إلى متى يمكن أن يصمد الحكم في لبنان؟

عزت صافي (الحياة)

لو لم يقع الرئيس السابق أمين الجميل في خطأ تشكيله حكومة عسكرية برئاسة العماد ميشال عون قبل مغادرته القصر الجمهوري عام 1988 لما كان لبنان في أزمته الحالية. سامح الله الرئيس الجميل.

مع ذلك فإن أزمة الرئاسة الحالية ليست طارئة ولا هي استثنائية. لكنها هذه المرة أخطر من كل ما سبقها منذ بداية الاستقلال، وحتى ما قبله، بل منذ تاريخ تأسيس الكيان اللبناني.

من حيثيات قيام الكيان اللبناني أن دول أوروبا، وفي مقدمها فرنسا، هي التي أصرت على منح الطائفة المارونية منصب رئاسة الجمهورية، ولم يعترض الزعماء اللبنانيون من الطوائف الإسلامية ومن سائر الطوائف المسيحية.

وقبيل بدء الأزمة الراهنة نشرت البطريركية المارونية مذكرتها الوطنية في الخامس من شباط (فبراير) 2014 وكان عنوانها «العيش المشترك هو لب التجربة اللبنانية». وتضمنت المذكرة إشارة إلى أن البطريرك إلياس الحويّك ذهب إلى المؤتمر الدولي الذي عُقد في «فرساي» عام 1919 وقدم إليه باسم جميع اللبنانيين مشروع «لبنان الكبير» ثم توجّه إلى رئيس حكومة فرنسا مخاطباً: «نحمل إليكم تجربة هي الأولى في الشرق التي تُحل الوطنية السياسية محل الوطنية الدينية».

كان على اللبنانيين آنذاك أن ينتظروا أكثر من ربع قرن حتى تعترف فرنسا باستقلالهم وتخرج منه. ومنذ ذلك التاريخ واللبنانيون يتعلمون الديموقراطية الفرنسية لبناء دولتهم المستقلة، لكنهم فشلوا، وها أنهم بعد 72 عاماً من الاستقلال يجدون أنفسهم في جمهورية لها اسم، وليس لها رئيس، ولا ديموقراطية، ولا مجلس نواب، ولا انتخابات، ولا ضمانات من قريب أو بعيد.

وفي هذا الوقت تتردّد في المجالس السياسية والشعبية عناوين مشاريع حلول. وبصراحة يُقال أن لا حلّ لأزمة لبنان إلا بالنظام الفيديرالي، أو بالتقسيم، وكأن لبنان مجموعة قوميات متعادية على أرض وطن شاسع المساحات، متعدّد الثروات.

رئاسة الجمهورية الآن أمام معبر مسدود، وليس في الأفق السياسي الداخلي والإقليمي، والدولي، ما يبشّر بإمكانية فتح ذلك المعبر للدخول إلى جلسة انتخاب.

وإذا كان هذا الواقع خطيراً فإن الأخطر منه هو عدم الاكتراث الذي يسود نصف الطبقة النيابية الناخبة، ومن ضمنها، بل في واجهتها، قطب ماروني من أصحاب الحق (الدستوري) بالمنصب، هو الجنرال ميشال عون رئيس أكبر كتلة نيابية مارونية في المجلس، ومعه نواب آخرون من طوائف ومذاهب أخرى. أي أنه يحظى بشرط «الشراكة الوطنية» ليكون رئيساً.

لكن هذا الشرط الذي يلزم الجنرال بالتّوجه إلى مجلس النواب لانتخابه بالأكثرية العددية الدستورية وتقليده وشاح الوطن مرفوض من جانبه كما هو معروف ومكرر في كل مناسبة، وشرط الجنرال الدائم أن يعلن الأقطاب الموارنة الآخرون من أصحاب الحق بالترشح مسبقاً أنهم يؤيدونه، ثم يبصمون على وثيقة انتخابه قبل فتح باب مجلس النواب.

هذه بدعة لا مثيل لها، لا في انتخابات الأنظمة البرلمانية، ولا الأنظمة الديكتاتورية. فالجنرال يعلن على الملأ: أنا أو… لا رئيس. أي أنه يشترط انتخابه على المعبر أولاً ثم الدخول إلى قاعة المجلس لتنصيبه رئيساً. والواقع أنه نال مسبقاً وعلناً أصوات كتلة نواب «حزب الله» بلسان الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله: «الجنرال عون هو المعبر إلى مجلس النواب»

هذه التفاصيل هي مجرّد إطار واضح ومكشوف أمام اللبنانيين وسواهم من المراجع العربية والدولية التي لا تزال تعير المسألة اللبنانية بعض الاهتمام، لكن اللبنانيين باتوا في ضياع ولم يعد يعنيهم من يكون رئيس الجمهورية. بل كل طموحاتهم تُختصر برفع النفايات من أمام أبوابهم، وتأمين الكهرباء لمنازلهم المعتمة في زمن الظلم والظلمة، وفي أعماقهم صرخة: يا ظالمني… والظالم يعرف نفسه.

ذهب الحلم اللبناني الكبير في عاصفة الفساد والإهدار بالبلايين من الدولارات التي كان نصفها يكفي لجعل لبنان «جنة الشرق الأوسط»، ولكان عاد إلى زمن الاستقلال الأول حين كان هناك شعب يلبّي النداء للنزول إلى الشوارع والساحات العامة في بيروت وسائر المناطق، ولا تزال أحداث نهاية العقد الأول من عهد الاستقلال تشهد بأن الشعب اللبناني سبق كل شعوب العالم العربي والشرق الأوسط بفرض إرادته على حكامه فأجبر رئيس الجمهورية على الاستقالة وانتخاب رئيس جديد. حدث ذلك في ثلاثة أيام فقط من 15 إلى 18 أيلول (سبتمبر) 1952 حين تقاطرت كل أطياف الشعب إلى ساحات بيروت وشوارعها مطالبة باستقالة الرئيس الاستقلالي الأول الشيخ بشارة الخوري.

تلك الأعجوبة الديموقراطية تحققت بفضل سبعة نواب معارضين من أصل 77 نائباً كانوا يشكلون الأكثرية الساحقة إلى جانب الرئيس. وكانت التهمة التي استند إليها الشعب اللبناني في الثورة على الحكم هي «الفساد». وكان الفساد عبارة عن صفقات تتراوح بين مئة وخمسمئة ليرة لبنانية حسب عملة ذلك الزمن. ولم تكن الدولة اللبنانية مديونة لأي بنك أو جهة دولية. بل كان فائض الاحتياط يشكل ضماناً وإمكانات للتقدم والازدهار. كانت بيروت إحدى أشهر العواصم العالمية بالسياحة والآثار، والفنون، والثقافة، والأمن، والإبداع.

فكيف حال بيروت اليوم؟ كيف حال مناطق الشمال والبقاع وجبل لبنان، والجنوب؟ ماذا عن بعلبك، وصور، وصيدا، وطرابلس، وجبيل، وزحلة، والأرز؟ ماذا عن البحر، والسواحل، وقمم جبال الثلج؟

شطر كبير من اللبنانيين كثير الحزن إلى حدّ اليأس ولا يخفّف من الوطأة سوى الأمل بأن هذه الحال لن تدوم.

لم يتراجع دور لبنان السياسي والوطني كما يتراجع منذ العام 1967 على الأقل. لقد كانت نكبة العرب الثانية على لبنان أشدّ منها على أي دولة عربية أخرى. فالوطن الصغير كان عليه أن يتحمل العبء الأكبر من نتائج الهزيمة الثانية بعد نكبة فلسطين الأولى عام 1948. ثم جاءت كارثة أيلول الأسود 1970 وبعدها كارثة حرب 1973، وصولاً إلى الكارثة اللبنانية الداخلية من 1975 إلى 1989، ولم تنته فصولها بعد. بل إن الكيان الصغير الضعيف يهتز ويصمد، ولكن إلى متى؟

«حزب الله» يطمئن اللبنانيين بأن الوطن في أمان من شرّ إسرائيل. وهذا التطمين صادق ومستند إلى قوة وعقيدة وإيمان، ولكن ماذا عن حياة اللبنانيين؟ عن حاضرهم، وعن مستقبلهم؟ ماذا عن أجيالهم التي تتوالد وتتصاعد وتملأ المدن والأرياف، ولا وظيفة، ولا عمل، ولا مورد رزق، ولا طمأنينة سوى للفئات المسلحة والمكفولة، أما الفئات الأخرى من الشعب فهي في حال فقر وعوز، وقلق، واضطراب.

لا ضرورة للإشارة إلى «الطبقة العليا» من الأثرياء حديثي النعمة في الاستثمار السياسي والشعبي، وسواهم من أرباب الصفقات السرية والعلنية التي راكمت عجزاً مالياً على خزينة الدولة وقد بات يقارب السبعين بليون دولار كما يشاع في عالم الأرقام؟

إذا كانت هناك «وحدة وطنية» فعلاً في لبنان فهي وحدة هؤلاء الذين نهبوا الدولة ومقدراتها وباتوا شركاء في تقرير مصير الوطن.

وليس من ينكر أن كل طائفة لبنانية باتت تتحسس مواقع أقدامها ومدى مساحتها وأبعادها.

في الماضي البعيد كان اللبناني إذا ضاقت في وجهه سبل العمل والعيش الكريم يطرق باب أي سفارة عربية أو أجنبية فيحصل على تأشيرة إلى أي دولة أو جهة. اليوم شبابيك التأشيرة العربية الخليجية والأوروبية والأميركية لا تُفتح إلا بشروط صعبة على تسعين في المئة من اللبنانيين.

وفي حين يغادر المئات من أصحاب الحظوظ إلى الخارج تتقاطر مئات آلاف النازحين من سورية على لبنان فتنضم إلى مئات آلاف أخرى سبقتهم، والأبواب مفتوحة، والمسؤولية ضائعة.

مع ذلك يبقى الجيش الضمانة. ليس في هذه المرحلة فقط، بل في كل ظرف وهو الذي تسلّم الراية الأولى للاستقلال، وهو المؤتمن عليها جيلاً بعد جيل. وإذا كانت السياسة الديموقراطية تجيز اختلاف المواقف والسبل بين رئيس وآخر، ووزير وآخر، فإن للجيش اللبناني عقيدة ثابتة هي: الولاء للبنان أولاً وأخيراً، وفي أي عهد وأي ظرف. ولعل الظرف الراهن الذي يواجهه الجيش اللبناني، وقيادته خصوصاً، لم تكن له سابقة في ما مضى، على رغم كل الأزمات التي مرّ فيها لبنان خلال العهود السابقة منذ مطلع الاستقلال.

ويتذكر الصحافيون اللبنانيون القدامى أيام كانوا يمثلون أمام المحكمة العسكرية بتهمة الإساءة إلى معنويات الجيش. ولم تكن التهمة من خارج المألوف. فمثلاً كان نشر صورة لشاحنة عسكرية انزلقت على الطريق واصطدمت بجدار يشكّل تأثيراً على معنويات الجيش فيحال الصحافي المسؤول على المحكمة العسكرية، وفي بعض الحالات تشمل الدعوى رئيس التحرير فيقف الجميع في قفص الاتهام.

من الأمثلة على ذلك محاكمة شهيرة شملت أكثر من عشرة صحافيين بينهم رؤساء تحرير وأصحاب امتيازات، وكان على رأسهم الصحافي الكبير الراحل غسان تويني. حدث ذلك في عهد الرئيس الأسبق الراحل سليمان فرنجية.

أما المخالفة وفق نص القانون العسكري القديم فكانت نشر خبر عن شراء لبنان بضعة صواريخ «كروتال» من دولة «زائير» الأفريقية. لم يكن الخبر كاذباً، ولم يكن من نوع جريمة كشف سر عسكري. فالخبر كان نقلاً عن وكالة الأنباء الفرنسية (أ ف ب) وكانت الوكالة قد نقلت الخبر عن صحيفة رسمية تصدر في «زائير». ومع ذلك حُكم على الصحافيين الموقوفين بالسجن ثلاثة أشهر.

وإذ سيطر الذهول يومها على الصحافيين المحبوسين في قفص الاتهام أجمعوا على تفويض الصحافي الراحل الكبير رئيس تحرير «النهار» غسان تويني الدفاع عنهم جميعاً وإعلان قرارهم أمام هيئة المحكمة، رافضين الخروج من القفص، طالبين الدخول إلى السجن مباشرة.

وخلال لحظات تلقى الرئيس سليمان فرنجية النبأ فبادر فوراً إلى حل المشكلة عن طريق مرجع عدلي، وكان الحل قضائياً، وقد تتطلّب الأمر بقاء الصحافيين في القفص بضع ساعات لإنجاز المحامين إجراءات تمييز الحكم، ثم عودة هيئة المحكمة العسكرية إلى عقد جلسة ثانية وإصدار حكم آخر أدى إلى مغادرة الصحافيين القفص.

ذلك نموذج لحرص أهل السياسة والإعلام والقضاء على صون حرمة الجيش وهيبته تحت سقف القانون والدستور زمن كان للبنان قانون ودستور يُحترم.

اقرأ أيضاً بقلم عزت صافي (الحياة)

العهد اللبناني «الجديد» لم يبدأ بعد

«حماس» × «فتح» = إسرائيل «فتح» + «حماس» = فلسطين

وثيقة برنامج رئاسي لبناني للاطلاع

جمهورية سوريّة ديموقراطية تولد في الخارج

لبنان «الطائف» على شبر ماء

فلسطين الثالثة في عالم عربي آخر

هـل أخطأ سعد الحريري؟

الديموقراطية على الطريقة اللبنانية

«حماس» ترمي نكبة غزة في ساحة رام الله والمهمة الأولى إعادة الإعمار

رؤساء الجمهورية اللبنانية وعلاقاتهم بفرنسا منذ الاستقلال

بوتين «القيصر» غير المتوّج على … سورية!

لبنان: لكل عاصمة وَفدٌ … و «دولة» وخطاب!

ما بين جمهورية ماكرون وجمهورية ديغول

هل بدأ ترسيم سورية «المفيدة لإسرائيل» ؟

صيف لبنان من دون عرب… ووعود السياسيين المتوارثة لا تتحقق

أي دور لإيران في المنطقة بعد تغيّـر كل شيء في سورية ؟

كمال جنبلاط مُستعاداً في مئويته

الجزائري حين يكون ناخباً فرنسياً

ترامب على أبواب القدس وعباس على باب البيت الأبيض!

سبعون سنة تحت الحكم العسكري: أي معجزة يمكن أن تنقذ سورية؟