كيف إقترح كمال جنبلاط مواجهة هزيمة 1967؟

إستعداداً لقمة الخرطوم الشهيرة  التي عقدت بعيد نكسة 1967 والتي تمخضت عنها اللاءات الثلاث الشهيرة: لا صلح، لا إعتراف ولا تفاوض، عقد وزراء الخارجية العرب إجتماعاً في العاصمة السودانية لمناقشة جدول أعمال القمة المرتقبة  وأبرز المقررات التي من المفترض أن تصدر عنها. وكتب المعلم الشهيد كمال جنبلاط مذكرة تضمنت أبرز مقترحاته لتجاوز المفاعيل السلبية لتلك الهزيمة التي ولدت شعوراً من الإنكسار والإحباط والإنهزام على مستوى الوطن العربي برمته. وأبرز ما إقترحه جنبلاط آنذاك كان إستخدام سلاح النفط ووقف إمداد الغرب به وهو ما عاد وحصل لاحقاً في تشرين الأول 1973 وأدى الى أزمة عالمية واستمر لغاية آذار 1974 وشكل محطة مفصلية في مجريات الصراع آنذاك.

فماذا إقترح كمال جنبلاط في تلك المذكرة الشهيرة التي أرسلها الى مؤتمر الخرطوم في 2 آب / أغسطس 1967؟

‏بمناسبة إنعقاد مؤتمر وزراء الخارجية العرب في الخرطوم ـ  وهو أول اجتماع لممثلي الدول العربية بكافة أقطارهم يعقد بعد النكسة ـ يهمنا أن نعلن بعض ما يتوقعه الرأي العام العربي من هذا الالتقاء، وأن على العرب أن يثبتوا أنهم في مستوى القيام بالتبعات التاريخية الملقاة على عاتقهم وأنهم جديرون بالاضطلاع بما يتطلبه الموقف من تدابير وقرارات ومخططات حاسمة في جميع الحقول السياسية والاقتصاد والنفط والحرب‏ والاعلام، تكفل القضاء على العدوان الإسرائيلي والدعم الاستعماري له، وتمهد لحل مشكلة فلسطين بما يتفق مع أماني العرب… ويجب أن لا يشك أحد من الرسميين أو المواطنين العرب إنهم لا يزالون في مركز من القوة السياسية والاقتصادية والعسكرية يستطيعون منه أن ينطلقوا وأن يتغلبوا على العدوان وأن يهزموا الاستعمار وأن يجعلوا الولايات المتحدة ‏وبريطانيا والدول الأوروبية المعادية لهم تذعن للحق العربي وتسعى لكسب ودهم وتنقلب لمساعدتهم ولتأييد وجهة نظرهم في الحلول المقترحة… وقبل أن نطلب العون والتضحية والمساندة والعمل من الغير، علينا أن نجمع على تأييد ومساندة وجهد وتضحيات أنفسنا. والرأي العام العالمي سيقّيم إلى عشرات السنين جدارة العرب في المستوى الرسمي في مواجهة قضاياهم المصيرية الكبرى.

وأول ما يجب أن يؤكده مؤتمر وزراء الخارجية العرب هو تجنب ‏المساومة الداخلية والمشاحنات في أي قضية سياسية قائمة اياً كانت خطورتها… فالوضع العدواني الراهن يتعدى جميع الخلافات ويتعلق بكرامة الشعب العربي في كل مكان وبشرفه وبمستقبله وبمصيره.

Khartoum_Arab_Summit,_1967

‏ونعود فنؤكد ضرورة اتخاذ التدابير والقرارات الرئاسية التالية لأجل مواجهة العدوان بما يتوجب من مجابهة  قادرة:

‏أولا ــ  قطع موارد النفط بشكل صارم كلي عن جميح دول العالم لمدة ثلاثة أشهر فقط وتأميم الأسهم التي تمتلكها في النفط العربي دول أميركا وبريطانيا وهولندا وشركاتها… وأن نؤمن بعض التدابير المالية الضرورية لإحدى الدول العربية التي ترتكز موازنتها العادية إلى النفط. إن الامتناع الكلي عن ضخ النفط العربي هو السلاح الرئيسي الأساسي من الوجهة الاعلامية والسياسية، والذي سيجعل الدول المعادية للعرب تعيد فورا النظر في سياستها ومخططاتها المناهضة لمصالح وقضايا العرب، وأننا نكرر الاعلان بأن العالم الحر يستورد من النفط العربي ما يعادل استهلاكه العام ونيف، ولا يوجد له مصدر آخر للتعويض عن مصدر هذا الاستيراد حتى ولا بشكل جزئي محسوس… ونسبة هذا الاستهلاك للنفط العربي من جانب الدول الأوروبية والولايات المتحدة بشكل خاص سترتفع كثيرا في السنوات القادمة… فقد استهلك العالم سنة 1965 ‏من النفط ‏أكثر مما استهلك في النصف الجيل الذي يسبق…

‏ثانيا ــ  يجب أن تسحب الأرصدة والودائع العربية من مصارف بريطانيا والولايات المتحدة وسواها من الدول المعادية لقضايا العرب… وأن يتم سحب هذه الأرصدة والودائع ذهبا، وأن ينقل هذا المال إلى مصارف الدول التي وقفت الى جانب الحق العربي أو كانت محايدة على الأقل ومنها فرنسا.

كمال جنبلاط وعبد الناصر

ثالثا ــ يجب أن نعد العدة الكاملة للمعركة القادمة علينا… لأننا إن لم نبادرها فسيباشرها الصهيونيون. فإقرار التجنيد الإلزامي المقرون بالخدمة الاجتماعية، والتدريب الشعبي الشامل في البلدان العربية التي لا توجد فيها هذه الأنظمة هي أمور لا مفر من تحقيقها… ويتوجب كذلك إنشاء صندوق عام للتمويل العسكري لا يقل عن مايتين وخمسين مليون ليرة ‏استرلينية تسهم فيه بشكل رئيسي الدول المنتجة للنفط العربي.

كما يتطلب الموقف توحيد القيادة العربية والجيوش العربية، أو على الأقل بعضها… ففي المعركة الأخيرة مع إسرائيل والعدوان الاستعماري الذي كان يساندها ويدعمها، نكاد نقول ـ لولا اشتراك بعض قطعات لبعض الجيوش العربية ـ إن الجمهورية العربية المتحدة تصدت للعدوان وحدها ‏بكافة طاقاتها… ولا يعقل لأي ضمير عربي أن تبلغ موارد النفط العربي المليارين ونصف المليار من الدولارات في سنة 1966، وأن لا نستطيع أن نستخدم جزءاً كبيراً من هذا المال للمصلحة العربية.

مصر

‏وفي هذا المجال من التدابير، لا بدّ من تحقيق الجلاء الفوري عن القواعد العسكرية التي لا تزال في حوزة بريطانيا والولايات المتحدة في الشرق.

‏رابعاً ـ  يجدر إعادة النظر في علاقاتنا الاقتصادية والسياسية والخارجية، وبشكل خاص توجيه هذه العلاقات بالنسبة للمصلحة العربية في الإنتاج وبالنسبة للدول الصديقة أو المعادية لنا، وأن نتوجه أكثر فأكثر في تجارتنا واستيرادنا وتصديرنا إلى الاتحاد السوفياتي والصين الشعبية ودول شرقي أوروبا وفرنسا وسواها من الدول الصديقة. كما يجب الاعتراف بالصين الشعبية التي هي من أصدق أصدقاء العرب وأقدر المجابهين للاستعمار بشتى أشكاله في العالم… ويجب أن ننشيء أفضل العلاقات مع المانيا الشرقية… فمقاطعة البضائع والسلع والسفن الأميركية والبريطانية والألمانية الغربية والهولندية والكندية خاصة فيما يعود للسلع الاستهلاكية التي تنتجها بلادنا، أمر واجب وسلاح فعال.

‏فالغرب لا  يتوجه أو يتأثر إلا بمصالحه الاقتصادية والسياسية…

خامسا ـ  يجب أن يطرح على بساط البحث والتقرير، تأييد الحركة الثورية الزنجية في الولايات المتحدة، الرامية إلى تحقيق السيادة والاستقلال لخمس وعشرين مليون من الزنوج الذين ما فتئت الحضارة والأنظمة الأميركية البيضاء تضطهدهم وتكافحهم وترفض منحهم حقوقهم الرئيسية في العيش والكرامة الإنسانية وفي المشاركة في حياة المجتمع والدولة… فتأييد قيام الوطن القومي الزنجي من جانب العرب في الأمم المتحدة وخارجها، سيكون له أكبر الأثر في أفريقيا وآسيا والدول الاشتراكية وأميركا اللاتينية بشكل خاص، وسيجمع حول العرب أوسع تأييد…

image5

 إن مأساة الزنوج التاريخية في الولايات المتحدة هي من أصعب وأشد القضايا إيذاء للضمير الإنساني. وبعد، فأنه أجدر بحكومة الولايات المتحدة التي تدعم بشكل لا عقلاني ولا أخلاقي ولا إنساني، استيطان مليونين من اليهود الأوروبيين والأميركيين في إسرائيل المغتصبة من أهلها الأصليين بعد ألفي سنة من توزع اليهود عنها، إنه أجدر بالدولة الديمقراطية الغربية الكبرى، أن تمنح الاستقلال لخمس وعشرين مليون من الزنوج القائمين على أرضها ‏منذ مئات السنين والراغبين في التحرر من الاضطهاد والسيطرة الأميركية… وعلى العرب أن يتبنوا قضية الزنوج الأميركيين  في جميع الأندية الدولية…

‏وعلى ممثلي العرب في مؤتمرهم الخطير  في الحرطوم، أن يدعموا موقف الرئيس شارل ديغول وفرنسا وموقف الكنديين الإفرنسيين الراغبين هم أيضاً في الاستقلال في ولاية كيبيك، والذين سبقوا البريطانيين في الهجرة الى كندا (…).

‏ ‏سادساً ـ  على ممثلي العرب أخيراً، أن يتفقوا على سياسة موحدة للإعلام تعيد النظر بتمثيلنا الخارجي الذي يتفرغ أربابه معظم الأحيان للتلهي والكسل والمآدب، وأن يتوجه هؤلاء إلى اعتماد الأساليب العلمية وتكليف الشركات المختصة بالأمر، وتعديل وتبديل كافة أجهزة الإعلام بما يتناسب وعلوم العصر وضرورة مخاطبة كل بما يهمهه ويفهمه ويتفق مع شعوره وعقله، كما يجدر الاهتمام خاصة بالشبيبة في جميع البلدان لمثل ‏هذا الغرض وتفهيمها القصد العربي.

‏إن الرأي العام العربي يتطلع إلى مؤتمر الخرطوم بكثير من الأمل وبقليل من التحفظات، فعلى ممثلي العرب أن يرتفعوا إلى مستوى مسؤولياتهم القومية والتاريخية بالنسبة للأمة العربية في جمع أقطارها، وعليهم أن يبرهنوا للعالم أنهم في مستوى هذه الرسالة… قد لا ينفع حذر من قدر، ولكننا نحن الذين بمساهمتنا الإيجابية أو استنكافنا السلبي، نصنع هذا القدر في علاقة الفاعل للفعل والسبب للعلة والنية للنشاط… هي قاعدة السببية ذاتها التي تتحقق في العلوم المادية والعلوم الاجتماعية والنفسية على السواء وتشمل الطبيعة بأسرها بما فيها الإنسان… فلنكن من صانعي هذا القدر.

——————————–

(*) المصدر: كمال جنبلاط. “كيف يجب أن يعالج العرب قضاياهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية”. الدار التقدمية 2015، ص 164-168