لا تغيير في سورية

خلال الشهرين الماضيين، أفضت الزيادة الملحوظة في الاتصالات السياسية على مستوى كبار المسؤولين بين القوى الخارجية الرئيسة إلى ظهور تقديرات متفائلة نسبياً في شأن احتمال وجود فرصة دبلوماسية لإنهاء الصراع السوري. لكن سرعان ما تلاشت تلك التقديرات عندما أعرب وزير الخارجية الأميركي جون كيري، في الأسبوع الأول من أيلول (سبتمبر) الجاري، عن قلقه إزاء التقارير المتعلقة بزيادة المساعدة العسكرية الروسية لنظام الرئيس السوري بشار الأسد.

وتستمر التكهنات حول احتمال أن تكون روسيا وإيران تدعمان النظام بهدف تحسين موقعه التفاوضي والتوصّل إلى اتفاق يضمن شروطاً أفضل للأسد. ولكن حتى اذا كان ذلك صحيحاً، فإن الوعد الصريح الذي قطعه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 15 أيلول (سبتمبر) بمواصلة «الدعم العسكري-الفني» لسورية ومزاعم المعارضة السورية عن دور إيراني متزايد في إدارة قواعد حيوية في المجمع العسكري واللوجستي الرئيس للنظام إلى الشرق من مدينة حمص، تشير إلى أن روسيا وإيران تستعدان للأجل الطويل ولن تتراجعان عن شروطهما لعقد صفقة سياسية.

بالنسبة الى من يسعون الى رحيل الأسد، فإن تعليق الأمل بأن تكفي مقارباتهم واستثماراتهم السياسية والمادية القائمة لضمان الوصول إلى هذه النتيجة يبدو ساذجاً، إن لم يكن نوعاً من خداع الذات المتعمّد. إذ لا يبدو أن شيئاً قد تغيّر في أهداف واستراتيجيات النظام، وليس من المرجّح أن يتغير، حيث يظل البقاء هو هدفه المباشر. وعلى رغم أن النظام أُرغِم على وقف عملياته الهجومية والحدّ من أهدافه على معظم الجبهات، والقبول بنكسات خطيرة وانكماش كبير على بعضها الآخر، يبدو أن العناصر الرئيسة لاستراتيجيته لم تتغيّر.

تركّز التحليلات في شأن حظوظ النظام على البعد العسكري غالباً، وهي على صواب في تشخيص النقص بالعناصر البشرية المقاتلة بأنه نقطة ضعفه الأساسية. بيد أن ما يعادل ذلك في الأهمية هو أن النظام ما زال يصرّ على الاحتفاظ بالسيطرة على المراكز الإدارية للمحافظات، والتي يستخدمها لدعم ادّعائه بأنه يمثّل كل سورية. ولا يقلّ أهمية عن ذلك أيضاً أن هذه المراكز هي وسيلة النظام الرئيسة للسيطرة على السكان، بما في ذلك في مناطق المعارضة، الذين يعتمدون على الحكومة في توفير الخدمات ومختلف الوثائق الرسمية اللازمة.

وعلى رغم خسارة كل محافظة إدلب تقريباً، بدءاً من سقوط مدينة إدلب في آذار (مارس) الماضي وانتهاء بمطار أبو الظهور الأسبوع الفائت، استطاع النظام التمسّك بالمراكز مهددة بالسقوط في محافظات أخرى. ولعلّ أبرز مثال على ذلك مدينة درعا في الجنوب، حيث اعترفت المعارضة المسلحة مؤخراً بفشل هجماتها المتتالية منذ حزيران (يونيو) للاستيلاء على الجزء الذي تسيطر عليه الحكومة من المدينة، ومدينة دير الزور في الشرق، حيث لا تزال حامية النظام المحاصرة تواجه قوات تنظيم الدولة الإسلامية. ولا يزال النظام يسيطر على السويداء، رغم تعاظم استياء المواطنين المحليين إزاء سياسات النظام عقب اغتيال الشيخ وحيد البلعوس يوم 5 أيلول الجاري، والذي كان قد شكّل ميليشيا درزية معارضة مؤخراً، في حين تبدّدت أيضاً توقّعات المعارضة السورية والجماعات المحلية المسلحة بالانهيار الوشيك للأجزاء التي تسيطر عليها الحكومة في حلب.

يواصل النظام كذلك دعم تأكيده لبعض مظاهر سيطرة الحكومة من خلال السعي للحفاظ على إمدادات المواد الغذائية والطاقة، وخصوصاً في المراكز الحضرية والمناطق الأخرى الموالية له. كما يواصل دفع المرتبات والمعاشات والمستحقات الأخرى لموظفي الدولة في معظم أنحاء البلاد، باعتبارها وسيلة للحفاظ على ادّعاء النظام بتمثيل جميع السوريين. يضاف إلى ذلك أن سياسة النظام في إسناد اقتصاد الكفاف (على طريقة «دَبِّر رأسك») إلى العناصر المحلية بهدف تخفيف العبء عن الوزارات المركزية أثقلت كاهل السكان إلى درجة شديدة، ولكنها لا تزال قائمة.

وكما هي الحال في المجال العسكري، فقد استمر وضع النظام في التدهور بموازاة انهيار الإنتاج الاقتصادي وقضم تنظيم الدولة الإسلامية لمصادر الطاقة الخاصة به، اللذين أدّيا إلى تقليص موارده المتاحة. غير أن تمويل حرب النظام، والذي يعتمد جزئياً على الاحتكارات الرئيسة في داخل البلد، لا يزال يُستكمَل بواسطة المساعدة الخارجية، وأحدثها خط الائتمان الجديد بقيمة مليار دولار الذي وافقت عليه إيران في تموز (يوليو) الماضي. وتساهم الإعانات المالية المباشرة وغير المباشرة والمساعدات الاقتصادية من إيران وروسيا بما يكفي للحفاظ على واردات الطاقة والغذاء، أو على الأقل إبطاء تراجعها. ويتّضح ذلك من خلال قيمة صرف الليرة سورية، التي ضعِفت بشدّة منذ أواخر العام 2014، ولكنها بقيت مستقرّة نسبياً عند حوالي 300 ليرة مقابل الدولار في أوائل أيلول 2015. وإذا ما صحّ أن روسيا وإيران تزيدان الدعم العسكري للنظام، فإن ذلك يعني حكماً أنهما قرّرتا أيضاً الإبقاء على المساعدات الاقتصادية والمالية عند مستوىً ثابت، لأن لا فائدة من الأمر الأول دون الثاني بموازاته لضمان بقاء النظام.

أثار اعتمـــاد النظام على الداعمين الخارجيين الرئيسيين تكهّنات بأنهما سيدفعان الأسد لقبول اتفاق من شأنه أن يحدّ من صلاحياته، ليس بالقدر الذي ورد في أحدث اقتراح للمبعوث الخاص للأمم المتحدة ستيفان دي ميستـــورا، والذي من شأنه أن يقلّل تلك الصلاحيات لتصبح شكلـــية إلى حدّ بعيد، لكنها كافية لتغيير ديناميات النزاع في سورية. وبالتالي فإن النظام يواجه مرحلة حرجة، حيث إن اعتـــماده على روسيا وإيران قد يمنحهما نفوذاً سياسياً أكبر مما يريد. ولكي يواجه أو يجهض هذا الاحتمال، يجب على النظام تحقيق نتائج أفضل على أرض المعركة.

ويشير وصول المعدّات الروسية الجديدة إلى أن الجيش السوري لا يزال قادراً على تدريب الضباط وضباط الصف والطواقم الفنية لاستخدام تلك المعدّات وإدخالها في نمط قتاله. وعلى رغم عمليات الفرار والتهرّب الواسعة من التجنيد الإلزامي، والتي أرغمت الأسد على الاعتراف بنقص القوة البشرية القتالية في تموز (يوليو)، كان الجيش يحتفظ بـ 70 ألف مجند في صفوفه في أواخر العام 2014، وفقاً لتقديرات المرصد السوري لحقوق الإنسان. وحتى لو حصل الجيش في شكل متواصل على 10 في المئة فقط من المجندين مقارنة بالمعدّل السنوي لمرحلة ما قبل الأزمة، فإن ذلك يعني ضم 25 ألف مجنّد إلى صفوفه كل سنة، وهو ما لا يكفي لتعويض الخسائر القتالية، لكنه يكفي لكسب الوقت.

لا يجعل كل ذلك استراتيجية النظام ناجحة. ولكنها تأتي على خلفية إقليمية قد تعطي النظام أملاً بسيطاً بأن الضغوط الخارجية عليه ستخفّ. فالتصعيد التركي ضد حزب العمال الكردستاني يعقد سياسة أنقرة الداخلية وربما يحدّ من قدرتها على إقناع الولايات المتحدة بالانضمام إليها في العمل ضد نظام الأسد. وبالمثل فإن تدخّل مجلس التعاون الخليجي في اليمن قد يضع قيوداً على قدرة الدول الأعضاء على الاستثمار في شكل أكبر في سورية. وفي موازاة ذلك، فإن الحملة العسكرية التي تشنّها حكومة بغداد ضدّ تنظيم الدولة الإسلامية في العراق لم تتطوّر إلى الآن لتصبح هجوماً مضاداً شاملاً ذا مغزى، ما يضمن أن محاربة تنظيم الدولة الإسلامية لا تزال الأولوية الأكثر إلحاحاً بالنسبة الى الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين.

ما زال نظام الأسد يتمسّك بالبقاء، بأظافره. ودلّت المكاسب المهمة التي حقّقها جيش الإسلام وجماعات مسلحة أخرى في جوار دمشق في منتصف أيلول على مدى انكشاف النظام، لكن لا يبدو أن النظام أو القوّتين الخارجيّتين الداعمتين له يعيدون تقييم أهدافهم أو استراتيجيتهم الشاملة. ولعلهم يعتقدون أن بإمكانهم تجنُّب ذلك. ولكن السؤال هو ما إذا كان خصومهم سيعيدون تقييم استراتيجيتهم، ويظهرون أخيراً مستوى الإرادة السياسية والالتزام المادي اللازم لكسر ديناميكية الصراع المدمّر في سورية. فيمكنهم ذلك، بدءاً باتخاذ خطوات ملموسة لفرض وقف استخدام البراميل المتفجرة والهجمات بالأسلحة الكيماوية والاستهداف المتعمّد للمدنيين في سورية، ما من شأنه فرض إعادة تقييم الموقف الاستراتيجي على روسيا وإيران، من دون نظام الأسد.

—————————

(*) مركز كارنيغي للشرق الاوسط