إيران بعد الاتفاق مع الغرب: إلى أين؟

د. بهاء أبو كروم (الحياة)

لا يقدم الاتفاق النووي جديداً على مستوى إعادة خلط التحالفات واستقطاب الأدوات في المنطقة، ولا يضيف الى الإمكانات التي سخّرتها إيران أساساً، ولم تبخل، لحلفائها وأذرعها. أما الذي يزيد من إمكاناتها الاقتصادية فهو يُنقِص من قدرتها على تسويق شعاراتها الخاوية، ويُظهرها مبعثاً للفتنة وقوة احتلال في المنطقة ليس أكثر.

لكن في المقابل، فإن موضوع الصراع العربي مع إيران لا شكّ يمر بمرحلة دقيقة، فالعرب استفاقوا بعد غيبة طويلة مكّنت إيران من دواخلهم، وحيّدت الكثير من قدراتهم. ولعلّ من إيجابيات الاتفاق أنه يشكّل صدمة للعرب، ويدفعهم الى البحث عن سبل جديدة في صياغة برامجهم وتحالفاتهم. فهناك ما يمكن أن تقوم به الولايات المتحدة فيما إذا أبقت على قناعتها بأهمية التحالف مع العرب، وهناك ما يجب أن يقوم به العرب أنفسهم. فالعلاقة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة تتجاوز التوقف عند هذه المحطة وهي ضرورية للعرب، لكنها في الوقت ذاته يمكن أن تقوم على فصل الملفات وبالطريقة ذاتها التي تتعاطى فيها الولايات المتحدة مع روسيا، حيث يمكن أن تذهب في الاتفاق معها حول الملف النووي الإيراني وسورية حتى النهاية، وتختلف معها في أوكرانيا وحول الدرع الصاروخية حتى النهاية أيضاً.

هذه واحدة من علامات المنهج السياسي في ظلّ النظام الدولي الحالي، تفاهمات على القطعة ومصالح تتلاقى في مكان وتتضارب في مكان آخر، ولا مكان للأيديولوجيا في ذلك كله.

الولايات المتحدة لن تعطي إيران أكثر مما تكونُهُ في المنطقة، أما تشكيل التكوُّن الإيراني فهو بِيَد مَن يناهضها ويرسم لها الحدود. إن الاستعصاء السياسي الذي قوبلت به الهجمة الإيرانية على المنطقة، أفقدها المدخل الذي اعتادت تقديمه للناس، أي دعم المقاومة ومناهضة المشروع الأميركي، وهذا الفراغ جعلها تبحث عن دور في الحملة على الإرهاب، أما الاستعصاء العسكري الذي واجهته في سورية واليمن فيفقدها إمكان الاستحواذ على عواصم وبلاد بأكملها، لتعود وتنكفئ نحو حماية أحزمة ديموغرافية وجزر غير مترابطة إلا بالمعنى «الإثني».

وبالتالي، فإيران كمشروع سياسي هي التي تتحوّل تحت وقع النتائج التي تنجم عن حروبها في الساحات العربية وليس لذلك صلة باتفاقها مع الغرب، حيث لا يُترك المجال أمام صرف نفوذها الذي راكمته إلا في إطار «بلقنة» المنطقة وتجزئتها.

ويأتي الاتفاق مع الغرب ليطرح استحقاقات داخلية على إيران. فالدينامية التي تولدها عملية رفع العقوبات تفتح الباب أمام نقاش داخلي يتعلّق بالأولويات وبالواقع المعيشي الذي فشل الفيض العقائدي في التصدّي له. رمي الكرة في الداخل الإيراني يشكّل رهاناً ناجعاً لإعادة قراءة الإيرانيين لسلّم أولوياتهم، والتحوّل من مرحلة الثورة وتسخير كل الإمكانات في سبيل تصديرها إلى مرحلة حماية النظام واستغلال العلاقات الدولية لتأمين مصالحه الحيوية.

في المحصلة، نجح رهان الرئيس الأميركي باراك أوباما، في التعاطي مع إيران بمسألتين كان حدّدهما في وقت سابق وهما، نجاعة نظام العقوبات الاقتصادية بديلاً عن الحرب من أجل السيطرة على البرنامج النووي، وتقوية التيار الذي يمثّله الثنائي روحاني – ظريف، مع علمه المسبق بأن العقوبات تضعف موقف إيران السياسي، لكنها لا تضمن تغيير النظام أو سقوط الملالي.

أما بعد الاتفاق، فلنراقب كيف ستتعاطى إيران على المستوى الداخلي مع زيارات فرق التفتيش والانفتاح الديبلوماسي على العالم، وكيف تتحقق آمال الإيرانيين في المجال المعيشي. فمن البديهي أن يتكيف النظام الإيراني مع موارد مادية وصفقات تجارية كبيرة تنتشله من حال الركود والتراجع، إلا أن ذلك لن يتم إلا وفقاً للميزات التي ينعم بها، أي على قاعدة التقاسم المصلحي بين أهل النظام بشقّيه الثوري والبيروقراطي، فالأموال التي سيُفرج عنها لإيران من المفترض أن تساهم في التصدّي للتحديات الداخلية وبناء البنية التحتية والحدّ من تراجع مؤشرات الفقر الداخلي، لكن كيف يمكن التعاطي مع ذلك كله في ظلّ خلو «الطفرة» المالية من الإصلاحات السياسية والمجتمعية المطلوبة. فـ70 في المئة من المشاكل الاقتصادية التي تعاني منها إيران تعود إلى سوء الإدارة وتخلّف البنية السياسية للدولة، عدا التنافس الجاري على الموارد والخيرات بين قطاعات السلطة الحاكمة.

وفي ظل اقتصاد ريعي غالباً ما تذهب خيراته في أطر غير ذات جدوى على المستوى المعيشي، تبرز مسألة الشفافية والحريات كأولوية بعد طي صفحة الصراع مع الغرب. ومن البديهي أن يتساءل الإيرانيون عن اليوم التالي لرفع العقوبات، ماذا بعد ذلك كله، وإلى أين تذهب إيران في توظيف جهودها وإمكاناتها؟

أهمية المقاربة الغربية للمشكلة مع إيران تكمن في يقينها الحاسم بأن الاقتصاد هو الأساس في كل معادلة تتعلّق بصلابة الموقف السياسي، وأن ليس هناك اقتصاد سوي ومستقر إلا ويستند الى نظام قيمي ضامن لولاء الجمهور للسلطة، كمثل النظام الأوتوقراطي في إيران، والإمبراطوري في روسيا، والعقائدي في الصين، والديموقراطي في الغرب. لا شك أن رهان الرئيس الأميركي على نمو العقل التجاري في إيران وأخذها بالنفعية مقابل العقائدية هو المسار الذي يكفل تحوّل إيران في المستقبل، تحوّل يصب في الصالح الأميركي في آسيا وفي المواجهة مع روسيا في أوروبا، وبما «لا» يتعارض مع مصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط!.