تحديات السياسة الخارجية في أوروبا وأميركا

هنري كيسنجر (الحياة)

أرى أن النقاش الذي ينصب الواقعية في مواجهة المثالية مصطنع. وغالباً ما يقال إن ثمة مجموعة تلتزم القوة كعامل راجح في السياسات الدولية وأنها في مواجهة مع مجموعة مثاليين ترى أن قيم المجتمع هي الفيصل. ولكن رؤية أمثال جورج كينان ودين آشسون إلى الواقعية والمثالية لم تكن على هذا القدر من التبسيط. ويرى عدد من الواقعيين السياسيين أن تحليل الشؤون الخارجية يبدأ بتقويم عناصر وثيقة الصلة بالوضع. والقيم والمثل هي عامل بارز. والنقاش الفعلي هو حول سلم الأولويات والموازنة بينها.

أميركا وأوكرانيا

العلاقة بين أوكرانيا وروسيا لها مكانة خاصة في الوجـــدان الروسي. ولا يمكن أن تقتصر على علاقة تقليدية بين دولتين سيدتين. ولا يمكن جبه حوادث أوكرانيا من طريق صيغ حلول ومبادئ ثبت نجاحها في غرب أوروبا، وهـــي أبعد من أوكرانيا إلى ستالينغراد وموسكو. ويجب إدراج الأزمة الأوكرانية في هذا السياق حين تحليلها. ولا يعقل أن ينفق بوتين 60 بليون دولار فـــي عملية تحويل منتجع صيفي إلى قرية اولمبية شتوية من أجل أن يشن أزمة عسكرية في الأسبوع التالي، إثر حفل ختامي أظهر روسيا على أنها جزء من الحضارة الغربية. لذا، يبرز سؤال: كيف أمكن ذلك (اندلاع هذه الأزمة)؟

التقيـــتُ بوتين في نهاية تشرين الثاني (نوفمبر) 2013. ودار كلامه على عدد من المسائل. ولم تتصـــدر أوكــرانيا أولوياته بل تناولها في ختام الكلام على أنها مشكلة اقتصادية ستذللها روسيا من طريق التسعيرات الجمركية وأسعار النفط. والخطأ الأول- وهو لم يكن متعمداً- في الأزمة ارتكبه الاتحاد الأوروبي. فالأوروبيون لم يدركوا ما يترتب على شروطهم. ففي توازنات السياسة الداخلية الأوكرانية، تعذر على يانوكوفيتش القبول بالشروط الأوروبية وانتخابه من جديد. وتعذر كذلك أن ترى موسكو الشروط الأوروبية على أنها شروط اقتصادية فحسب. فرفض الرئيس الأوكراني الشروط الأوروبية. ذعر الأوروبيون، وغالى بوتين في الثقة بالنفس. ورأى أن الطريق المسدود في أوكرانيا هو فرصة عظيمة لبلوغ أهداف طويلة الأمد. فعرض على كييف 50 بليون دولار لاستمالتها إلى الاتحاد الاوراسي. وفي كل هذه الحوادث، كان دور الولايات المتحدة سلبياً، ولم تجر نقاشاً سياسياً مع أوروبا أو روسيا حول ما يجري. وكل طرف حسِب أن تصرفاته منطقية. ووراء الخطـــوات الأوروبية والروسية سوء فهم كبير. وانزلقت أوكرانيا إلى انتفاضة ميْدان أطاحـــت ما بناه بوتين طوال عشرة أعوام: انتزاع الإقرار (الأوكراني والأوروبي) بمكانة بلاده. ورأت مــوسكو أن الغرب يسعى إلى إخراج أوكرانيا مـــن الفـــلك الروسي. فبــدأ فلادمير بوتين يتصرف كما لـــو أنـــه القيصر الروسي نيقولا الأول (قبل قرن من الزمن).

دور ألمانيا القيادي

الألمان لا يسعون إلى توجيه دفة أوروبا، سواء في المسألة الأوكرانية أو اليونانية. وإثر سبعة عقود على إطاحة المشروع الألماني للهيمنة على أوروبا، يدعو اليوم المنتصرون في تلك الحرب ألمانيا إلى قيادة القارة الأوروبية. ودواعي هذه الدعوة اقتصادية. وألمانيا قادرة على لعب دور بارز في إرساء النظام الأوروبي والدولي، ويجب أن تؤدي هذا الدور. ولكنها ليست المفاوض النموذجي حول أمن أوروبا وحدودها تبعد مئتي ميلٍ من ستالينغراد. ولم تصغ الولايات المتحدة نهجاً يرمي إلى جبه هذه التحديات، واكتفت بحسبان أن روسيا ستنضم يوماً ما إلى المجتمع الدولي «أوتوماتيكياً (أي من تلقاء نفسها). ولا يستخف بالدور الألماني، ولكن الدور الأميركي في الديبلوماسية الأوكرانية حيوي لإدراج الأمور في سياقها الشامل. ويقتضي التعامل مع روسيا على أنها قوة عظمى المبادرة إلى جواب سؤال بارز: هل في الإمكان التوفيق بين طمأنتها وبين ضروراتنا؟ ويجب درس احتمالات إنشاء منطقة غير عسكرية في الأراضي الواقعة بين روسيا وحدود الناتو. ويتردد الغرب في التزام خطة إنعاش اقتصادي في اليونان. ولن يعتبر، طبعاً، أوكرانيا مشروعه الوحيد والحيوي. لذا، تبرز الحاجة إلى تقويم احتمال التعاون بين الغرب وروسيا في أوكرانيا غير منحازة عسكرياً. وتنحو الأزمة الأوكرانية إلى مأساة لأنها تخلط عدداً من المصالح الطويلة الأمد في النظام العالمي بالحاجة الماسة إلى بعث الهوية الأوكرانية. وأؤيد أوكرانيا مستقلة. وحين يقرأ المرء أن وحدات مسلمين تقاتل لحساب أوكرانيا، تتبدد القدرة على وزن أهمية الحوادث والقدرة على تقويمها. وهذه كارثة. ومعناها الوحيد هو أن هدف (الغرب) هو تفكيك أو كسر (شوكة) روسيا، في وقت يقتضي الهدف الطويل الأمد أن تدمج موسكو أكثر في النظام العالمي.

أميركا والحروب

المشكلة في أميركا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية هي الإخفاق في ربط الاستراتيجية (الخارجية) بما هو ممكن محلياً (داخلياً). وشنت أميركا الحروب الخمس التي خاضتها منذ الحرب الثانية بحماسة عظيمة. ولكن كفة «الصقور» لم ترجح في نهاية الأمر. وفي كل نزاع، صاروا أقلية في نهاية المطاف بعد أن كانوا وراء شن الحرب. وحري بنا ألا نشارك في نزاعات خارجية إذا لم يسعنا تحديد، منذ البداية، المآرب النهائية، وإذا لم نرغب في بذل ما يلزم لبلوغها.

والأمور على هذه الحال لأننا نرفض الاعتبار بالتجارب، ولأن ناساً لا يهتمون بالتاريخ ولا يقيمون له وزناً يبادرون إلى قرارات الحرب. واليوم، في المدارس الأميركية لا يدرس التاريخ على أنه تسلسل حوادث، بل على أنه مجموعة موضوعات من غير سياق.

ألمانيا وأوروبا

يرى بعض المجموعات في ألمانيا- وينضوي فيها من هم في سن دون الخمسين- أن بلدهم الذي توسل القوة ذات يوم إلى رسم وجه أوروبا يملك حق إعادة تشكيلها اليوم بواسطة مبادئ أخلاقية. وليس من العدل جر ألمانيا إلى مثل هذا الدور. ومن اليسير على دول جنوب أوروبا إلقاء لائمة ما يجري على ألمانيا عوض تحمل المسؤولية. ولكن ماذا ارتكبت ألمانيا في اليونان؟ ما هي خطيئتها؟ الألمان قالوا ان خطط إنقاذ اليونان تنفخ في اللامسؤولية. وهم يسعون إلى صوغ عملية إنعاش مسؤولة. ويرون ان التضخم المالي هو كابوس اختبروه مراراً. لذا، أتعاطف مع موقفهم. ولم تضطر ألمانيا يوماً منذ 1871 إلى إدارة نظام دولي. فبين 1871 و1890، أنجز بيسمارك ما يثير الإعجاب (هزم فرنسا ونظّم مؤتمر الوحدة الألمانية في فرساي الفرنسية، وعزل النمسا وأضعفها وقسم الحركة العمالية…). ولكن إنجازاته لم تكن مستدامة. ومنذ 1890 إلى نهاية الحرب الثانية، أي طوال حوالى قرن من الزمن، كان شاغل ألمانيا الإعداد لحروب أو شن حروب مع دول الجوار. وشاغلها هذا هو من بنات رؤيتها إلى العالم. وتفوق خبرة كل من بريطانيا وفرنسا خبرة ألمانيا في الديبلوماسية المتعددة القطب. وألمانيا متنازعة، وتجبه معضلات كبيرة. وتعاطفي كبير معها. ولا شك في أن في وسع ألمانيا المساهمة في الديبلوماسية المتعددة القطب، ولكنها تحتاج إلى دور أكبر في الإطار الدولي.