أوروبا بحاجة إلى «مشروع مركل» لمواجهة قضية الهجرة

رغيد الصلح (الحياة)

تحتل قضية الهجرة إلى أوروبا من البلدان المجاورة الحجم الأكبر من اهتمام أصحاب القرار والرأي في دول القارة والاتحاد الأوروبي. فهذه القضية هي موضوع مناقشات واسعة في المؤسسات الرسمية، وهي المادة الرئيسية في الاجتماعات المتوالية التي يعقدها وزراء الاتحاد الأوروبي المعنيون بقضايا الهجرة ومضاعفاتها. كذلك فإنها الموضوع الطاغي على سائر المواضيع الأخرى في أجهزة الإعلام الأوروبية الرئيسية. ويتناقل الأوروبيون بقلق ملحوظ أرقام الهجرة المتفاقمة الصادرة عن الأمم المتحدة حيث وصل إلى اليونان وإيطاليا وحدهما هذا العام حوالى 300 ألف من المهاجرين. فضلاً عن ذلك، استلمت ألمانيا وحدها أيضاً خلال النصف الأول من العالم الحالي، بحسب البيانات الرسمية 179 ألف طلب لجوء سياسي. بذلك تشهد أوروبا، كما يقول أحد الخبراء المعنيين بالهجرة أكبر موجة من الهجرة البشرية من خارج القارة. وتتحول هذه الأرقام إلى كوابيس لدى البعض إذ تقترن ببعض أعمال العنف التي يقوم بها مهاجرون أو متطرفون ضد المهاجرين. لقد بلغ هذا النوع الأخير من الاعتداءات خلال الأشهر الأخيرة 202 ضد مراكز إقامة المهاجرين وعملهم.

تسعى الدول الأوروبية الى مواجهة هذه القضية بالاستناد الى مبادئ يتضمنها «اتفاق دبلن» الذي وقّع عليه عدد من دول الاتحاد الأوروبي عام 1997، والأسس التي رسمها الاتحاد لسياسته إزاء دول الجوار، والقوانين والدساتير المرعية في دول الاتحاد. استرشاداً بهذه الوثائق، برزت في مناقشة قضية المهاجرين المقترحات الرئيسية التالية:

أولاً: تحصين «القلعة الأوروبية». وتنطلق هذه السياسة من اعتبار الهجرة إلى أوروبا من خارجها خطراً رئيسياً على القارة، أو بالأصح الخطر الأكبر عليها كما تتصوره أحزاب اليمين المتطرف. وتدعو هذه الأحزاب، مثل حزب «الحرية» في النمسا، و «الجبهة الوطنية» في فرنسا، الحكومات في الدول التي تنتمي إليها إلى التخلي عن القوانين والإجراءات التي تسهل دخول دول القارة أو حتى التنقل بينها. في هذا السياق تدعو أحزاب اليمين المتطرف الى رفع عدد وعدة قوات الأمن التي تقوم بحراسة الحدود وتخصيص المزيد من الأموال لاقتناء أجهزة الرقابة وتطوير أدواتها وتقنيتها، وإحكام الرقابة على المعابر البحرية والبرية بين الدول.

يقترن مشروع «القلعة الأوروبية» بحملات إعلامية واسعة تقوم بها أحزاب اليمين المتطرف ضد «تعريب» أوروبا و «أسلمتها». ولهذه الحملات نتائج سلبية كثيرة تصيب المهاجرين العرب، وتؤثر بالضرورة بصورة مباشرة أو غير مباشرة على أحوال أولئك المهاجرين الذين يصل عددهم إلى الملايين، وكذلك على العلاقات العربية- الأوروبية. ويزيد من هذه النتائج أن حملات التخويف ضد العرب باتت تؤثر على قطاع مهم من الرأي العام الأوروبي غير معادٍ أصلاً للعرب ولكنه حريص على أمن بلاده واستقرارها. ويزداد تأثر هذا القطاع من المواطنين الأوروبيين عند المقارنة بين الاهتمام الكبير بمسألة المهاجرين في أوروبا والتجاهل الذي تلقاه هذه المسألة في الدول العربية مع أنها بأي معيار قضية أوروبية- عربية.

يعاني هذا المشروع من ثغرات عديدة من أهمها أنه يتعارض أساساً مع المشروع الأوروبي والاتفاقيات التي عقدت في إطاره مثل «اتفاق شنغن» حول حرية التنقل بين الدول الموقعة عليه. لذلك فإنه بينما يكتسب بعض التأييد من معارضي هذا المشروع، فانه يحوله الى مشروع مرفوض من نسبة مرتفعة من مؤيدي الاتحاد الأوروبي من الذين يلمسون فوائده الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. ثم إن هذا المشروع قد يردع بعض المهاجرين الذين يدركون أهمية الصعوبات التي تمنع تسلل المهاجرين إلى القارة، ولكنه لن يحول دون استمرار الهجرة. فلقد ثبت أن العدد الأكبر من المهاجرين على استعداد لقبول شتى أنواع الأخطار من أجل الوصول الى بلاد الهجرة. وسوف تستغل هذا الاستعداد عصابات التهريب، ولكن بعد رفع أسعارها ونسبة الأرباح التي تجنيها من وراء استمرارها في تهريب المهاجرين. بذلك يفتح النهج الأمني البحت في معالجة قضية الهجرة الباب أمام ازدهار نمط خطر من أنماط الجريمة المنظمة في دول القارة.

ثانياً: نظام الكوتا الإلزامية. وقد اتفقت بعض دول الاتحاد على هذا الترتيب خلال شهر حزيران (يونيو) الفائت. فوفق نظام الكوتا، كان من المفروض أن تتحمل الدول الأوروبية نصيبها من المهاجرين بحيث تتوزع الأعباء على هذه الدول بصورة عادلة ومنصفة. فضلاً عن ذلك، وسيراً على طريق توزيع الأعباء، فقد اقترح بعض الاختصاصيين من مركز أوكسفورد للمهاجرين، تقديم المزيد من الدعم إلى الدول التي تستقبل مئات الآلاف من المهاجرين رغم حجمها الصغير وإمكاناتها القليلة، مثل لبنان والأردن. وكان من مسوغات هذا الاقتراح أن تمكين هذه الدول، عبر المساعدات الجزيلة، سوف يحولها إلى دول/ حواجز تحد من تدفق المهاجرين إلى أوروبا، وإلى مقر إقامة موقت، بحيث يعود المهاجر الى بلاده القريبة (سورية والعراق) في حال توقف الحرب فيها، وذلك خلافاً للمهاجر إلى بلاد بعيدة وذات مناخات اجتماعية واقتصادية وسياسية تسوغ له الاستقرار فيها.

الثغرة الأولى في هذا المشروع كمنت في شيطان التفاصيل. فقد وافقت دول المشروع على الكوتا ولكنها اختلفت عندما بدأ البحث في توزيع المهاجرين على الدول. فلقد حاولت كل دولة وافقت على هذه الصيغة تخفيض عدد المهاجرين إلى أراضيها وزيادته بالتالي إلى أراضي الغير. أما الثغرة الثانية، فقد أشار إليها بعض المعنيين في لبنان الأردن والدول التي يمكن أن تتحول الى مقر موقت للاجئين. فهذا التدبير الذي يشمل ما يقارب المليونين من المهاجرين، يتطلب هندسة سياسية واجتماعية واسعة وترتيبات لا تقتصر على هذين البلدين وحدهما، بل تطاول بعض بلدان المنطقة الأخرى أيضاً وهذا ما حد من الاهتمام بموضوع الكوتا.

الواضح في هذه المشاريع كافة، كما قالت صحيفة «نيويورك تايمز الدولية» إن ما من بلد أوروبي قادر على الاضطلاع بحل هذه القضية وحده». (17/08/2015) فمن هي الدول التي يصح أن تبحث وأن تتعاون معاً من أجل إيجاد الحلول الناجحة لقضية اللاجئين والمهاجرين؟ من البديهي أن تتحمل الدول التي تعاني من المعضلة الجزء الأكبر من المسؤولية في حلها. وهذا التوصيف ينطبق على الدول الأوروبية والعربية. وتقف المجموعتان اليوم أمام مصير مشترك يشبه إلى حد بعيد المصير المشترك الذي جمع أوروبا والولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية. ففي نهاية الحرب جمع هؤلاء الخوف من الجيش الأحمر ووصول الأحزاب الشيوعية إلى الحكم في القارة الأوروبية.

هناك اليوم شيء مشترك بين الدول الأوروبية والدول العربية، ألا وهو التخوف من نتائج الأوضاع المضطربة في المنطقة العربية. إزاء هذه الأوضاع، فإن الدول الأوروبية سوف تخدم نفسها وشعوبها، كما تخدم المنطقة العربية والمجتمع الدولي، إذا قررت دعم مساعي التعاون الإقليمي بين الدول العربية. إن تقديم دعم حقيقي في هذا المضمار يساعد على تنمية تنقل اليد العاملة العربية بين بلدان المنطقة بحيث توفر على أوروبا تلقي الآثار السلبية للهجرة وللمهاجرين. إنه يسقط العديد من المبررات التي تدفع بعض الأوروبيين الى بناء القلاع والحصون والأسوار والجدران التي تسبب مرض الكلوستروفوبيا للشعوب المنفتحة. كما أن مشروعاً من هذا النوع يحول كوتا المهاجرين العرب من عبء تتهرب الدول الأوروبية من تحمله إلى مكسب تتنافس للحصول عليه. لقد تحدثت أنغيلا مركل، المستشارة الألمانية، إلى المهاجرين وإلى الألمان بلهجة دلت على نظرتها الصائبة إلى قضية الهجرة، فهل تطلق «مشروع مركل» فتؤكد أنها تملك نظرة مماثلة تجاه العلاقات الأوروبية-العربية؟

اقرأ أيضاً بقلم رغيد الصلح (الحياة)

قبل أن تنجح مشاريع ترحيل الجامعة العربية

سباق السلام والإعمار في المنطقة العربية

ترامب عنصري مثل هتلر تجاه الشعوب والدول الأخرى

الاقتراع الإلزامي واللبننة الجديدة

«الديكتاتور العادل» وأزمة الحكم في العالم العربي

تركيا بين النظام الرئاسي والديموقراطية

قمة الأطلسي وانتقاء العدو المناسب

الحلف الهندي مع إسرائيل والشراكة مع إيران

أوروبا والعرب … إذا حكمها اليمين المتطرف

العلاقات الروسية – الإسرائيلية إلى أين؟

تحسُّن طفيف ولكن مشجّع في الجسم العربي

هل هناك حاجة الى قمم عربية دورية؟

الاتحاد الأوروبي باقٍ

ورقة الصين العربية والفرص الضائعة

العروبيون اللبنانيون والعلاقات مع سورية

«إعادة التمحور» بين الشرقين الأدنى والأقصى

التعددية في لبنان تجربة مهمة للعرب

إرهاب ضد العرب في أوروبا

الحاجة إلى استراتيجية موحدة ضد الإرهاب

أخطار الحرب العالمية الثالثة بسبب الأزمة السورية