السيدة نورا جنبلاط لـ”الأنباء”: مهرجانات بيت الدين مساحة لتلاقي الثقافات

فوزي أبو ذياب -الأنباء

عام 1985 وفي ليلة فنية عابقة بأنغام الحرية وعشق الحياة، وعلى وقع ألحان الفنان مرسيل خليفة وأوتار عوده، صدحت حناجر فرقة الميادين في باحة ميدان قصر بيت الدين التاريخي، وعلت هتافات الآلاف من الحاضرين تردد معها أغاني العاصفة وفلسطين والباروك وحيفا والصيادين والمقاومين، وهدرت أصداء الانغام والألحان تتردد في أودية الشوف وجبل لبنان معلنة انطلاق مهرجانات بيت الدين.

مهرجانات بيت الدين التي أطلقها رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط عام 1985، أراد من خلالها ابراز البعد الآخر للبنان، لبنان الحضارة والثقافة والابداع والتنوع، فكانت بمثابة لغة جديدة تعبر عن فعل ايمانه بدور لبنان الحضاري، لغة مختلفة عن لغة الحرب والقتل والدمار التي كانت سائدة في حينه.

تحدت مهرجانات بيت الدين الصعاب وتجاوزت الأزمات وصمدت بوجه الترهيب، وها هي اليوم وفي عمرها الثلاثيني تواجه الظلامية القاتلة بالثقافة المنفتحة على ثقافات العالم المتنوعة، تواكب العولمة بحفاظها على الجودة والنوعية والرقي في العروض الفنية المميزة، تقدم صورة عصرية مختلفة عن صور القتل والدمار والموت التي تعيشها المنطقة العربية.

77
السيدة نورا جنبلاط رئيسة لجنة المهرجانات قالت في حديث خاص لـ”الأنباء” أن “مهرجانات بيت الدين نجحت لأن هويتها لبنانية، جذورها عربية، منفتحة على العالم، وأنه على الرغم من انطلاقتها من رحم الحرب اللبنانية الأليمة، إلا أنها باتت مساحة لثقافة السلام وقبول الآخر وتلاقي الثقافات، وحوار الحضارات، في زمن يسمونه “صدام الحضارات”، مستمدة من إرثها الحضاري ومن عراقة موقعها التاريخي النجاح والارتقاء”.

يقول العارفون بالسياحة والآثار العالمية أن قصر بيت الدين الذي يعتبر تحفة رائعة من نماذج الفن المعماري العربي في القرن التاسع عشر، لما يحتويه من تناسق متناغم في بناء الحجر اللبناني في الخارج والفن الزخرفي الدمشقي في الداخل، لم يشهد أن إكتسب الشهرة العالمية على مدى قرون كتلك التي إكتسبها في السنوات الثلاثين من عمر المهرجانات، على الرغم مما شهده من أحداث سياسية ومؤتمرات وقمم عربية وعالمية، على إعتباره المقر الصيفي لرئاسة الجمهورية منذ إستقلال لبنان.

بيت الدين

لقد بلغ عدد رواد القصر لحضور فعاليات المهرجانات في السنوات الثلاثين الماضية أكثر من ستماية ألف مشاهد، كما إستضاف أكثر من خمسة آلاف وخمسماية فنان لبناني وعربي وعالمي، قدموا أكثر من ثلاثماية إستعراض فني بين التمثيل والاوبريت والعروض الراقصة على إختلافها، إضافة إلى ما شهدته أروقة القصر وقاعاته ومتاحفه من معارض فنية منوعة للزخارف والصور والرسوم والملصقات والكتب والأشغال الحرفية، حيث شكلت أروقة القصر الشهابي وساحاته ومدرجاته في ليالي المهرجانات قبلة إهتمام التواقين للابداع وأنواع الفنون على إختلافها، ومحط أنظار المتابعين والراصدين لتطور الفنون وتحولات الابداع العالمي، فأضحت خشبة مسرح بيت الدين محط إستقبال كبار الفنانين والمحدثين والمبدعين العالميين على إختلاف إهتماماتهم، بما في ذلك الصاعدين على سلم الشهرة.

تجاوزت مهرجانات بيت الدين عقبات عدة في الثلاثين سنة الماضية وحققت العديد من الانجازات، وأدخلت إلى المهرجانات الدولية أنواع جديدة من الفنون، والاحتفاليات، وإستضافت الكثير من العروض مرات عدة كما بات إسم العديد من كبار المغنيين العالميين يرتبط بإسم مهرجانات بيت الدين.

ماجدة الرومي

تأثرت مسيرة المهرجانات بالظروف السياسية والأمنية التي مر بها لبنان خلال العقود الثلاث الماضية، لا بل نجحت المهرجانات في التأثير على تلك الأحداث وتعديل مسارها، ففي العقد الاول من عمر المهرجانات (1985 – 1995)، والتي شهدت نهاية الحرب اللبنانية وعودة بناء الدولة وانطلاق عمل المؤسسات بعد إقرار وثيقة الطائف، أسهمت المهرجانات في تعزيز أواصر التلاقي بين اللبنانيين من المناطق المختلفة، وشكلت مساحة تلاقٍ ليس بين المثقفين والمهتمين فحسب، بل بين أبناء الوطن كافة، فالثقافة والفنون لغة التواصل العابرة بين الأجيال، المتجاوزة حدود الطوائف والمناطق.

في تلك الحقبة من عمر المهرجانات، إستضافت في لياليها، مجموعة كبيرة من الفرق الفنية الاستعراضية، الأوروبية والروسية، وفرق من مصر وسوريا وفلسطين، وكركلا من لبنان في عروض مختلفة (الخيام السود – اليسا ملكة قرطاج – حلم ليلة شرق وغيرها) إضافة إلى فرق صاعدة أخرى، وإستضافت الكثير من الفنانين العرب والأجانب، إلى جانب الفنان مارسيل خليفة، وأحمد قعبور، والفنان صباح فخري، والشيخ إمام، وميادة الحناوي، وماجدة الرومي وجوليا بطرس، كما إستضافت أعمال مسرحية للفنان دريد لحام في مسرحية (شقائق النعمان)، ومسرحية (صيف 840 لمنصور الرحباني التي إستمر عرضها لثلاثة أسابيع متواصلة عام 1989)، كما كرمت الفنان محمد عبد الوهاب في حفل خاص رعاه رئيس الجمهورية إلياس الهراوي عام 1991).

444

عام 1991 وبعد إنطلاق عجلة الإعمار في لبنان وإنفتاح لبنان على العالم تحت سقف الدولة، حملت السيدة نورا جنبلاط رسالة مهرجانات بيت الدين، مستكملة مسيرة صعودها وتألقها بإدخال المهرجانات إلى نادي المهرجانات الدولية.

السيدة جنبلاط قالت لـ “الأنباء”: “إلتحقت للمرة الأولى باللجنة عام 1987 وكان عملها ضمن الإدارة المدنية وتعاونت حينها مع الأستاذ ضاهر غندور وبعده السيد هشام نصر الدين وغيرهم من الرفاق، وأذكر أننا إستضفنا في تلك السنة الفنان دريد لحام، وغيره من الفنانين، وحينها كانت أيضاً انتقاضة الحجارة الأولى في فلسطين، نظمنا بهذه المناسبة معرض للفن التشكيلي لكبار الرسامين من عرب وعالميين، عراقيين وسوريين ومن كافة الدول، وأذكر منهم على سبيل المثال المغفور له عارف الريّس، وفاتح المدرس، ورسموا حينها لوحة جماعية قيمة جداً عرضت في بيت الدين واليوم هي في المكتبة الوطنية في بعقلين، موقعة من 23 فنان، سكنوا جميعا لمدة أسبوع في بيت الدين”.

أضافت: “إستلمت بعدها أعمال اللجنة وكانت صعوبات كبيرة بسبب الحرب وسوء الأوضاع الامنية، لكننا تجاوزنا الصعاب، فمهرجانات بيت الدين هي أول مهرجانات وجدت في الحرب وإستمرت وحصلت على الرعاية لتغطية نفقاتها، وكانت ليالي صيف 840 أول سهرات مدفوعة، بحيث أن المهرجانات قبل ذلك كانت مجانية وأشبه بالحفلات الشعبية”.

كاظم الساهر

وذكرت أن المهرجانات “إنقطعت عن تقديم حفلاتها مدة ثلاثة سنوات في “الأعوام 2005 –2006 و2007 بسبب إغتيال الرئيس رفيق الحريري والعدوان الإسرائيلي على لبنان ومعارك نهر البارد، لكننا عدنا وإنطلقنا من جديد عام 2008 متحدين الصعاب مؤمنين بثقة اللبنانيين وإصرارهم على العيش بفرح- وقد نجح رهاننا هذا- فالعام الماضي وقعت قبل أيام من موعد إفتتاح المهرجانات أحداث إرهابية في بيروت، لكننا قررنا الاستمرار في حفلاتنا، وكان الافتتاح مع السيدة ماجدة الرومي، المفاجأة كانت مذهلة بالنسبة لنا أن الحضور فاق المتوقع من خلال حضور أكثر من أربعة آلاف شخص كانوا مع ماجدة الرومي، وحينها كنا أول مهرجان يفتتح موسم الصيف في لبنان، لقد كان هذا بمثابة تحدٍ ونجحنا، وواجهنا الرعب بالاغنية”.

السيدة جنبلاط رأت أن “المهرجانات تجمع بين اللبنانيين على أهداف ثقافية وفنية، وهي جزء من رسالة لبنان، رسالة العيش المشترك والتلاقي والانفتاح على الغير”، وقالت “لقد أثرت المهرجانات أيضاً على إهتمامات أهالي منطقة الشوف، فاليوم هناك فرع للكونسرفاتوار الوطني في بعقلين فيه حوالي 300 طالب، وهناك فرقة موسيقية مؤلفة من 70 عازفاً من طلاب المدارس الرسمية، انشأناها بالتعاون مع مؤسسة (لوفام) يتعلمون ويعزفون الموسيقى، كما ساعدت في خلق جو فني ثقافي في المنطقة، فنحن حاولنا أن نوصل الفن إلى أكبر عدد من اللبنانيين، وبكافة أشكاله: معرض، ومسرحيات وغناء وموسيقى، وأنواع مختلفة من الموسيقى العربية القديمة والطربية، والموسيقى الصوفية، والموسيقى العالمية. فنحن أول من قدم الموسيقى الصوفية وكذلك الموسيقى العالمية غير الكلاسيكية إلى المهرجانات”.

وأشارت جنبلاط إلى أهمية الحركة الإقتصادية والتنموية التي تحققها المهرجانات ليس على مستوى السياحة الوطنية فحسب، إنما على مستوى التنمية المحلية، من مطاعم وفنادق ونقل، وأعمال صيانة فنية كالصوت والإضاءة والطباعة والمدرجات، ومحال تجارية.

Untitled444

وعن موقع مهرجانات بيت الدين بين مهرجانات العالم، قالت جنبلاط: “مهرجانات بيت الدين تنتمي إلى المهرجانات الأوروبية وهي في توأمة مع مهرجان (سبوليتو Spoleto في ايطاليا)، وهو من أكبر وأهم المهرجانات العالمية، ومهرجانات بيت الدين دعمت وأسهمت في وصول العديد من الفنانين اللبنانيين والعرب إلى الشهرة العالمية وساهمت في تأمين سفرهم إلى الخارج لتقديم حفلاتهم في المهرجانات الدولية”.

وكشفت أن مهرجانات بيت الدين هي جمعية لا تتوخى الربح، أسهمت في إنتاج العديد من العروض الخاصة، وإفتتحت عدداً من المهرجانات الدولية في أمستردام والأردن عام 2010. وعملت على إحياء العديد من الفنون التراثية القديمة، وهذا العام شاركت في إحياء واحدة من أهم الحفلات في إيطاليا في 27 حزيران الماضي، حيث قدمت مع الفنانة كريمة الصقلي حفلة مميزة من الغناء الصوفي يعرف بـ “بردى”، وهذا النوع من الغناء كانت تؤديه السيدة أم كلثوم.

11

مهرجانات بيت الدين التي إستضافت على مدى ثلاثة عقود أكثر من 300 عرض فني مختلف شارك في تقديمها حوالي خمسة آلاف وخمسماية فنان، منهم من بلغ الشهرة ومنهم من صعد من على مدرج بيت الدين إلى العالمية، حيث تضيق الصفحات عن تعدادهم إلا أن عدداً من الحفلات والعروض التي لا تزال أصداؤها تتردد في الوسط الفني المحلي والعربي والعالمي لا بد من الإشارة اليها لا سيما تلك التي أسهمت اللجنة بإنتاجها ومنها الحفلات الخاصة بتكريم كبار الفنانين العرب واللبنانيين، وإضافة إلى عودة الفنانة فيروز إلى الغناء في المهرجانات من على مسرح بيت الدين عام 2000، فإن الفنانة ماجدة الرومي وقيصر الغناء العربي كاظم الساهر كانا من الحاضرين دائما في المهرجانات، وكذلك الاوركسترا السمفونية اللبنانية، والفنان صباح فخري، والفنان مرسيل خليفة.

وقد إستضافت المهرجانات، أروع العروض العالمية، منها (كات – ستامب – الشاولن – تايتنك – زورو – أحدب نوتردام – روميو وجوليات – بلانش ناج – عروض الفلامنكو – كركلا– موريس بيجار – باليه مونتكارلو – السيرك الصيني – وفرقة الفنون الشعبية الكورية وغيرها من العروض المختلفة).

كما أنتجت المهرجانات أو أسهمت في إنتاج عدد من العروض الاستعراضية والتمثيلية نذكر منها على سبيل المثال: (حلم ليلة شرق لعبد الحليم كركلا- وكان يا ما كان لإيفون كركلا – مسرحية الميسان لروجيه عساف – وحكم الرعيان لمنصور الرحباني – طريق الحرير على خطى ماركو باولو لرفيق علي أحمد – وانتيغون لوجدي معوض).

وأحيت كذلك ذكرى عدد من الفنانين العرب من خلال حفلات تكريمية، منها تكريم الفنان محمد عبد الوهاب عام (1990)، تكريم الفنانة أسمهان عام (2008)، تكريم الفنانة أم كلثوم عام (2009)، تكريم الفنان عبد الحليم حافظ عام (2010)، وتكريم الفنانة صباح عام (2011)، كما أحيت حفلة خاصة مع الفنان مرسيل خليفة تحية إلى الشاعر محمود درويش، كما وكرمت المخرج السينمائي يوسف شاهين.

وتميزت المهرجانات بإستضافة العديد من أنواع الموسيقى المختلفة الكلاسيكية والصوفية وفرق شعبية من التراث العربي والمشرقي والغربي، وإستضافت عازفين كباراً لموسيقى الجاز والروك وكبريات الاوركسترا العالمية الروسية والارمنية والأوروبية ومنشدي السوبرانو وغيرها من أنواع الغناء.

هذا العام وبمناسبة مرور ثلاثين عاماً على إنطلاق مهرجانات بيت الدين، أعدت لجنة المهرجانات برنامجاً خاصاً مميزاً أعلنته السيدة نورا جنبلاط من وزارة السياحة بحضور وزيري الثقافة والسياحة اللبنانيين ريمون عريجي وميشال فرعون، ويتضمن التالي:

في 29 تموز التينور العالمي البيروفي خوان دييغو فلوريز، وترافقه السوبرانو جويس الخوري اللبنانية الأصل،

في الأول من آب، سيكون جمهور موسيقى الروك على موعد مع المغني الإنكليزي ديفيد غراي.

خليفة

في الخامس من آب، يقدّم الموسيقي اللبناني مرسيل خليفة أمسية بعنوان “وعود من العاصفة”، وستكون احتفالاً بمرور 30 سنة على تأسيس مهرجانات بيت الدين التي انطلقت في عام 1985. ويقول خليفة إنه قدّم وفرقته “الميادين” حفلة استثنائية في باحة القصر الداخليّة في 7 أيلول 1985″. وسيقدّم خليفة خلال الأمسية، باقة من أشهر أغانيه في قالب جديد، ومنها: “أمي، ريتا، وجواز السفر، تصبحون على وطن، صرخة ثائر، عصافير الجليل، ظالم يا غزال، ويا بحريي هيلا هيلا”.

ويستضيف المهرجان في الثامن من آب، أمسية كلاسيكية لتيغران منسوريان، وهو مؤلف أرمني رائد في عالم الموسيقى الكلاسيكيّة وموسيقى الأفلام، مع الأوركسترا الوطنيّة الفلهارمونيّة الأرمنيّة بقيادة إدوار توبشجان.

kazem

في 12 آب، سيكون محبو موسيقى الجاز على موعد مع ريبيكا فيرغسون التي ستقدّم أجمل أعمال أسطورةالجاز بيلي هوليداي (1915 – 1959).

في 14 و15 آب يحيي الفنان العراقي كاظم الساهر حفلتين في المهرجان.

وفي هذه السنة سيفسح المهرجان المجال للعروض المحلية الشبابية، إذ سيقدّم المخرج اللبناني الشاب هشام جابر مسرحيته الغنائية “بار فاروق” في 20 و21 و22، وهو عرض غنائي موسيقي يحاكي موسيقى المسارح والكباريهات التي كانت منتشرة في بيروت في فترة الثلاثينات، وصولاً الى سبعينات القرن الماضي قبل اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية.

barfarouk_s

وسيرى الجمهور لوحات تتضمّن عشرات الأغنيات يؤديها 14 فناناً وفنانة بين موسيقيين، ومغنين، وممثلين وراقصين، يأخذوننا إلى الزمن الجميل الذي كانت تعيشه بيروت في تلك الفترة.

في 27 آب، سيصدح صوت السوبرانو الكلاسيكية أنا نيتربكو في بيت الدين، مع مشاركة ليوسف إيفازوف.

أما الختام ففي 4 ايلول حيث تعود أم كلثوم الى بيت الدين في حفلة خاصة “كلثوميات مع ريهام عبد الحكيم” وهي واحدة من الاصوات الرائعة التي تمتلك الموهبة والقدرة على إحياء الأغاني الخالدة لكوكب الشرق أم كلثوم، ترافقها أوركسترا أميرعبد المجيد.