العرب يقسمون… والعالم يتحد

عرفان نظام الدين (الحياة)

هناك مثل شعبي قديم ينطبق على العرب وأحوالهم المزرية، يقول: «الغلط راكبه من فوق لتحت»، أي من رأسه إلى أخمص قدميه. وهذا ما أثبتته الأيام عبر التجارب الفاشلة والممارسات الخاطئة والخطايا المميتة التي أوصلت الأمة إلى ما وصلت إليه من هوان وحروب ومآسٍ ودمار وتشرد وضياع وتشتت وتشرذم وتفرقة وانقسام وتقسيم وتفتيت.

فما بال العرب يتراجعون إلى الوراء والعالم يتقدم إلى الأمام ولا يتعلمون من دروس ممارساتهم ولا يعتبرون من الآخرين ويسيرون عكس التيار وعكس ما يجري في العالم من تحولات ومتغيرات وعمليات تصحيح للمسار والعودة عن الأخطاء وتجنب تكرارها؟ وهم إن أرادوا مواكبة روح العصر جاؤوا متأخرين، فلا يجدون لهم مكاناً ولو في الصفوف الخلفية.

العالم يتغير ونحن نتجمد. العالم يتوحد ونحن ننقسم. العالم يتضامن ونحن نتشرذم. العالم يرمم بنيانه ونحن نفتت. العالم يبني ونحن ندمر. العالم يجنح للسلم ونحن نفتش عن الحروب. العالم يتسامح مع الآخر، من أي جنس أو دين أو لون، ونحن نتمادى في التعصب والعنصرية والطائفية والمذهبية. العالم يتجه إلى الاعتدال ونحن نتجه إلى التطرف والتعصب والعنف والتفريق بين الأخ وأخيه والجار القريب والبعيد.

لا أحب التعميم، لكن الواقع يتحدث عن نفسه، على رغم وجود أخيار وإخوة يرفضون هذه الظواهر. ومن يعِش في الدول المتقدمة يلمس روعة تكريس واقع صهر الأجناس والأديان في قالب واحد هو الوطن وتحت راية واحدة، وهي القانون والمساواة والعدالة مع عدم إنكار وجود بعض الاتجاهات العنصرية.

الحوادث تتوالى بسرعة، والمتغيرات العالمية تحدث بلمح البصر أمام أعيننا من دون أن ندرك معانيها ونسعى إلى اللحاق بها ليكون للعرب مكان في العالم الجديد الذي ترسم ملامح خرائطه هذه الأيام. وهذا ما دأب عليه العرب منذ عقود، وما حصدوه من عقد ونكبات. ولو عرضنا حوادث قرن من الزمان وتركنا ما قبله لحساب التاريخ، لصدمنا بالعجب العجاب. فمنذ بداية القرن الماضي دأب العرب على السير عكس اتجاهات الريح الدولية، وأوقعوا أنفسهم في مطبات وأفخاخ رضوا أن يكونوا فيها أدوات لإرادات خارجية لا ترحم الضعفاء ولا تحمي المغفلين، من الثورة العربية الكبرى بعد الحرب العالمية الأولى ضد العثمانيين، والتي انتهت بخيانتهم بالتقسيم الأول إلى التقسيم الثاني بعد الحرب العالمية الثانية وفق مؤامرة «سايكس – بيكو» مع عهد الاستعمار الذي جلب معه البلاء الصهيوني إلى فلسطين ليزرع حربة في خاصرة الأمة.

وتوالت القراءات الخاطئة والقرارات المدمرة منذ نكبة العام 1948 إلى هزيمة العام 1967، وما رافقها وما تبعها من حروب واضطرابات ونزاعات. وتاه العرب في لعبة الانحياز إلى الشرق أو إلى الغرب إبان الحرب الباردة التي تحولت إلى حمم حارقة لمصالحهم وثرواتهم ومستقبلهم، فكانت النتيجة أنهم «لا طلعوا مع ستي بخير ولا مع سيدي بخير»، كما يقول المثل. أصروا على تبني أسوأ ما في الاشتراكية والشيوعية على رغم تخلي أصحابهما عنه، وتبنوا «سياسة السوق» والانفتاح الاقتصادي، فدمرت البنى التحتية وأكل الفساد قوت الشعوب.

والأهم من الأخطاء والتمادي في ممارستها هو التفنن في إضاعة الفرص المتاحة، الواحدة تلو الأخرى، مثل رفض قرارات الأمم المتحدة لتقسيم ما احتل من فلسطين العام 1948، وتخوين كل من طالب باستعادة الأرض، كما حصل مع الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة عندما رموه بالحجارة وشتموه لأنه دعا إلى تبني مبدأ «خذ وطالب»، فضاع النصف المعروض ومعه كل فلسطين وسيناء والجولان بسبب أخطاء فادحة أدت إلى هزيمة العرب في حرب حزيران (يونيو) 1967.

وحتى مشاريع الوحدة وشعاراتها لم تبصر النور أو جرى فصمها وهي في مهدها، كما حدث للوحدة بين مصر وسورية في العام 1958 عندما وقع الانفصال في العام 1961. كما فشل حزب البعث العربي الاشتراكي الذي رفع شعار «أمة عربية واحدة»، في تحقيق أي إنجاز وحدوي، ولو من حيث الشكل بين العراق وسورية، على رغم أنه كان يحكم البلدين. وبقي الاستثناء العربي في إنجاز توحيد المملكة العربية السعودية وإقامة دولة الإمارات العربية المتحدة بنجاح لافت.

وقبل كل هذا الحلم الوحدوي جرى دفن كل المشاريع والأهداف التي ترمي إلى التضامن العربي والتعاون والتكامل. كما جرى وأد مشروع وحدة طبيعية رائدة، وهي وحدة سورية الكبرى بعدما جرى إعدام حامل لوائها زعيم الحزب القومي السوري أنطون سعادة الذي كان مثالياً في مبادئه وتحذيره من الخطر الصهيوني ومن دوره في التقسيم، فحاكموه صورياً بموجب عدالة ظالمة ومؤامرة مشبوهة ليدفنوا معه حلماً كبيراً لو تحقق لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه من حروب ونزاعات ونزعات تقسيمية تفرق بين أبناء الأمة الواحدة وتثير الفتن الطائفية والمذهبية والعرقية لمنع قيام وحدة متكاملة اقتصادياً وبشرياً وجغرافياً وغنية بالثروات المعدنية والمائية والزراعية والسياحية والتاريخية.

لكل هذه الأسباب وغيرها وصلت البلاد إلى الدرك الأسفل، وساد الإرهاب والتطرف. وبدل الاحتماء بمظلة وحدة لا تفرق بين مواطن وآخر، بتنا نعيش في العراء بلا خيمة تسترنا ولا سقف يحمينا، بل الأكثر من ذلك أن العرب الذين يتغنون بالدِّين والتدين تخلوا عنه وعن مبادئه السمحة وما أمرنا به الله عز وجل في محكم آياته: «واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا»، و «ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم»، و «جعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم»… وعشرات الآيات المماثلة التي تؤكد الاعتدال والوسطية والتسامح والمحبة والرحمة وتحريم قتل النفس، والمجادلة بالتي هي أحسن مع أهل الكتاب، وبينهم النصارى الذين وصفهم بأنهم «أقربهم مودة للذين آمنوا»، وهي الرسالة التي حملها الرسول صلى الله عليه وسلم: رسالة الرحمة للعالمين.

هذه هي حال العرب اليوم، أما العالم ففي «عالم آخر». وتكفي الإشارة إلى آخرها التي تحمل الكثير من الدلائل والعبر وهي:

– الاتفاق حول الملف النووي الإيراني بعد عداء تحول إلى غزل بين «الشيطان الأكبر» وزعيم «محور الشر»، وفق التوصيف المتبادل سابقاً. وهو ما ستكون له تداعيات وانعكاسات خطيرة على مجمل الوضع العربي.

– محاولة إخراج اليونان من غياهب أزمة اقتصادية خانقة كادت تطيح الاتحاد الأوروبي، أو على الأقل منطقة اليورو. لكن الحكمة انتصرت، وجرى تفادي الانقسام بحلول مريرة كخطوة تعاونية حبية من دون إعلان حرب ولا تبادل شتائم واتهامات وحياكة مؤامرات لصيانة الاتحاد في وجه الأزمات المتتالية. وهو ما لم يفعله العرب على مدى الأيام دفاعاً عن وحدتهم ومصالحهم على رغم القناعة بأن ما يجمعهم أكبر بكثير مما يجمع الأوروبيين الذين تورطوا في حروب وعداوات كلفت عشرات الملايين من الأرواح.

وعلى العكس تماماً، فقد توسعت الشروخ في العالم العربي وعم البلاء نتيجة لحروب عبثية وفتن طائفية ومذهبية وعرقية وقبلية أسفرت عن دمار شامل للبشر والحجر وجنوح نحو التقسيم، لا سيما في العراق وسورية حيث ترتسم ملامح الخرائط المشؤومة. وهذا الأمر ينطبق على اليمن وليبيا بعدما سبقهما السودان بانفصال الجنوب والآتي أخطر في دارفور والشرق وبلاد النوبة.

وحتى في الجزائر، بدأت ملامح الفتنة تطل برأسها بعد تفاقم حوادث غرداية المؤسفة، والتمادي في ارتكاب المجازر والتعديات وسط معلومات متناقضة عن الجهات المحرضة والمنفذة، إن لم نقل أنها الأصابع ذاتها التي تشعل نار الفتن في المشرق. ويدرك كل من يتابع أوضاع الجزائر أن أي تهاون في وأد الفتنة سيؤدي إلى تمددها إلى أرجاء البلاد، وتصل نيرانها إلى المنطقة المغاربية كلها. فاصل المشكلة الآن يعود إلى أسباب مذهبية (بين المالكية والإباضية) وبين العرب والأمازيغ (البربر) مع عدم إنكار دخول الجماعات المتطرفة (وقيل «داعش») على الخط، إضافة إلى عامل أساسي ومشترك في البلاد العربية، وهو الفوارق الطبقية والمادية بين فئة تملك المال والسلطة والوظائف وفئة معدمة لا تملك «شروى نقير».

وفي غياب العقل، لا يمكنك أن تخاطب مجانين لتقنعهم بالحق وتحذرهم من الواقع، ولو كان هناك من يسمع، لما وصل العرب إلى ما وصلوا إليه، ولا اقتنعوا بالحد الأدنى، وهو حماية مصالحهم والتنبه إلى ما يحاك لهم من مؤامرات، بدءاً من إسرائيل التي تعمل على القضاء على ما بقي من فلسطين وصولاً إلى الطامعين بالهيمنة والتوسع.

– في مقابل هذا الواقع العربي المزري، نجد أن العالم يعيد حساباته ويتجه نحو المصالحة والتوحد. فبعد أكثر من نصف قرن من العداء والحصار والأزمات التي كادت تشعل نار حرب نووية عالمية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، انتهت القطيعة بين الولايات المتحدة وكوبا، وجرى الاتفاق على طَي صفحة الماضي وتطبيع العلاقات وفتح الأبواب والأسواق.

كما نشهد تعاوناً فريداً بين دول أميركا اللاتينية وبين دول الـ «بريكس» التي تمتد من البرازيل إلى جنوب أفريقيا، مروراً بالهند ومثله دول منظمة شنغهاي التي ستصبح قوة دولية أساسية في حال انضمام الهند وباكستان إليها، بينما العرب فشلوا في تحقيق أقل ما يمكن من خطوات التعاون والتضامن والتكامل.

لكن، ليس هناك من يتعظ ويتخلى عن العناد والقبول بحلول عملية تضع حداً لعقد الماضي وتجنب تكرار أخطائه والعمل على بناء مستقبل آمن، بدايته في إقامة أنظمة ديموقراطية على أساس عقد اجتماعي جديد شعاره: المشاركة والعدالة والمساواة وسيادة القانون وتجريم التمييز الديني والعنصري، لتكون المواطنة هي المرجع والوطنية هي المعيار. لكنني أخشى أن أكرر قول الشاعر: قد أسمعت لو ناديت حيّاً/ ولكن لا حياة لمن تنادي!

وأدعو الله أن ينجي العرب من الآتي الأعظم، إن لم تنتصر الحكمة ويسود العقل الراجح لإخماد نيران البركان الثائر، لأن «الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم». ويا أمان الخائفين.