مصارحة مع الغرب … عن الإرهاب

عرفان نظام الدين (الحياة)

تزايدت التحذيرات أخيراً من أخطار الإرهاب والتنظيمات المتطرفة، وعلى رأسها «داعش»، وسط معلومات مؤكدة عن زيادة انتشارها وتنامي قدراتها المادية والتسليحية والبشرية من خلال تمكنها من جذب آلاف الشبان والشابات الأوروبيين بعد غسل أدمغتهم. وتعددت التحليلات عن أسباب هذه الظاهرة في الغرب، بعدما دقّ رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون ناقوس الخطر بإعلان خطة للمواجهة وتوجيه اللوم إلى صمت المعتدلين في الجاليات الإسلامية.

ولا شك في أن الأسباب والدوافع كثيرة، لكن من المؤكد أن الحلول الأمنية والعسكرية ستبقى قاصرة، إن لم تترافق مع حلول اجتماعية وفكرية وإعلامية بعيدة المدى، خصوصاً أن كل التقديرات تشير إلى أن هذه الحرب ستكون طويلة الأمد. ويتحدث القادة العسكريون الأميركيون عن فترة تمتد بين ١٠ و٢٠ سنة للقضاء على «داعش»، ما يعني أن الأزمة ستتفاقم ومعها مشاهد القتل والذبح والخراب على مستوى العالم كله.

ومنعاً لوقوع كارثة كبرى، لا بد من البدء فوراً بحوار مع الغرب يشارك فيه الجميع، ولا يتم بأساليب تقليدية ينتهي مفعولها فور رفع الجلسات، بل لا بد من مصارحة تامة تعالج بدءاً من الاعتراف بأصل العلة وأسبابها وتحديد المنابع والظروف والخلفيات والجهات التي تدعمها وتنشر الأفكار المتطرفة التي لا علاقة لها بالإسلام، دين الرحمة والتسامح والسلام.

ولا بد من أن يتحمل الأوروبيون مسؤولية البحث عن أسباب هذه الظاهرة، خصوصاً ما يتعلق بالتحاق آلاف المواطنين بـ «داعش» وأخواته وقبول العيش في أجواء خانقة غير إنسانية وارتكاب أعمال وحشية، على رغم كل ما تمتعوا به من حقوق وامتيازات وأسلوب حياة طبيعية مريحة ومستقرة.

ولا يختلف اثنان على أن الخطة التي أعلنها كاميرون لمواجهة ما سماه «سم التطرّف الإسلامي» ومعالجة فشل الاندماج في المجتمع البريطاني جاءت متأخرة جداً، لأن المشكلة قديمة تعود إلى عقود ولا تتعلق فقط بالالتحاق بـ «داعش». فهناك أسباب كثيرة لهذه الظاهرة، من بينها انغلاق الجاليات الإسلامية على نفسها في «غيتوات» طائفية ومذهبية وعرقية تحولت مع الزمن إلى دويلات شبه مستقلة داخل الدولة، والسماح بدخول عدد كبير من المتطرفين، من رجال دين وحزبييين وهاربين من أوطانهم وإقامتهم، وترك الساحة خالية لهم للحض على الكراهية والعنف والتطرف والتعصب وتكفير «الآخر» إلى أية عقيدة انتمى، حتى لو كان مسلماً.

والمؤسف أن بعض القيادات الفاعلة تكفّر المجتمعات وتدعو أبناء الجاليات إلى عدم الالتزام بقوانين الدولة التي منحتهم الأمان واللجوء والجنسية، مع كل حقوق المواطن وحرياته والامتيازات والخدمات التي لم تقدم لهم دولهم ولو الجزء اليسير منها. والأهم من ذلك، غياب الحوار بين أبناء الجاليات وقياداتهم من جهة والخوف من مواجهة هؤلاء، إضافة إلى غياب التواصل مع السلطات المختصة والجمعيات والمنظمات الأهلية والأحزاب، ما أدى إلى اتساع الهوة ووصولها إلى ما وصلت إليه وتهديد حاضر أبناء الجاليات ومستقبلها، والتسبب بالتضييق عليهم وزيادة حدة العداء لهم، مع الإشارة إلى أن الجاليات العربية تعيش حياة أكثر استقراراً وانفتاحاً على المجتمعات التي تحيا فيها.

ولا بد من أن كاميرون يدرك أن أصل العلة لا يعود إلى «سم التطرّف الإسلامي»، كما وصفه، بل إلى منابع عدة لا بد من اجتثاثها من أساسها حتى ينجح في فتح عيون الشباب على زيف الصورة المرسومة في أذهانهم عن التنظيمات الإرهابية. وحبذا لو جرى إشراك أبناء الجاليات الإسلامية والعربية والقيادات الحكيمة فيها، وهي تمثل الغالبية، لتنفيذ الخطة الجديدة وتشجيعها على الخروج عن صمتها. فأزمة بهذا الحجم لا تعالج بالبنود الجامدة فقط، بل لا بد من المعالجة من الأعماق والتركيز على توفير الطمأنينة للمسلمين وتعميق أسس الانتماء إلى البلد المضيف وعاداته وقوانينه، من دون التخلي عن عقائدهم وتقاليدهم، وإقناعهم بأن الحوار هو السبيل الوحيد لحل مشاكلهم وإزالة أسباب شكاواهم والحرص على المساواة ورفض التمييز ونبذ العنصرية.

أما الإجراءات المعلنة، فهي آنية وغير مضمونة النتائج لأنها تعالج الشكليات لا الجوهر، مثل القانون الذي يمنح الوالدين حق سحب جوازات سفر أبنائهم لمنعهم من السفر ومنع القنوات الفضائية التي تبث رسائل المتطرفين، وتشجيع المدارس على القيام بدور أوسع، ومعالجة إغراءات الإنترنت، وإعداد دراسة عن كيفية انتشار التطرّف، وإيجاد أساليب لتعزيز القيم البريطانية وبحث التشريعات التي تكفل الحماية لضحايا الزواج القسري.

وعلى رغم الوعد بكسب صراع الجيل بالتصدي للتطرف والتعصب والانغلاق، يدرك الجميع جيداً أن الطريق طويل وصعب ويحتاج إلى جهود مشتركة يشارك فيها رجال الفكر والإعلام وممثلو الجاليات، علماً أن الجاليات العربية هي الأقدر على الحوار بفعل قدرتها على التأقلم وتجربتها في الاندماج وإثبات الوجود في مختلف المجالات.

وهناك خط آخر للنجاح، يتمثل في وضع خريطة طريق لنزع صواعق التفجير داخل المجتمعات ومعالجة آفة التطرّف ومواجهة الآفة المقابلة، أي العنصرية، مع الاعتراف بأنها محصورة في مجالات ومناطق محددة وليست مستشرية، لكنها ازدادت حدة أخيراً بسبب الممارسات الخاطئة وأعمال الذبح والتفجير ونظرية «الإسلاموفوبيا»، بل إن كل منصف يلحظ التحول في المجتمعات الغربية نحو التعايش وقبول الآخر وتفهم ثقافته وتقاليده. وصرنا نقرأ في الساحات العامة عبارات مثل «عيد مبارك»، بل إن إحدى الكنائس البريطانية وضعت لافتة على مدخلها تقول فيها: «نهنئ إخواننا المسلمين بعيد الفطر المبارك، ونتمنى لهم الخير». كما نلحظ في كل مكان وجود خليط عجيب من كل الأجناس والأعراق والأديان والألوان يمارسون أعمالهم اليومية ويتجوّلون بكل حرية من دون أن يتحرّش بهم أحد، إلا في حالات نادرة في حال قام البعض بتصرفات معيبة ومزعجة، كما حدث في إجازة العيد في النمسا وتشيخيا من جانب سياح عرب.

البند الأول في خريطة الطريق المطلوبة يركز على الحوار والمصارحة التامة بين كل الدول والأطراف المعنية، وأولها أوروبا لأن التوقعات تشير إلى أن عدد المسلمين قد يتجاوز قريباً عتبة الثمانية ملايين، ما يستدعي وجوب المسارعة إلى معالجة جذور الأزمة. وتبدأ الحلول من المشاكل الاجتماعية، وتفهم أوضاع الجاليات، وسن قوانين تحظر التطرّف والعنف وتردع من يمارس مثل هذه الأعمال بسحب الجنسية والترحيل، وهذا ما يبحث جدياً لأن الشرط الأول للحصول على الجنسية هو تأدية قسم الولاء للدولة والالتزام بالقوانين المرعية.

أما البند الثاني لخطة المصارحة، فيركز على الأسباب الخارجية لظاهرة التطرّف، من أوضاع المنطقة وحروبها إلى الفقر والظلم اللاحق بالشعوب وتصوير الغرب كعامل مسبب لكل ما يجري، خصوصاً بالنسبة إلى قضية فلسطين والانحياز إلى إسرائيل والسكوت عن جرائمها وعنصريتها طوال أكثر من ٦٧ سنة، فيما ملايين اللاجئين الفلسطينيين يعيشون في مخيمات العار والبؤس.

ولهذا لا يمكن الحديث عن قطع دابر العنف قبل تحقيق العدالة في فلسطين وغيرها، ومعالجة قضايا التخلف والتمييز وغياب التوجيه وعدم الاستعداد للثورة التكنولوجية التي تحولت وحشاً كاسراً بسبب سوء استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وعدم وجود قوانين للردع ومنع المتطرفين من الترويج لأفكارهم وغسل أدمغة الشباب بوسائل الإغراء لحملهم على الالتحاق بها، وهذا ما نجحت فيه «داعش» باستخدام أحدث التقنيات.

هذا غيض من فيض الاقتراحات والوسائل الرامية إلى نزع فتيل الأخطار المقبلة والتحرك بسرعة ونشر ثقافة التسامح ونبذ العنف وتعزيز مبدأ قبول «الآخر». وأي تأخير في مسيرة المصالحة والمصارحة سيفتح الباب على مصراعيه لمشهد مرعب يطاول في شرر نيرانه وشرورها الجميع، بلا تفرقة أو تمييز.