط الفلسطينية التاريخيّة

القتل السري عن كمال جنبلاط والقتل السياسي

حين السياسة بمفعول رجعي

ترامب والتربح من الصفقات

عن النظام يأكل أبناءه الفوعة وكفريا نموذجاً

مصطفى فروخ وطريقه إلى الفن

 الرئيس القوي

 د. حسين كنعان وأركيولوجيا القيافة والثقافة والسياسة

 ضياء تلك الأيام

 عن كمال جنبلاط والفرح بالعمل

 تتجير السلطة

تيمور جنبلاط بصحبة والده في السعودية زيارة تاريخية إحيائية

 كوفية تيمور ومليونية القدس وجه آخر للاضطهاد والإحتلال

تجديد “نسب الخيل لابن الكلبي” ونسخ لمخطوطاته التراثية الثلاث