استراتيجية تنظيم الدولة الاسلامية: البقاء والتمديد

تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) هو مجموعة جهادية هجينة لها هدف مُعلَن يتمثّل في إقامة خلافة “باقية وتتمدّد”. واستراتيجية التنظيم للبقاء والنمو تشمل معاً عناصر عسكرية وسياسية واجتماعية واقتصادية. ومع ذلك، اقتصر التدخّل الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة ضد التنظيم، إلى حدّ كبير، على الغارات الجوية. لذا، الثغرات في مقاربة التحالف الدولي، إلى جانب الانقسامات الطائفية العميقة في العراق والاستراتيجيات المتغيّرة للنظام السوري وحلفائه، تتيح لتنظيم داعش مواصلة البقاء والتمدّد.

فهم تنظيم الدولة الإسلامية

  • يواجه تنظيم الدولة الإسلامية تحديات داخلية كبيرة، بما فيها: تظلّمات حيال وحشيته والسلوكيات المُبهَمة لأسلوب الحكم الذي يعتمده، وقدرات حوكمية محدودة، وتوترات في صفوفه بين المقاتلين الأجانب والمحليين.
  • تطوّرت مع الوقت المقاربة العسكرية لتنظيم الدولة الإسلامية، من تشديد على الحرب الهجومية إلى تركيز على العمليات الدفاعية أكثر، ومؤخراً، إلى محاولاتٍ لاستغلال مكامن الضعف السياسية والعسكرية لأعدائه، كما فعل في منتصف العام 2015 حين أحرز تقدّماً في تدمر في سورية والرمادي في العراق.
  • على المستويَين الاقتصادي-الاجتماعي والسياسي، تفيد هذه الجماعة السنّية المتطرفة من ديناميكيّتَين قويّتَين: استمرار الصراع السوري، والحنق الذي يعتري سنّة العراق جرّاء إقصاء بغداد المنهجي لهم.

كيف يستطيع اللاعبون الإقليميون والغرب محاربة تنظيم الدولة الإسلامية

استغلال نقاط ضعف التنظيم. ينبغي على الغرب وحلفائه الإفادة من التحديات الداخلية التي يواجهها التنظيم الجهادي لإضعافه من الداخل.

تجاوز الغارات الجوية. ينبغي ألّا يقتصر التدخّل العسكري ضد تنظيم الدولة الإسلامية على الغارات الجوية، بل يجب أن يشمل أيضاً عمليات بريّة تقودها القوات العسكرية السورية والعراقية بالتنسيق مع التحالف الدولي.

دعم المعارضة المعتدلة في سورية. ينبغي على الغرب وحلفائه توطيد القدرات العملاتية والحوكمة لدى الجبهة الجنوبية في الجيش السوري الحر، التحالف الوحيد للمعارضة المعتدلة، الذي يقاتل كلّاً من داعش والنظام في سورية.

إنشاء حرس وطني في العراق. من شأن قوة متعدّدة المذاهب والإثنيات أن تساعد على إعادة ثقة السنّة في مؤسسات الدولة، وتوسيع الانخراط المحلّي في القتال ضد تنظيم الدولة الإسلامية.

دفع تركيا إلى تأدية دورٍ أكبر. ينبغي على تركيا أن تسمح لطائرات التحالف الدولي باستخدام القواعد التركية، مايتيح لها مجالاً أفضل لبلوغ أهداف داخل سورية.

إيجاد حلّ للصراع السوري. ينبغي على الغرب وحلفائه بدء مفاوضات حول تسوية سياسية في سورية، لأنه من دون هذه التسوية لايمكن تدمير داعش.

مقدّمة

كان صعود تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسورية مؤشراً على بدء حقبة جهادية جديدة. فداعش أعلن عن هدف بعيد المدى، هو إقامة دولة إسلامية، أو خلافة، تستند إلى اجتهادات متطرفة للغاية في الشريعة، ماجعله أكثر من مجرد تنظيم إرهابي، على الرغم من أن أصوله ترقى إلى كونه فرعاً من تنظيم القاعدة في العراق.

والحال أن تنظيم الدولة الإسلامية هو مجموعة هجينة. فهو صادر الإيديولوجيا الإسلامية الراديكالية للقاعدة، وعمد في الوقت نفسه إلى تطبيق نموذج القيادة المركزي لحزب الله اللبناني، وبعض التكتيكات من بُنى الحوكمة المحلية لحركة طالبان الأفغانية.

اعتمدت استراتيجية داعش في البقاء والنمو على مروحة من العوامل: البراغماتية في مايتعلّق بالنظام السوري؛ والسيطرة على الأراضي وتطويرها كوسيلة لسَوْس السكان وجذب المقاتلين الأجانب؛ واستخدام الإيديولوجيا والإعلام كأداة للسيطرة على الناس، وتجنيد المقاتلين، وجمع الأموال، وتطوير استراتيجية عسكرية مركزية.

منذ توسّع التنظيم داخل سورية في العام 2013، انخرط هذا التنظيم السنّي المتطرف في معركة وجودية مع القاعدة. وهو، وعلى الرغم من كل وسائله الاستراتيجية، طرح نفسه بكونه القاعدة “الحقيقية”، وشدّد على أنه يعمل على تحويل هدف القاعدة الإيديولوجي، الخاص بإقامة دولة إسلامية، إلى حقيقة واقعة ومُعاشة. وهذا ماوفّر له وهجاً من الصدقية وجذب إليه المتبرّعين والأعضاء الجدد.

لكن، وعلى الرغم من أن الإيديولوجيا تلعب دوراً مهماً في طبيعة عمل داعش، إلا أن أهدافه الاستراتيجية ليست منساقة بالإيديولوجيا وحدها، بل تتمحور حول حيازة الأموال، والموارد، والقوة. ولذا، إقامة الخلافة في العراق وسورية هي مجرد البداية، لا النهاية، لهذا التنظيم.

المفتاح الرئيس لفهم حقيقة الأهداف بعيدة المدى لتنظيم الدولة الإسلامية يكمن في شعاره “باقية وتتمدّد”. بيد أن هذا لايعني، ببساطة، مجرّد التوسُّع الجغرافي غير المحدّد للحدود المادية للخلافة، بل أيضاً توسيع النفوذ العالمي بهدف تعزيز قابلية مشروع الدولة للبقاء والاستمرار.

إن إعلان إقامة الخلافة في حزيران/يونيو 2014، غداة الإنجازات العسكرية لداعش في العراق، أسفر عن تدخل دولي اتخذ شكل تحالف تقوده الولايات المتحدة لمنازلة هذا التنظيم. والغارات الجوية التي تلَت ذلك فرضت تحدياً مباشراً على قدرة تنظيم الدولة الإسلامية على البقاء والتمدُّد. ومع ذلك، هذا التدخُّل كان ذا مدى محدود وواجه عقبات عدة. السبب الرئيس في مثل هذا الضعف هو تركيز التحالف على العمليات العسكرية المحدودة، التي تتجاهل العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية الكامنة في استراتيجية تنظيم الدولة الإسلامية.

 

في هذه الأثناء، يُواجِه تنظيم الدولة الإسلامية عدداً من التحديات التي تضغط عليه كي يعدّل نشاطاته في مسرح العمليات. فالتوترات الداخلية الناجمة عن وسائل داعش في الحوكمة، ومحاولاته المتواصلة لتوحيد فئات تتحدّر من أصول إثنية ووطنية متباينة في إطار مظلة واحدة، دفعت التنظيم إلى التحوُّل إلى الداخل وبذل الجهد لكسب الوقت، إلى حين تَمكُّنِه من تربية جيل جديد من الأنصار الذين يُفترَض أن يشكّلوا أوائل مواطني الخلافة “المحليين والأهليين”.

بسبب قيامه بهذه الخطوات، تحوّل التنظيم من العمليات المُعَدّة مسبقاً، إلى أخرى تقتنص الفرص الناجمة عن ضعف خصومه. وهذا الضعف يتعلّق بغياب كلٍ من الحل المناسب للتوترات الطائفية في العراق والحل الشامل للنزاع السوري. وطالما أن مثل هذه الثغرة باقية، يُحتمل أن يواصل داعش البقاء والتمدُّد، كما فعل في أواسط العام 2015 حين تقدّم في تدمر في سورية والرمادي في العراق.

عناصر استراتيجية تنظيم الدولة الإسلامية

تُعتبَر استراتيجية داعش متنوعة وتستند إلى البراغماتية، كما إلى دمج ماهو عسكري بما هو إعلامي وسياسي-اجتماعي. وهذا مامنحه اليد العليا فوق الجماعات الإسلامية الأخرى في سورية والعراق.

العلاقة البراغماتية مع النظام السوري

يفيد تنظيم الدولة الإسلامية والنظام السوري بشكل متبادل من بعضهما البعض، وبالتالي العلاقة بينهما براغماتية إلى حد بعيد. فنظام الرئيس بشار الأسد كان زبوناً اقتصادياً لتنظيم الدولة الإسلامية، كما أنه سهّل بشكل غير مباشر نشاطات هذا الأخير العسكرية. وفي المقابل، ساعد التنظيم على تعزيز سردية النظام بأنه يقاتل المتطرفين الإسلاميين، وهي مقاربة استخدمها هذا الأخير منذ اندلاع الانتفاضة السورية في العام 2011 لتشويه سمعة المعارضة السورية.

لمع نجم داعش أولاً في سورية في المناطق التي خسرها النظام أمام المعارضة، والتي كانت بعيدة عن خطوط الجبهة. لم يكن لمجموعات المعارضة وجود عسكري كبير في تلك الأراضي (وكانت في معظم الحالات تركّز على مقارعة النظام في أماكن أخرى)، ماجعل هذه المناطق مثالية لتنظيم الدولة الإسلامية. لم يضع النظام في صلب أولوياته ضرورة استعادة هذه المناطق، لأن الأسد حَسَبَ على مايبدو أن السماح لداعش بالعمل فيها ومقاتلة المعارضة السورية وجبهة النصرة، سيضعف كل خصومه، وأنه حالما يتم استئصال هذه المعارضة سيتمكّن النظام من السيطرة على الدولة الإسلامية.  في المقابل، لم يضع داعش ضمن أولوياته مقاتلة النظام، واعتقد أنه يستطيع بسهولة التغلّب عليه مستقبلاً، مركِّزاً بدلاً من ذلك على بناء دولته داخل الدولة (السورية).

والواقع أن غياب خطوط المجابهة مع داعش منح النظام ذريعةً لعدم مقاتلته، ووفّر لهذا التنظيم المتشدّد القدرة على الإمساك بهذه الأراضي وتجنيد المقاتلين المحليين والأجانب. كما أن عدم اندلاع القتال شجّع العديد من السوريين على الانتقال إلى الأراضي التي يسيطر عليها داعش، سعياً للحصول على الأمن لا الإيديولوجيا. جاء هذا في وقتٍ كانت المعارضة السورية تتشظى، بسبب كلٍّ من الخلافات السياسية وفقدان الاستراتيجية العسكرية المستدامة.

استولى تنظيم الدولة الإسلامية على مناطق غنيّة بالموارد، بدءاً من أواسط العام 2014، في محافظة الرقة الشمالية، وأصبح في خاتمة المطاف مكتفياً ذاتياً على المستوى المالي في سورية من خلال بيع النفط، والقمح، والمياه، وطلب الفدية مقابل إطلاق الرهائن الأجانب، وفرض المكوس والضرائب على السكان المحليين.

كان النظام السوري شريكاً اقتصادياً أساسياً لهذا التنظيم الذي كان يبيع النظام النفطَ من الآبار السورية بأسعار متهاودة. وعلى الرغم من أن داعش كان يبيع النفط أيضاً إلى الجيش السوري الحر وجبهة النصرة، اللذين بدورهما سهّلا وأفادا من بيع النفط في السوق السوداء في تركيا، إلا أن هذه العملية تقلّصت إلى حدٍّ كبير بعد أن عمدت تركيا إلى مضاعفة عمليات الرقابة والتدقيق على حدودها مع سورية. لكن النظام بقي، على أي حال، الزبون الرئيس لداعش.

بدأت قوات الحكومة السورية بمهاجمة المناطق التي يسيطر عليها داعش في حزيران/يونيو 2014، بعد أن بات توسُّع هذا الأخير في العراق يهدّد بزعزعة استقرار المناطق الشيعية القريبة من حدود إيران حليفة الأسد. بيد أن معظم العمليات العسكرية لنظام الأسد كانت موجّهة ضد الجيش السوري الحر. وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2014، كشف تقرير لمركز جاين (Jane’s Terrorism and Insurgency Center) أنه حتى ذلك الوقت، لم يوجِّه الجيش السوري سوى 6 في المئة فقط من عملياته ضد أهداف تابعة لتنظيم الدولة الإسلامية.

تواصلت العلاقة البراغماتية بين داعش والنظام السوري، على الرغم من قيام هذا الأخير بقصف الرقة في أواخر العام 2014. ويبدو أن الطرفين يواصلان التنسيق في مجال توفير خدمات مثل الكهرباء، حيث أن هذه الجماعة المتشددة تُسيطر على عدد من السدود على الحدود العراقية- السورية، فيما يواصل النظام دفع رواتب معظم موظفي الدولة المقيمين في المناطق التي يسيطر عليها داعش.

يمكن أيضاً لحظ براغماتية النظام في السلبية والهمود اللذين يُطِل بهما على تحركات هذا التنظيم في المناطق التي تتواجد فيها على نحو بيّن منظمات معارضة أخرى. فالنظام لم يكن حجر عثرة حين اقترب مقاتلو تنظيم الدولة الإسلامية في العام 2014 من جبال القلمون على الحدود اللبنانية- السورية، بهدف مقاتلة الجيش السوري الحر المتواجد في تلك المنطقة. كما أنه لم يتدخل في أوائل العام 2015، حين استولى داعش على مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين قرب دمشق (وقاتل الجماعات المناوئة للنظام خلال هذا الهجوم). وتكرر السيناريو نفسه حين هاجم داعش مدينة تدمر الصحراوية التاريخية في أيار/مايو 2015، على الرغم من أنه لم يكن هناك تواجد مهم للمعارضة في تدمر، على عكس اليرموك. وفي أواسط العام 2015، بقيت المواجهات مع النظام محدودة في مناطق مثل ريف حماه، وحقل الشاعر النفطي، ومقاطعة دير الزور الشرقية، ثم منذ أيار/مايو 2015 في حلب أكبر مدن سورية.

في الوقت نفسه، تجنّب تنظيم الدولة الإسلامية شن هجمات على مناطق محدّدة تابعة للنظام، تقع بين الأراضي التي يسيطر عليها وبين تلك التي تُهمين عليها منافسته جبهة النصرة، وبذلك شكّلت منطقة عازلة بين الطرفين. وقد حاول داعش تجنُّب بروز خطوط مجابهة مع جبهة النصرة، لأن كلا الجماعتين تعتبران أن القتال بينهما سيحرفهما عن أهدافهما الرئيسة (بناء صرح الخلافة بالنسبة إلى داعش، ومنازلة النظام بالنسبة إلى النصرة). وهذا كان واضحاً في شرق حماه، وكذلك في منطقة مطار أبو الضهور التي يسيطر عليها النظام على حدود إدلب-حلب شمال غرب سورية. لم تحاول أي من الجماعتين اجتياح المطار، منذ فشل محاولة النصرة القيام بذلك في كانون الثاني/يناير 2015، حين أسفر هجومها عن وقوع عددٍ كبير من الإصابات في صفوفها على أيدي قوات النظام، مادفعها إلى وقف العملية في قرية تل سلمو التي تقع في ضواحي هذه المنطقة.

بيد أن استيلاء جيش الفتح المنافس لداعش، والذي تُعتبر النصرة عنصراً رئيساً فيه، على إدلب في نيسان/إبريل 2015، ثم توسُّع هجمات الجيش شمالاً نحو حلب، أحرج تنظيم الدولة الإسلامية ودفعه في أيار/مايو 2015 إلى تصعيد هجماته على مناطق النظام في حلب، وإلى الانخراط في بعض المجابهات العسكرية مع جيش الفتح.

بيد أن هذا التغيير في العلاقة الديناميكية بين تنظيم الدولة الإسلامية وبين النظام لايشي ببدء تفكك النزعة البراغماتية لدى الطرفين. فالنظام لم يخُض بعد أي معارك ذات شأن مع داعش، لأنه إذا ماتمكّن هذا الأخير في نهاية المطاف من استئصال الفصائل الإسلامية الأخرى، فإن اللاعبين الأساسيين اللذين سيبقيان هما نظام الأسد وتنظيم الدولة الإسلامية. وحينها سيكون النظام قادراً على مناشدة الأسرة الدولية تقديم الدعم له. ومن جهته، يبدو أن داعش يبني حساباته على أنه قادر على سحق النظام.

السيطرة على الأراضي والنمو

على عكس القاعدة، تلك المنظمة الإرهابية التي وضعت نصب عينيها هدفاً رئيساً هو إقامة إمارة إسلامية في الشرق الأوسط في مستقبل غير منظور، يطرح تنظيم الدولة الإسلامية هدفاً واضحاً هو الإقامة الفورية لدولة الخلافة. وفي حين أن القاعدة استهدفت دوماً تقويض ترتيبات القوة الراهنة (الدول الغربية، والنظام السوري) من دون طرح بدائل محددة، يتقدم داعش خطوة أكثر إلى الأمام ويُعلن عن رؤية لنظام دولة يحل مكان الأمر الواقع الراهن.

السعي إلى هذا المشروع السياسي شكّل نقطة جذب لقطاعات مهمة من السكان في الشرق الأوسط وخارج المنطقة، ومَحَضَ أنصار تنظيم الدولة الإسلامية هدفاً ملموساً يمكن السعي إلى تحقيقه.11 وعلى سبيل المثال، حين سُئل مقاتل أجنبي في الرقة لماذا لاينخرط في الجهاد في موطنه، أجاب: “لأن الدولة الإسلامية الحقيقية موجودة هنا”. 

أنصار محليّون

يحتاج تنظيم الدولة الإسلامية إلى أنصار محليين لبناء صرح حكمه. ولذا فهو ينتهج صيغة “طهّر، تمسّك، إبنِ”، التي غالباً ماترتبط بالنموذج العملياتي للجيش الأميركي، لكنها تنطبق أيضاً على حزب الله، في سياق سياسة اجتذاب السكان المحليين. فالجماعة تُسيطر على الأرض، خاصةً تلك الغنية بالموارد الطبيعية كالنفط والماء، والمدن، حيث يكون في وسعها في نهاية المطاف فرض الضرائب والانخراط في عمليات “تطهير” تلك المناطق من الجماعات الإسلامية الأخرى, وبعدها تبدأ بتطبيق هيكلية الحوكمة الخاصة بها.

توفير الخدمات أداة رئيسة يستخدمها داعش لاجتذاب سكان المناطق الواقعة تحت سيطرته، وهو قام في بعض الأحيان بتفكيك مؤسسات قائمة وسعى إلى تطبيق هياكل الحوكمة الخاصة به من خلال إقامة المحاكم، وسلك الشرطة، والمدارس، وفرض مبادئ الشريعة.

في الرقة، أفاد داعش أيما إفادة من سياسة النظام الخاصة بمواصلة السماح بوصول خدمات الدولة الأساسية إلى السكان المحليين، وأيضاً مواصلة دفع رواتب الموظفين الرسميين. وهذا أراح تنظيم الدولة الإسلامية من عبء توفير هذه الخدمات مباشرة بنفسه. وفي المقابل، يُطل داعش على مقدِّمي الخدمات الأجانب، على غرار المنظمات الدولية والإنسانية، على أنهم مُتسلّلون يهددون أمنه.

صحيح أن داعش يصادر في بعض الأحيان مدارس ومؤسسات أخرى، لكنه يعطي من يعملون فيها “خيار” البقاء في مناصبهم، لكن تحت سيطرته.

إن الهيمنة على التربية والتعليم تدعم الرؤية بعيدة المدى لتنظيم الدولة الإسلامية الهادفة إلى ضمان الرضوخ الفوري لتعاليمه في المناطق التي يُسيطر عليها. وكانت طالبان تحاول تحقيق هذا الهدف في أفغانستان، من خلال استبدال المدارس بمؤسسات “دينية”، ومنع النساء من تلقي التعليم. ومثل هذه المقاربة تستهدف في نهاية المطاف خلق فئات من الأُميّين والجَهَلَة الذين تسهل السيطرة عليهم مع تقادم الزمن حين تموت أجيال وتُربّى أجيال أخرى داخل هذه الإيديولوجيا الخانقة. داعش استخدم أسلوباً مماثلاً إلى حدّ ما ولكن بتكتيكات مُعدَّلة، فصادر مؤسسات دولتية وغير دولتية، وضخّ فيها إيديولوجيته بهدف تربية جيل جديد ومُذعن برمته. وفي الرقة، أعاد داعش افتتاح 24 مدرسة (12 للأطفال و12 للفتيات) تدرّس مناهج تعليمية جديدة أقرّتها الجماعة. و”الدروس الدينية” لداعش، التي هي في الحقيقة مواد تلقينية تدوم من شهرين إلى ستة أشهر، تُقدَّم أيضاً إلى المراهقين والبالغين، ويجب أن يتدارسها كل المقاتلين الجدد.

خلال انخراطه مع السكان المحليين، أفاد تنظيم الدولة الإسلامية من الوحشية المتمادية للنزاع السوري، ومن تظلمات الفئات السنّية العراقية من سياسات الحكومة العراقية. وفي سورية، كما مع طالبان في أفغانستان، برز داعش من سياقات اجتماعية- اقتصادية لسكان أرهقتهم سنوات الحرب، وحوّلت حياتهم إلى مجرد الركض وراء رمق العيش. وقد أدى عنف الحرب، خاصة نتيجة لسياسات النظام، إلى حرف أنظار الناس عن مطالب الديمقراطية، وحرية التعبير، وحرية التنقل، والسياسة. بات هاجس البقاء هو الهم الأول لقطاعات واسعة من السوريين.

كل هذا ساعد تنظيم الدولة الإسلامية على أن يظهر كمنظمة تعمل على إعادة الأمن والاستقرار، ماعزز جاذبية خطابه في صفوف السكان المحللين. والحال أن استيلاء داعش على الرقة ومناطق أخرى، حيث ادّعى أنه حقق انتصارات سريعة، جاء بعد أن كانت هذه المناطق في قبضة جماعات معارضة مختلفة، تعرَّض خلالها السكان إلى ممارسات مثل السلب والنهب، وفرض الضرائب، واحتلال المنازل، وأشكال أخرى من الفساد. وعلى سبيل المثال، هناك حالة حسان جزرا، وهو مجرم معروف. حصل جزرا، بفعل اتصالاته الشخصية، على حكم البراءة من محكمة إسلامية أقامتها جماعة إسلامية في حلب. وبعد أن استولى تنظيم الدولة الإسلامية على أحياء في المدينة في أواخر العام 2013، أقدم على إعدام جزرا وتسعة من أعضاء عصابته، وهي خطوة حظيت بدعم شعبي واسع.

وفي العراق، أفاد داعش من الغضب السنّي على سياسات الاقصاء المنهجي السياسي والاقتصادي التي مارسها رئيس الحكومة السابق نوري المالكي في مناطقهم، ما أدّى إلى شعور هذه المناطق، التي تقطنها القبائل بكثافة، بالغربة عن السلطة المركزية.

لقد زوّدت الولايات المتحدة الجيش العراقي بالعتاد والأسلحة غداة غزو العام 2003، لكن مثل هذا الدعم لم يترافق مع إجراءات الحوكمة الحكيمة لضمان عملية المساءلة. وهذا ترك الباب مُشرعاً أمام الفساد والتمييز ضد مجتمعات محلية عراقية، خاصةً منها السنّية. ثم أتى النفوذ الإيراني على الحكومة العراقية ليفاقم الشرخ المذهبي، بعد أن عمدت الجمهورية الإسلامية الإيرانية إلى دعم قيام ميليشيات شيعية في العراق لمقاتلة الدولة الإسلامية.

داعش استثمر هذه التوترات وطرح نفسه كأداة للدفاع عن السنّة. وفي الإعلام كما في المقابلات وجهاً لوجه، استخدم التنظيم سرديات الإذلال والتمييز ضد السنّة، إضافةً إلى دعاوى إعادة العالم إلى “الصراط المستقيم” من خلال مقارعة “المرتدّين” (الذين بايعوا الدولة الإسلامية ثم ارتدوا عن ذلك) و”الكفّار” (بما في ذلك المسيحيين والأقليات الأخرى)، و”الخونة” (السنّة الذين لايدعمون الجماعة)، و”الرافضة” (الشيعة).

لم يُواجِه تقدّم داعش في الموصل في حزيران/يونيو 2014 سوى مقاومة ضئيلة من جيش عراقي لايشعر فيه الجنود السنّة بالانتماء إلى العراق كدولة. ولم يفعل دعم الحكومة العراقية لتشكيل مزيد من الميليشيات الشيعية (بما في ذلك تلك التي خسرت معركة مدينة الرمادي المركزية في أيار/مايو 2015) شيئاً سوى تعميق التوترات المذهبية، ماساعد تنظيم الدولة الإسلامية على الحفاظ على روابطه القوية مع القبائل السنّية. ولهذا السبب، من مصلحة داعش استمرار الصراعات الطائفية في الشرق الأوسط.

إغواء، ثم وحشية

العديد من أعضاء داعش انضموا إلى هذا التنظيم لدواعٍ اقتصادية. ففي سورية، على سبيل المثال، تخلّى بعض مقاتلي الجيش السوري الحر عن مواقعهم، التي كانت تُدِرّ عليهم 60 دولاراً شهرياً، للانضمام إلى جبهة النصرة، التي عرضت عليهم 300 دولار شهرياً، ثم التحقوا في مابعد بتنظيم الدولة الإسلامية الذي عرض عليهم رواتب أعلى.

يسعى داعش أيضاً إلى زيادة عدد سكان المناطق التي يسيطر عليها عبر جذب الأعضاء الأجانب، ليس فقط كي يصبحوا مقاتلين بل أيضاً مقيمين. الأجانب يُعتبرون عناصر جذابة، لأنهم غالباً مايحوزون على مهارات قد تمكّن داعش من تحقيق هدفه بإقامة دولة مستدامة. ولذلك يُعرض على الأعضاء الأجانب، مثل التكنوقراط، رواتب أعلى من الأعضاء المحليين (1200 دولار و400 دولار شهرياً على التوالي، على مايُقال، إضافةً إلى علاوات عائلية).

بيد أن الحاجة الاقتصادية ليست العامل الوحيد المحفِّز على الانضمام. فالعديد من الأعضاء انضموا إلى التنظيم سعياً وراء هدف أعلى، كالإحساس بالهوية، والسلطة. وبالنسبة إلى الأفراد العاديين في الشرق الأوسط أو في أي مكان آخر، يوفِّر تنظيم الدولة الإسلامية لهم الفرصة كي يصبحوا استثنائيين بين ليلة وضحاها. هذه الجاذبية، التي تُشبه تلك التي تقدمها العُصب والروابط الطوائفية، نجحت في جذب أناس من 80 جنسية مختلفة.28 وفي مقابلات مع أعضاء في التنظيم في تونس، التي هي أكبر مُصدِّر للمقاتلين الأجانب في سورية، ذُكِرَ أن عائلات بأكملها انتقلت إلى الخلافة المُعلنة ذاتياً سعياً وراء ماقالوا إنه النمط الإسلامي “الأصيل” للحياة، عقب عقود من العيش في ظل نظام علماني.

في مناطق شرق الرقة، مثل دير الزور الغربية، كان داعش قادراً على التوسُّع من خلال تحالفات مع القبائل والسكان المحليين. وحين دخل التنظيم مناطق حلب للمرة الأولى، وزّع مقاتلوها رزماً من الخبز. ومثل هذا الإغراء ساعد على إقامة علاقات عميقة مع السكان المحليين، وأضفى حساً من الشرعية على تنظيم الدولة الإسلامية يمكن أن يمكّنه من البقاء على المدى الطويل.

بيد أن هذا الإغراء ليس سوى المرحلة الأولى من مقاربة تنظيم الدولة الإسلامية لممارسة السلطة في مناطق جديدة. فحالما يُرسِّخ داعش وجوده، يبدأ، كما يقول بعض من يعيشون تحت سيطرته، بزرع الخوف بشكل منهجي في قلوب السكان لمواصلة السيطرة عليهم. ومن خلال مقابلات مع مقيمين في الرقة، اتضح أن تنظيم الدولة الإسلامية يُمعِن في رفع وتائر الوحشية خلال تعاطيه مع السكان المحليين لإجبارهم على الإذعان. وعلى سبيل المثال، جرى تسليم معلّمي المدارس مذكرات كتابية تطالبهم بمراجعة مكاتب التنظيم والإفصاح عن توبتهم لتعليمهم في السابق برامج دراسية “كافرة”. ومن لايستجيب لهذه الدعوات كان يُهدَّد بنسف منزله.

على الرغم من أن ثمة دلائل على تنامي الامتعاض الشعبي من تنظيم الدولة الإسلامية، إلا أن الناس العاديين الذين يعيشون في مناطق تحت سيطرة داعش يفتقدون إلى القدرة على مقاومة هذا التنظيم بالقوة. ولأن النظام السوري توقّف إلى حدّ كبير عن تجديد جوازات السفر، فإن العديد من الناس الذين يودّون مغادرة هذه المناطق إلى خارج البلاد، لم يعد في وسعهم القيام بذلك.3

استلحاق القبائل

أفاد تنظيم الدولة الإسلامية إلى حد بعيد أيضاً من ضعف العلائق بين القبائل وبين الدولتين المركزيتين في سورية والعراق، فتودّد إلى القبائل في المناطق المُهمَلة عبر المفاوضات والمال كي يرسِّخ سيطرته على هذه الأراضي.

في سورية، ركّزت الإصلاحات النيو-ليبرالية التي طبّقها الأسد اهتمامها على المراكز المدينية الرئيسة، وجرى إلى حد بعيد تجاهل المناطق الريفية، ما أدّى إلى مفاقمة التظلمات في الشرق الريفي. وفي محافظة الرقة، التي تحوّلت الآن إلى المقر العام لتنظيم الدولة الإسلامية، لم يكن هناك وجود بارز للدولة السورية في المناطق القَبَلية، ماخلا قواعد الجيش في مدينة الرقة. بدلاً من ذلك، كانت القبائل مسؤولة عن أمنها الخاص، على الرغم من إعلان ولائها للنظام. ومثل هذه الوتيرة من الاستقلال الذاتي ازدادت غداة بداية الأزمة السورية.

والحال أن انتفاضة العام 2011 كانت، من بعض النواحي، تتعلّق في آن برفض الشبان السوريين للقادة القَبَليين التقليديين وبعدم رضاهم عن النظام. بيد أن صعود داعش أحيى دور زعامة شيوخ القبائل، ومكّن هذا التنظيم، الذي اعتمد عليهم، من نسج شبكات سلطته على الأرض.

ثمة عامل آخر ساعد تنظيم الدولة الإسلامية على تشكيل تحالفات محلية، يتمثّل في أن القبائل والعشائر غالباً ماتتحالف مع الطرف الأقوى سعياً إلى حماية نفسها. وهكذا، حين سطع نجم داعش في سورية، اعتبرته القبائل أقوى من النظام وغيرّت ولاءاتها تبعاً لذلك.

في العراق، دعم العديد من القبائل التقدُّم العسكري لتنظيم الدولة الإسلامية كوسيلة للانتقام من الحكومة. وقد قَبِلَ بعض هذه القبائل بداعش كخط دفاع ضد زحف الميليشيات الشيعية التي حلّت محل الجيش. هذا في حين أن قبائل أخرى، في مناطق مُتنازَع عليها، نظرت إلى تنظيم الدولة الإسلامية على أنه أداة لموازنة تطلّعات الأكراد للسيطرة على أراضيها. ثم هناك أيضاً قبائل قَبِلَت داعش بهدف الحصول على مساعدته لمقاتلة القبائل التي استلحقتها الحكومة المركزية في بغداد. هكذا كان الحال في الأنبار، حيث جهدت الحكومة العراقية للحصول على تعاون القبائل السنّية معها في الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية.

بيد أن عدداً آخر من القبائل بدأ يرى إلى تنظيم الدولة الإسلامية على أنه قوة تنتقص من السلطة التي تمتّعت بها في ظل النظام المركزي. وكما يقول شيخ قَبَلي، لم تَعُد القبائل، بعد وصول داعش، تُجبي الضرائب من الناس.

عمدت بعض القبائل، بما في ذلك قبيلة البونمر في محافظة الأنبار العراقية، وأيضاً قبيلة الشعيطات، أكبر قبائل دير الزور، إلى التمرد على داعش في العام 2014. لكن التنظيم أعدم زهاء 700 من الشعيطات غداة تمرّد آب/أغسطس 2014، وطرد بقية أفراد القبيلة من مناطقهم. (في كانون الأول/ديسمبر 2014، تم توثيق وجود 230 جثة، واعتُبِر بضع مئات في عداد المفقودين). وذُكِر أن تنظيم الدولة الإسلامية برّر خطواته هذه بالقول إن القبيلة كانت تبيع نفط الآبار في المنطقة لجني الأرباح الشخصية، واتّهم أفراد القبيلة بأنهم مرتدّون.

كما تُظهِر قضية الشعيطات، عمد تنظيم داعش إلى إفراغ الأراضي من سكانها الأصليين، في المناطق التي شهدت مقاومة محلية ملحوظة ضده، وأحلّ مكانهم “مهاجرين” أجانب. وبالتالي، غياب المقاومة المحلية يمكن أن يساعد التنظيم على تعميق جذوره في هذه المناطق الآن وفي المستقبل.

الحملات الدعائية (البروباغاندا) كتكتيكٍ عسكري

لقد حصد تنظيم الدولة الإسلامية الكثير من الاهتمام لاستخدامه سلاح الإعلام، خاصة حين كان يبثّ أشرطة الفيديو عن أعمال العنف التي يقوم بها، وينشر مجلة إلكترونية والعديد من المناشير والكتيّبات، ويستخدم وسائل التواصل الاجتماعي. وهنا تلعب الحملات الدعائية دوراً مزدوجاً: فهي يمكن أن تكون وسيلةً للتجنيد، لكنها غالباً ماتُستخدَم كاستكمال للجهد العسكري وأحياناً للتعويض عن تراجعه.

الإعلام الاجتماعي

لاتعترف أي دولة في العالم بشرعية تنظيم الدولة الإسلامية، ولذا عليه الاعتماد على أقنية التواصل القائمة، على غرار وسائط الإعلام الاجتماعي، للترويج لنفسه، وإرهاب أعدائه، وتجنيد الأعضاء.  وكما استغلّت القاعدة في العام 2001 رغبة الإعلام في تحقيق السبق الإخباري، يستخدم تنظيم الدولة الإسلامية إنتاج الإعلام الدولي أداةً غير مباشرة لترقية المنظمة.

لكن، وعلى عكس القاعدة، يتبنّى داعش صيغة متزمّتة في التعاطي مع الإعلام. فهو يكون محدّداً جداً حين يتعلّق الأمر بالمكان الذي يُروِّج لنفسه فيه. مثلاً، إلى حين قيام موقع تويتر بإغلاق حساباته في آب/أغسطس 2014، افتتح داعش حسابات فردية لكل “ولاية” تابعة له. ومن خلال هذه الحسابات، روّج التنظيم عمله التنموي في قطاعات على غرار المدارس وإنجاز مشاريع شقّ الطرق. ومثل هذا التركيز على الخدمات يستهدف خلق حسٍّ من الشرعية لتنظيم الدولة الإسلامية، عبر تصويره بأنه التنظيم الذي يرعى المسلمين الفقراء والمحتاجين. والآن، يواصل داعش استخدام تويتر وسيلةً للتواصل والانتشار، ويخلق باستمرار حسابات جديدة حين يتم إغلاق الحسابات الأخرى.

الحرب النفسية

ينشر تنظيم الدولة الإسلامية بانتظام صوراً معبّرة عن العنف، تُعَدّ شكلاً من أشكال الحرب النفسية التي تهدف إلى زرع الخوف في نفوس أعدائه وقاعدته على حدٍّ سواء. ويختار التنظيم نشر المعلومات عند الحاجة ووفقاً للتغييرات التي تطرأ على السياق المحلّي. على سبيل المثال، إذا استشعر التنظيم أن السكان المحليين بدأوا بالتململ، ينشر المزيد من الدعاية حول مبادراته في مجال التنمية؛ وإذا استشعر احتمالاً متزايداً لحدوث مواجهات سياسية أو عسكرية، ينشر صوراً أكثر وحشية لبثّ الخوف في نفوس خصومه.

ساعدت التكتيكاتُ ذات الكلفة العالية والعائدات الأعلى التنظيمَ في تحقيق مكاسب عسكرية ودعائية في آن، وهي تُسمّى أحياناً “الدعاية من خلال الفعل”.44

كان الحال كذلك خلال الهجمات التي شهدتها محافظة الرقة السورية في صيف العام 2014. ففي إحدى المرّات، هاجم انتحاري بوابة قاعدة عسكرية كانت مقرّ اللواء السابع عشر في الجيش السوري، مفسحاً المجال أمام انتحاري ثانٍ لتنفيذ هجومه داخل المقرّ. وما أن دخل الانتحاري القاعدة العسكرية، حتى قام بقطع رأس الضابط المسؤول عن القاعدة. وفي غضون ساعة، تمّ الإعلان عن هذا الإنجاز عبر مكبرات الصوت فيما كانت المعركة لاتزال مستعرة، ونُشرت صور هذا الفعل على تويتر فوراً، الأمر الذي أثبط معنويات الجنود الـ700 المتواجدين في القاعدة العسكرية، وساعد تنظيم داعش في السيطرة عليها.45

استُخدِم التكتيك نفسه في الهجوم الذي شُنّ على مطار الطبقة في الرقة، حيث علّق التنظيم رؤوس عشرات جنود النظام في الساحات العامّة لزرع الخوف في نفوس الأعداء، والتفاخر أمام الأعضاء الحاليين والمحتملين والسكان المحليين. وبعد إطلاق حملة ترويجية كبيرة على وسائل الإعلام الاجتماعي، عوّض تنظيم الدولة الإسلامية عن بضع مئات المقاتلين الذين خسرهم في معركة الطبقة ومعارك أخرى في العام 2014، عبر تجنيد 6 آلاف مقاتل جديد.

استُخدِمَت الدعاية أيضاً لمساعدة تنظيم الدولة الإسلامية على تجاوز القصور العسكري. فحين كان التنظيم عاجزاً عن التوسّع أكثر نحو الشرق، بسبب المقاومة التي واجهها في المناطق ذات الغالبية الشيعية في العراق بعد التقدّم الذي أحرزه في الموصل، أعلن عن “عودة” الخلافة في 29 حزيران/يونيو 2014، وقام زعيمه أبو بكر البغدادي بأول إطلالة علنية، ألقى خلالها خطبةً بصفته “الخليفة ابراهيم” في الجامع الكبير في الموصل.48 ومع انتشار شريط الخطبة حول العالم، نشر التنظيم لأعضائه المحتملين صورةً عن أمير المؤمنين يستطيعون التماثل معها، وهي صورة قائد شجاع لايخشى المثولَ في أكبر مسجد في الموصل، مع مايحمله ذلك من دلالة تاريخية كبيرة للمسلمين السنّة. واغتنم التنظيم هذه الفرصة أيضاً ليوجّه دعوةً مفتوحة إلى التكنوقراط مثل المهندسين والأطباء للانضمام إلى داعش وبناء الخلافة، كما أطلق حملةً على وسائل الإعلام الاجتماعي هدفت إلى تعزيز التجنيد والتمويل.

يمكن ملاحظة نمط مماثل في معركة كوباني، البلدة الكردية السورية القريبة من الحدود التركية. لم توافق تركيا في البداية على السماح للمقاتلين الأكراد الأتراك بدخول سورية لمساعدة نظرائهم السوريين في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية خلال تقدّمه نحو كوباني، إلا أنها وافقت على فتح حدودها في كانون الأول/ديسمبر 2014. نتيجةً لذلك، وجد داعش نفسه محاصراً في المدينة وأمام خيار صعب: إمّا أن يلزم مكانه ويواجه التدفق الجديد من قوات البشمركة وسائر المقاتلين الأتراك، وإما أن يختار الفرار وتعريض مقاتليه إلى غارات التحالف الدولي. لم يكن ردّ الفعل الأول لداعش تجاه هذا الوضع عسكريّاً، بل إعلاميّاً: إذ أظهر التنظيمُ الرهينةَ البريطاني جون كانتلي في شريط على الإنترنت وهو يجول في أرجاء كوباني معلناً أمام الكاميرا أن المدينة واقعة تحت سيطرة داعش.

حين شارفت معركة كوباني على الانتهاء في مطلع العام 2015، لجأ التنظيم مرّةً أخرى إلى المقاربة التي أثبتت فعاليتها في تجاوز الخسائر العسكرية: الدعاية. فبعد أن أسر التنظيم طيّاراً أردنيّاً هو الملازم معاذ الكساسبة الذي شارك في الحملة الجوية، أظهره في شريط فيديو عارياً من الوسط وما دون. ثم نشر التنظيم شريطاً ثانياً أظهر إعدام أحد الرهينتين اليابانيّين اللذين وقعا أسيرين لدى التنظيم، أعقبه شريط آخر ظهر فيه الرهينة الثاني مطالباً بالإفراج عن ساجدة الريشاوي – التي تنتمي إلى تنظيم القاعدة وكانت تواجه حكم إعدام منذ تسع سنوات عقب محاولها تنفيذ هجوم إرهابي باء بالفشل – مقابل الحفاظ على سلامته.

حصدت الأشرطة الثلاثة اهتماماً إعلاميّاً كبيراً – بعد تظاهر عددٍ من أبناء عشيرة الطيّار الأردني في عمّان، مطالبين الحكومة ببذل المزيد من الجهود لضمان الإفراج عنه – ووافق الأردن علناً على الإفراج عن الريشاوي مقابل الطيّار الأردني. فسارع تنظيم الدولة الإسلامية إلى الرد من خلال نشر شريطَين أظهرا إعدام كلٍّ من الرهينة الياباني الثاني والطيّار الأردني. وهكذا، تمكّن تنظيم داعش من إذلال اليابان والأردن المشاركَيْن في التحالف الدولي ضدّه.

استخدم داعش الدعاية للتعويض عن خسائره العسكرية مجدّداً في أعقاب الهزيمة التي مُني بها في مدينة تكريت شمال العراق في نيسان/أبريل 2015، حين نشر أشرطة فيديو أظهرت تدمير الآثار القديمة في مدينة الحضر العراقية.

عمليات إعلامية مركزية

يستطيع تنظيم الدولة الإسلامية استخدامَ الدعاية بشكلٍ فعّال للغاية لأن عملياته الإعلامية مركزية إلى حدٍّ بعيد، ناهيك عن أنه يتحكّم بدقّة بما يُنشر وبتوقيت النشر. وتخضع كل حسابات تويتر المرتبطة بالتنظيم إلى إدارة مركزية. فعند انضمام مقاتلين بارزين جدد إلى داعش، يمارس التنظيم ضغوطاً عليهم ليسلّموه حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي.

يحصّن التحكّم المركزي أيضاً تنظيم الدولة الإسلامية من ارتكاب أخطاء قد تكون فادحة. فعلى غرار الطريقة التي يتّبعها حزب الله، وعلى عكس الطرق التي تتبعها مجموعات إسلامية جهادية أخرى في سورية، لايلتقط تنظيم داعش عادةً صوراً لقادته أو يظهرهم في أشرطة مصوّرة؛ ويتم الكشف عن معظم أسمائهم وصورهم فقط في حال مصرعهم (وطيلة بقائهم على قيد الحياة، تحمل كل الأخبار التي تُنشَر عنهم أسماء وهمية). وفقاً لأحد المقاتلين، يعني ذلك أن قادة التنظيم الذين قُتلوا خلال حملة التحالف الدولي لم يكونوا بمعظمهم من القادة الرئيسين، ذلك أن هؤلاء غالباً مايعملون في السر ويبقون مجهولي الهوية.

لايتباهى تنظيم داعش بعمليّات عسكرية معيّنة أو بمواقعه، ويُبقي الأشرطة المرئية التي ينشرها غامضة، لأنه على الأرجح يشعر بالقلق من أن يجعله نشر بعض المعلومات مكشوفاً عسكريّاً، ويجذب إليه بالتالي هجمات مضادّة. إضافةً إلى ذلك، سرّب التنظيم معلومات غير صحيحة حول موقع عمليات مخطّط لها، ثم نفّذ الضربات في مواقع أخرى. وهكذا، يتجنّب داعش ارتكاب الأخطاء التي ترتكبها سائر المجموعات المتمرّدة التي كشف أعضاؤها أو أشخاص متعاطفون معها معلومات عسكرية حسّاسة. حدث أمرٌ من هذا القبيل في العام 2014، حين نشر أحد الناشطين المتعاطفين مع جبهة النصرة على فايسبوك تفاصيل موكب لجبهة النصرة كان متّجهاً من قرية إلى أخرى في شمال غرب دير الزور، بما في ذلك أنواع الأسلحة التي كان ينقلها الموكب تحديداً، الأمر الذي جعله مكشوفاً أمام هجمات داعش والنظام.

مع ذلك، يُروّج تنظيم داعش لبعض العمليات إلى حدٍّ كبير، مثل إعدام 250 جنديّاً سوريّاً عقب سيطرته على مطار الطبقة في الرقة في صيف العام 2014. وتُستخدم أشرطة هذه العمليات لتبيان فعالية تنظيم الدولة الإسلامية، على عكس التنظيمات الأخرى، وللمساعدة في عملية التجنيد وإثباط معنويات الأعداء.

يراقب التنظيم عن كثب أيضاً وسائل الإعلام المتعاطفة معه، وقام بقتل واختطاف صحافيين مستقلّين. في بعض الحالات النادرة، حاول التنظيم غسل أدمغة الصحافيين المحتجزين لديه، لكنه يفضّل عموماً قتل الصحافيين الأجانب أو المحليين الذين لايعتبرهم متعاطفين مع قضيته. في بعض الأحيان، وافق التنظيم على استضافة صحافيين ميدانيين أجانب كوسيلة للترويج لنفسه على المستوى الدولي. مع ذلك، لم يكن راضياً عن التقارير التي أعدّها هؤلاء الصحافيون، قائلاً إنهم شوّهوا الحقائق، فكفّ عن استقبال الصحافيين الأجانب. يساعد هذا الاحتكار للمشاهد المصوّرة والأخبار التنظيمَ على تجنيد أعضاء جدد على الصعيد العالمي، من خلال تقليص السرديات البديلة المختلفة عن سرديّته. وعلى غرار حزب الله، يتابع تنظيم داعش عن كثب أيضاً كتابات يعتبرها معادية له، ويقتبس منها، كوسيلة لادّعاء التفوق المعرفي على خصومه.

الإيديولوجيا باعتبارها أداة

تبنّى تنظيم الدولة الإسلامية فكرَ القاعدة، لكن الإيديولوجيا ليست غاية داعش الأساسية؛ بل هي مجرّد أداة للحصول على المال والسلطة. فالتنظيم لايتبع مرجعاً إسلامياً محدّداً، ويرفض مذاهب الإسلام الأربعة (السنّية). ويستمرّ بدلاً من ذلك في تفسير الشريعة بالطرق التي تبرّر أفعاله.59 وهكذا، ينبغي النظر إلى إيديولوجيته باعتبارها أداة للحصول على الشرعية والموارد، وأنها في تطوّر مستمرّ.

يستخدم داعش عناصر إيديولوجية لبناء علاقات مع السكان المحليين وحُكم المناطق التي سيطر عليها. في الرقة وغيرها من المناطق، استخدم داعش ترويج الإيديولوجيا جنباً إلى جنب مع الاستراتيجية العسكرية لإثارة الارتباك في صفوف السكان. فحين يسيطر التنظيم على إحدى القرى، وحتى قبل أن يؤمّن المنطقة، غالباً ماينخرط في أعمال يُنظَر إليها على أنها ترويج للشريعة، مثل حرق علب السجائر، وتدمير قوارير الكحول، وجلد النساء اللواتي يرتدين ملابس “غير لائقة”. ترمي هذه الخطوات إلى إظهار أن الترويج للشريعة الإسلامية هو في صلب أولويات التنظيم، مايساعده على نيل الشرعية. لكن هذه الخطوات ترمي أيضاً إلى إرباك الناس، ذلك أنها تحدث حين يكون من المتوقّع أن يركّز التنظيم على تأمين مناطق استولى عليها حديثاً.

بعد أن يستولي التنظيم على إحدى المناطق ويبدأ بحكمها، يستخدم الشريعة كمبرّر لمنع أعضاء في المعارضة السورية من العمل، ولقتل هؤلاء الذين قاتلوا في صفوف ألوية إسلامية منافسة له. وغالباً مايُحتجز هؤلاء الأشخاص بحجة أنهم مجرمون، ويتم صلبهم لاحقاً أو إخضاعهم إلى ممارسات وحشية علنية. وينفّذ التنظيم أيضاً إعدامات علنية وفظائع أخرى مشابهة بشكلٍ دوري لترهيب قاعدته وجعلها تمتثل إليه بدرجةٍ كافية، بحيث تقلّ الحاجة إلى استخدام العنف ضدها. وهكذا، يصبح السكان الخاضعين إلى سيطرة التنظيم قادرين على حكم أنفسهم ذاتيّاً، الأمر الذي يستخدمه التنظيم كـ”دليل” على أن أتباعه مخلصون له. يظهر في شريط دعائي صادر عن تنظيم الدولة الإسلامية أحدُ أعضاء داعش وهو يجول في سوق الرقة متحدّثاً أمام الكاميرا أن الناس بدأوا بإغلاق متاجرهم لصلاة الجمعة من دون أن يذكّرهم التنظيم بذلك.

تساعد هذه الهيمنة تنظيم الدولة الإسلامية على ممارسة الحكم؛ على سبيل المثال، يمنح التنظيم قاعدته الشعبية قروضاً لإنشاء أعمال تجارية، وهو على ثقة من أنها ستسدّد له القرض بدافع الخوف. وحتى في الحالات التي يصبح فيها هذا النوع من الحكم هو القاعدة، تُنفَّذ الإعدامات العلنية بشكلٍ دوري لتكون بمثابة تذكير بقوّة التنظيم وأداة لفرض سيطرته.

يستخدم داعش الإيديولوجيا أيضاً لشرح موقفه من النظام السوري، الذي لم يبدأ التنظيم قتاله حتى حزيران/يونيو 2014، عقب الانتصارات التي حققها في العراق. وحتى في الوقت الراهن، لايوجّه التنظيم سوى نسبة قليلة من أنشطته العسكرية في سورية ضد النظام السوري، وتستهدف معظمُ أنشطته الجيشَ السوري الحر وسائر المجموعات الجهادية. ويبرّر التنظيم ذلك على أساس أن “قتال المرتدّين أولى من قتال النصيرية” (أي أن قتال المرتدّين أكثر أولوية من قتال العلويين، المذهب الذي ينتمي إليه الأسد). ويستخدم التنظيم الخطاب نفسه لتبرير غياب هجماته ضد إسرائيل؛ فوفقاً لأميرٍ في القلمون، إن “قتال المرتدّين أولى من قتال اليهود”.

التنافس مع القاعدة

يستخدم داعش الإيديولوجيا أيضاً للتغلّب على أعدائه وتبرير استراتيجيته السياسية. فهو يقدّم نفسه على أنه الاستمرار المنطقي لمسار مؤسِّس القاعدة أسامة بن لادن. واستخدم داعش هذه العلاقة مع بن لادن لتبرير رفضه زعيم القاعدة الراهن أيمن الظواهري، ولإعلان تفوّقه على القاعدة. في إحدى الرسائل التي وجّهها داعش إلى الظواهري، قال المتحدث باسم التنظيم والرجل الثاني في قيادته، أبو محمد العدناني: “أنتم تنظيم، ونحن دولة. ينبغي عليكم مبايعتنا وليس العكس”.

قاد الصراع على الشرعية تنظيم داعش إلى محاولة تشويه سمعة منافسه الأساسي، جبهة النصرة التابعة للقاعدة، على أسس دينية، فيما يخوض داعش والنصرة معركةً خطابية لامعركة عسكرية وحسب.

طوال العام 2014، استخدم داعش تقليد المباهلة في الإسلام – حيث يوجّه أحد الطرفين انتقاداً للطرف الآخر، وينبغي على هذا الأخير الرد برسالة تعادل رسالة الطرف الأول قوّةً، وإلّا يُعتبر أنه خالف الشريعة – للشكوى من النصرة. وفقاً لمقاربة داعش الحديثة، تُنشر رسالة صوتية عبر يوتيوب للعدناني، المعروف بحضوره الكاريزمي وخطبه المكتوبة بإتقان والمستندة إلى بحث معمَّق، وتتم مشاطرتها على تويتر عبر حسابات الولايات والأعضاء والأنصار.

تهدف هذه الرسائل الصوتية (المباهلة) إلى إضفاء الشرعية على داعش باعتباره تنظيم القاعدة الحقيقي، الذي يطبّق الإيديولوجيا بشكلٍ ملموس. وتشمل هذه الرسائل إعلانات من قبيل: “نحن الجند الصالح للقاعدة”. ويتحسّر التنظيم على حالة المجموعات الإسلامية المنافسة مثل النصرة وجيش الإسلام. ففي إحدى الرسائل، يشكو العدناني من الظواهري قائلاً: “تعاملنا مع القاعدة وأيمن الظواهري مثلما يتعامل جندي مع أميره، لكنكم طعنتمونا في الظهر”. يعتمد تنظيم داعش في هذه الرسائل التلميح إلى أحداث فعلية، مثل محاولته في العام 2014 التقدّم باتجاه منطقة الساحل في الغرب السوري بحجّة محاربة النظام، وقيام القاعدة بنقل هذا الخبر إلى المجموعات التابعة لقوات الأسد.

طوال العام 2014، حاول داعش التخلّص من قيادة النصرة، مستخدماً بشكلٍ أساسي الاغتيالات والسيارات المفخخة والخطف. وينظر التنظيم إلى كل المناطق الواقعة خارج حدود الخلافة على أنها أراضي الكفّار (دار الكفر)، ويعتبر أن كل المجموعات الأخرى كافرة، الأمر الذي يبرّر هجماته ضدها.

لكن التظلّمات الشخصية تؤدّي دوراً أيضاً. فعلى سبيل المثال، يُعتبر أبو محمد الجولاني مرتدّاً (ناكراً للبيعة) لأن البغدادي أرسله أساساً إلى سورية لمساعدته على إنشاء الخلافة هناك، لكن الجولاني أنشأ بدلاً من ذلك جبهة النصرة. كما أدّت الخلافات الشخصية إلى تكفير قائد جيش الإسلام زهران علّوش.

يعود سبب طرح داعش نفسه على أنه تنظيم القاعدة الحقيقي في جزءٍ منه إلى مطامح مالية، ذلك أن هذه التسمية تثير شكوكاً في صفوف الجهات المانحة للقاعدة، والتي حوّلت تمويلها من القاعدة إلى داعش سعياً منها إلى دعم نشر الفكر الوهابي الحقيقي. يستغل داعش هذا الشعور عبر استخدامه سردية عودة العصر الذهبي للإسلام. إذ يشير إلى أعدائه الغربيين بـ”الصليبيين” في مجلّة دابق، المجلة الإلكترونية التي يصدرها داعش منذ حزيران/يونيو 2014. وغالباً ماترسم المجلّة أوجه شبه بين أحداث راهنة وبين قصص تعود إلى فجر الإسلام، في محاولةٍ لإضفاء الشرعية على التنظيم.

الاستراتيجية العسكرية

اعتمدت استراتيجية تنظيم الدولة الإسلامية منذ ظهوره على تطوير تكتيكاته وعمليّاته التطبيقية العسكرية. في فترة صعوده، الذي بلغ ذروته مع التقدّم الذي أحرزه في العراق في حزيران/يونيو 2014، اعتمد التنظيم على الحرب الهجومية لتوسيع الأراضي الواقعة تحت سيطرته. واتّخذ لاحقاً موقفاً دفاعيّاً في الغالب. ومع تكثيف التحالف الدولي ضرباته الجوية في العام 2015، والمكاسب المتزايدة التي حقّقها منافسو داعش مثل جبهة النصرة منذ شباط/فبراير 2015، بدّل التنظيم تكتيكاته، واعتمد على الهجمات غير المخطّط لها ضد خصومه، وحاول مجدّداً توسيع رقعته الجغرافية.

هيكلية عسكرية مغلقة ومركزية

اعتمد تنظيم الدولة الإسلامية طيلة فترة تطوّره العسكري على عددٍ من الثوابت. إذ يدمج بين العمليّات التطبيقية والتكتيكات التي تستخدمها المجموعات العسكرية غير الدُولتية، وبين تلك التي تستخدمها الجيوش التقليدية. ينبع الأسلوب الأول لداعش من جذوره في القاعدة في العراق واقتباسه التكتيكات التي يستخدمها حزب الله، في حين أن أسلوبه الثاني ناتجٌ عن انضمام ضباط سابقين في حزب البعث الحاكم في العراق سابقاً إلى القاعدة في العراق، وإلى تنظيم داعش لاحقاً، آملين في الانتقام من الحكومة العراقية عقب عملية اجتثاث البعث بعد غزو العراق بقيادة الولايات المتحدة في العام 2003.

يتخطّى الارتباط بين البعث وبين تنظيم الدولة الإسلامية أحياناً خطوط الصدع الطائفية. فوفقاً لأحد المقاتلين المحليين، كان بعض القادة العسكريين البعثيين شيعة أساساً، لكنهم اعتنقوا المذهب السنّي مع انضمامهم إلى التنظيم العسكري، ومن ضمنهم أبو أيمن العراقي الذي أصبح قائداً بارزاً في داعش.

على الرغم من الاهتمام الكبير الذي حظيت به الرقة والموصل باعتبارهما مركزَين حضريّين رئيسَين لتنظيم الدولة الإسلامية، إلا أن المدينتَين تشكّلان في الواقع مركزَين رمزيّين، فيما تقع مراكز التعبئة الخاصة بالتنظيم في أماكن أخرى، من ضمنها المساجد في شرق حلب. ويقع مركز قيادة التنظيم في الصحراء بين سورية والعراق، حيث تدير القيادة العمليات التي تحدث في أراضي داعش كافة والعالم.

أعطى المزجُ بين الرؤية العسكرية والاستراتيجية التي يوفّرها القادة السابقون في البعث، وبين خبرة الجهاديين السنّة المخضرمين ورفيعي المستوى الذين قاتلوا في أفغانستان والعراق، تنظيمَ الدولة الإسلامية أفضليةً ضد خصومه. ويشبه التنظيمُ حزبَ الله من ناحية أن هيكله التنظيمي مؤسّسي لاشخصانيّ. ويعني المزج بين نظام القيادة التراتبي وبين الهيكل المؤسسي أن التنظيم لن يضعف في حال قُتل قادته.

عند تجنيد مقاتلين جدد، لايبحث تنظيم الدولة الإسلامية بالضرورة عن أشخاص من ذوي الخبرات العسكرية. ولديه نظام تدقيق صارم في خلفيات الأشخاص يهدف إلى الحفاظ على الموالين المتشددين، ويوافق على انضمام المقاتلين الذين كانوا ينتمون إلى مجموعات منافسة، شرط أن يطلبوا الانضمام إلى التنظيم طوعاً وخارج سياق المعركة، وأن يتوبوا عن فترة خدمتهم السابقة؛ ويقتل داعش المقاتلين المنافسين الذين يعلنون عن توبتهم خلال المعارك. لدى كلٍّ من الأعضاء الجدد خيار: فإما أن يقاتل إلى جانب التنظيم بصفة فردية من دون أن يصبح عضواً رسميّاً فيه، وإما أن يبايعه. ومع أن للمبايعة فوائد أكبر (على المستوى المالي، والوضع الاجتماعي)، إلا أنها تشكل التزاماً على مدى الحياة، مايعني أن المقاتلين الذين يتركون التنظيم يُعتبرون مرتدّين ويُقتلون. وينبغي على كل مقاتلي داعش الالتحاق بدورة دروس دينية تمتدّ من شهرين إلى ثلاثة أشهر، وخوض التدريب العسكري الذي يبلغ معدّل البقاء على قيد الحياة فيه 50 في المئة فقط، وفقاً لأحد المقاتلين المحليين. والسبب الرئيس لذلك هو أن التدريب يجري باستخدام الذخيرة الحية. وبعد اكتمال التدريب، يتم اختبار ولاء المقاتلين من خلال طلب إرسال الأعضاء الجدد إلى الخطوط الأمامية.72

يعني هذا الهيكل العسكري المغلق أن تنظيم الدولة الإسلامية، في غالب الأحيان، لايقيم تحالفات مع تنظيمات أخرى، ولو كان يتشاطر معها الإيديولوجيا نفسها. ولايقبل داعش الألوية الأخرى إلا إذا قاتلت تحت مظلته.

مع ذلك، ثمة استثناءان على الأقل لهذه المقاربة، مايُظهر أن البراغماتية يمكن أن تسود أحياناً في ساحات المعركة إذا شعر التنظيم بأنه مهزوم عسكريّاً. في الحالة الأولى، دفعت العلاقات الشخصية بين قادة تنظيم الدولة الإسلامية وبين بعض قادة جبهة النصرة التنظيمَين إلى القتال في الخندق نفسه في القلمون ضد حزب الله وقوات الدفاع الوطني التي أنشأها النظام السوري. وفي الحالة الثانية، طلب داعش التعاون مع الجيش السوري الحر لفرض حصار على مطار دير الزور العسكري في مطلع العام 2015، لكن الجيش السوري الحر رفض ذلك.

هجمات شاملة

لايبدو تنظيم الدولة الإسلامية قلقاً من التضحية بمئات المقاتلين في هجمات عسكرية كبيرة. ففي معركة الطبقة، خسر داعش بين 300 و400 مقاتل في غضون أيام قليلة على إثر الغارات الجوية التي شنّها النظام، إلا أن التنظيم واصل هجومه على المطار، مدركاً جيّداً أن السيطرة على هذه القاعدة العسكرية الهامّة من شأنها أن تظهر للأعضاء المحتملين أن التنظيم يحصد النجاح.

يواصل تنظيم الدولة الإسلامية شنّ هجمات شاملة وواسعة النطاق تعتمد على العديد من الانتحاريين، كما حصل في الطبقة، مايُساعد على تفسير تجنيده عدداً كبيراً من الأطفال. يدرّب تنظيم داعش الأطفال خارج الدوام الدراسي، ويعرّضهم إلى عنفٍ شديد، ويُنتج أشرطة تدريبية لتشجيع المراهقين الشباب على القتال. وفقاً لأحد أعضاء داعش، يركّز التنظيم على تدريب الأطفال لأنهم في سنّ الخامسة عشرة والسادسة عشرة غير قادرين على تقييم المخاطر وأكثر استعداداً للمشاركة في عمليات انتحارية.

ترمي هذه الهجمات الشاملة وواسعة النطاق إلى ترهيب الأعداء وجذب أعضاء جدد، عبر إظهار أن تنظيم الدولة الإسلامية هو أقوى تنظيم جهادي في ساحات المعركة في سورية والعراق. فقد دفع الخوف والإعجاب بداعش العديد من الألوية المتمرّدة إلى مبايعته، بما في ذلك بعض ألوية أنصار الشام وأحرار الشام، إضافةً إلى أحد أمراء جبهة النصرة في دير الزور، وحتى بعض ألوية الجيش السوري الحر في شرق دير الزور. وفي جنوب سورية، يسعى داعش إلى إنشاء موطئ قدم له من خلال التجنيد المحلّي لأشخاص سوريين وفلسطينيين من خلال بناء علاقات مع بعض ألوية جبهة النصرة التي تربطها علاقات شخصية مع قادةٍ في التنظيم.

لكن ليس كل مبايعات الألوية الأخرى لداعش تُعلَن عن قناعة. فقد كان أحد الأسباب الرئيسة للقرار الذي اتخذته ألوية في دير الزور بمبايعة تنظيم داعش رسميّاً، أنها لم تكن قادرة على إنشاء خطوط اتصال مباشرة للحصول على إمدادات من الجيش السوري الحر، ماوضعها أمام خيار إما الانضمام إلى تنظيم داعش أو التعرض إلى الإبادة على يده.

الحرب الدفاعية

في أعقاب امتداد تنظيم الدولة الإسلامية في حزيران/يونيو 2014، سعى إلى تعزيز سرديته القائلة بأنه يقاتل الكفّار عبر جذب الغارات الجوية الغربية إلى أراضيه. ومن خلال هذا الانتقال إلى العمليات الحربية الدفاعية، تمكّن داعش من توطيد تكتيكاته الميدانية التي اقتبسها من مجموعات مثل طالبان وحزب الله. هذا النوع من العمليات الحربية، بما في ذلك استخدام الأنفاق والقيام بعمليات تحت الأرض، أكثر فعالية عموماً للمجموعات الصغيرة مثل تنظيم داعش، والتي تحارب جيوشاً منظمة أكبر منها، كما كانت الحال مع حزب الله وحماس في مواجهاتهما مع إسرائيل. وقد ألمح تنظيم الدولة الإسلامية إلى رغبته في خوض حرب دفاعية في العدد الأول من مجلّة دابق في حزيران/يونيو 2014، حيث رسم أوجه شبه بين الوضع الراهن وبين معركة مرج دابق التاريخية التي دافع خلالها المسلمون عن أراضيهم في وجه الحملات الصليبية.

وفقاً لأحد المقاتلين المحليين، شكّل إعدام تنظيم الدولة الإسلامية لرهينتين أميركيين في الشهر نفسه استفزازاً متعمّداً للغرب لإثارة حرب دفاعية.78 وبعد أن أصبح التنظيم مستقلّاً ماليّاً في العام 2014، لم يعد يعتمد على الفدية لتحقيق الدخل. وبالتالي، لم يعد يستخدم الرهائن لجمع المال، بل أصبحوا أداة حرب. رأى تنظيم الدولة الإسلامية أن الغرب لايرغب في شنّ هجوم برّي انتقاماً لقتل الرهينتين، وأن انخراطه العسكري سيقتصر على الغارات الجوية، فحضّر داعش نفسه لهذا السيناريو من خلال إخفاء الأسلحة تحت الأرض، وإخلاء القواعد العسكرية، وتوزيع أعضائه في صفوف السكان المحليين في العراق وسورية.

دعمت غارات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة التي بدأت في أيلول/سبتمبر 2014 سردية تنظيم الدولة الإسلامية القائلة بأنه منخرط في الجهاد ضد الكفّار والصليبيين الذين يقتلون المسلمين، ولاسيما أن الغارات الجوية أسفرت عن مقتل عدد كبير من المدنيين. واستُخدمت الغارات الجوية فيما سعى التنظيم إلى زيادة التجنيد من خلال تصعيد دعواته إلى الهجرة (إلى الخلافة) والبيعة. وتعزّزت هذه الدعوات نتيجة ما أسمته بعض القبائل المناهضة للنظام في سورية “نفاقَ الغرب” بسبب فشله في التدخّل ضد الأسد، الأمر الذي أسهم في زيادة أعضاء داعش.

مكاسب اغتنامية

دفعت التغييرات التي شهدها ميدان المعركة في النصف الأول من العام 2015 تنظيمَ الدولة الإسلامية مجدّداً إلى تعديل عمليّاته وتكتيكاته، إذ انسحب من بعض المناطق العراقية في أعقاب غارات التحالف الدولي والهجمات المضادة من قبل قوات البشمركة وإعاد تنظيم قواه في سورية.

ترافق ظهور تنظيم الدولة الإسلامية باعتباره التنظيم الجهادي الأقوى في المنطقة مع تكبّد النظام السوري المزيد من الخسائر. نتيجةً لذلك، يبدو أن قوات الأسد تحوّل تركيز عملياتها العسكرية من الحفاظ على السيطرة المحلية على المراكز الحضرية في مختلف المحافظات السورية (باستثناء الرقة حتى نيسان/أبريل 2015)، إلى الدفاع عن مناطق أساسية في منطقة الساحل ودمشق، معقلَي النظام. وتُرجم هذا التحوّل إلى تخلّي النظام عن مناطق مثل إدلب، وتدمر التي وقعت في يد داعش في أيار/مايو 2015.

هذا الانسحاب مهّد الطريق أمام تنظيم الدولة الإسلامية لتوسيع نطاق المناطق الخاضعة إلى سيطرته في سورية، التي تبقى المركز الأمثل للخلافة، نظراً إلى تركُّز هجمات التحالف في العراق، واحتمال استمرار الصراع السوري لمدة طويلة في المستقبل. ومن شأن مرور الزمن أن يتيح للتنظيم ترسيخ جذوره عميقاً في سورية، الأمر الذي سيسمح له بالحفاظ على سيطرته، إلا إذا جرى تحدّيه على الأرض، كما كان الحال في كوباني وتل أبيض على الحدود السورية-التركية، حيث هزم المقاتلون الأكراد التنظيمَ في حزيران/يونيو 2015.

عقب التقدّم في الموصل، سارع تنظيم الدولة الإسلامية إلى تحويل التجهيزات العسكرية التي استولى عليها حديثاً والمكاسب المالية إلى سورية، وهو يحاول مذاك الحين الاستيلاء على دير الزور. وفي منتصف العام 2015، سيطر على معظم المحافظة ماعدا المطار العسكري ووسط المدينة، اللذين يخضعان إلى سيطرة النظام. كما أنه يسعى إلى الاستيلاء على مزيد من الأراضي في حلب.

في منتصف العام 2015، بدا أن التنظيم سيخوض على الأرجح مواجهات ميدانية مع جيش الفتح في شمال البلاد، وبشكل محدّد أكثر، مع فصائل الجبهة الجنوبية التابعة للجيش السوري الحر في الجنوب. ويعود سبب ذلك إلى أن النظام لايزال مهتماً بمهاجمة الجيش السوري الحر أكثر مما هو مهتم بمهاجمة تنظيم الدولة الإسلامية، في حين أن التحالف الغربي حدّ من أنشطته، إلى درجة كبيرة، لتقتصر على غارات جوية، تستهدف بمعظمها المناطق التي يسيطر عليها التنظيم في العراق.81

التحديات التي يواجهها تنظيم الدولة الإسلامية

يواجه تنظيم الدولة الإسلامية عدداً من التحديات، وتبتكر قيادته بشكل متواصل طرقاً لمعالجة هذه التحديات.

التظلّمات المحلية

صحيح أن تنظيم الدولة الإسلامية يسعى إلى تطبيق الشريعة كأساس للحكم، إلا أن الآليات التي يستخدمها للتطبيق لاتزال غير مكتملة، وهي بالتالي غير متّسقة أو مُتوقَّعة. هذا الأمر ولّد استياءً شعبياً إزاء ممارسات الحوكمة التي يقوم بها التنظيم. فالأمراء على تنوّعهم يفسّرون القواعد ويطبّقونها بشكل مختلف، متسبّبين باستياء بعض السكان في المناطق التي يسيطر عليها التنظيم. كما أن هذا الأخير يصبح أكثر وحشيةً في تعاطيه مع قواعده الشعبية، مايدفع الناس إلى التذمّر عنه سرّاً. 82 وهكذا، حاصر التنظيم نفسه على نحو ما؛ وغالباً ما لجأ إلى العنف إلى حدّ أنه لم يَعُد قادراً على الحد منه من دون فقدان مصداقيته.

فضلاً عن ذلك، يواجه تنظيم داعش معارضة داخلية متنامية في صفوف مقاتليه، الذين يحاول بعضهم الفرار لأنهم لايوافقون على سلوكياته. كما أنه من الصعب توحيد مقاتلين من خلفيات متنوّعة تحت إيديولوجيا واحدة، ولاسيما أن معايير هذه الإيديولوجيا لاتزال غير واضحة. وقد ردّت قيادة داعش بإعدام أعضاء تجرّأوا على التعبير عن انتقادهم لأفعال التنظيم، بما فيها قتل أكثر من 100 مقاتل في كانون الأول/ديسمبر 2014.

استُخدِم التهديد بالعنف أيضاً لإسكات أبو لقمان، أمير الرقة، بعد أن تحدّى أبو بكر البغدادي في حزيران/يونيو قائلاً إنه كان يجب أن يحظى هو أيضاً بفرصة أن يصبح أمير المؤمنين. فأُعدِم أبو لقمان في كانون الثاني/يناير 2015 على يد مقاتل ليبي من داعش. وثمة حالات أيضاً واجه فيها التنظيم معارضةً من أعضاء اعتبروه غير متطرف بما يكفي؛ إذ أن أميراً كويتياً عبّر عن شكاوى مماثلة فأُعدِم على الفور في العام 2015، بعد اتهامه بأنه جاسوس.

التوترات السورية-الأجنبية

تتصاعد التوترات أيضاً بين المقاتلين السوريين وبين نظرائهم الأجانب.

في مدينة الميادين الواقعة في شرق سورية، تواجَه أمير سوري مع أمير مصري فقتله ثم وضع سيجارة في فمه لتبدو الجريمة كأنها عقاب شرعي.

يُذكَر أن أحد الحوافز الرئيسة التي تدفع المقاتلين الناطقين باللغة الروسية إلى الانضمام إلى داعش، هو أملهم في أن يستطيعوا استخدام القتال في سورية كخطوة نحو مهاجمة النظام الروسي، وغالباً ماينظر إليهم المقاتلون من خلفيات أخرى على أنهم يسعون إلى تحقيق أجندة منفصلة خاصة بهم.

وفي الرقة، اندلعت سلسلة من الاشتباكات بين الأمير ومقاتلين شيشان. فالمقاتلون الشيشان والداغستانيون يثبتون أنهم أكثر وحشية وصلابة من المقاتلين الآخرين، وفقاً لأحد المقاتلين المحليين. وعلى سبيل المثال، أُحرِق الطيار الأردني حياً في العام 2015 عقب خلافات حادة بين المقاتلين الناطقين بالروسية وبين القيادة العراقية والسورية لداعش في الرقة والطبقة، إذ أصرّ هؤلاء المقاتلون على الحرق فيما تحرّجت القيادة عن القيام بذلك لأن الطيار كان مسلماً والإسلام يحظّر إجمالاً القتل حرقاً. ومع أن المقاتلين الناطقين بالروسية كانوا أدنى رتبةً من القادة العراقيين والسوريين، إلا أنهم استطاعوا أن يتفوّقوا على قادتهم عبر الترهيب. هذا الأمر دفع القيادة في الرقة إلى توخّي الحذر حتى إزاء أعضاء آخرين في التنظيم؛ فوفقاً لأحد المقاتلين المحليين، لم يَعُد يشعر الأمراء ذوو الرتب العالية بما يكفي من الأمان ليخرجوا ليلاً من دون حراسة مشدّدة.

كما أن مايعتبره المقاتلون السوريون تمييزاً ضدهم يُحبِط معنوياتهم. فهؤلاء يقولون إنهم يحصلون على امتيازات أقل من المقاتلين الأجانب، وغالباً مايجري إرسالهم إلى الخطوط الأمامية أكثر من نظرائهم الأجانب. وقد تدهورت الأوضاع على الخطوط الأمامية، ولاسيما في دير الزور والحسكة في الشمال الشرقي، لأن تنظيم الدولة الإسلامية يقاتل أعداء عدة في الوقت نفسه: الجيش السوري الحر؛ ولواء ثوار الرقة؛ ووحدات حماية الشعب الكردي العلمانية؛ وحزب العمال الكردستاني، الذي يقاتل إلى جانب النظام.

بدأ مقاتلو تنظيم الدولة الإسلامية يعتبرون أن إرسالهم إلى الخطوط الأمامية هو بمثابة دفعهم إلى موت محتّم. ففي حين يعتبر العديد منهم أن كونهم أعضاء في التنظيم يحقّق “إيديولوجية موت”، يشكّك آخرون في عملية اختيار الأعضاء الذين يجري إرسالهم إلى الخطوط الأمامية. وقد ردّت قيادة داعش بإرسال أعضاء تريد التخلّص منهم إلى الخطوط الأمامية؛ وذلك كان الحال في معركة كوباني في أواخر العام 2014، حينما أدرك التنظيم أنه يخسر، فأخذ يرسل مَن اعتبرهم مسبّبين للمتاعب كطريقة للتخلّص منهم.

كذلك، يزداد استياء السكان المحليين السوريين من الأعضاء الأجانب في تنظيم الدولة الإسلامية، وبعتبرون أنهم لايمتلكون فهماً للسمات الثقافية المحلية. فطريقتهم القاسية ولكن غير المتّسقة في تطبيق الشريعة تُنفِّر هؤلاء السكان، ولاسيما أولئك الحاصلين على تأهيل ديني. وإذ يُمنَح الأجانب المزيد من الامتيازات، يقول السوريون إنهم يتصرّفون أحياناً بشكل يتخطّى حتى الحدود التي وضعتها قيادة التنظيم. فعلى سبيل المثال، شهدت الرقة حالات دخل خلالها أمراء إلى المساجد وخطبوا من دون أن يكون لديهم أي مؤهلات دينية. لكن الأمراء من ذوي المراتب الأعلى يعون هذه المشاكل، وقد حاولوا معالجتها عبر تزويج المقاتلين الأجانب بنساء سوريات بغية تعميق صلاتهم بالسكان المحليين، وعبر استبدال الأمراء الأجانب بشيوخ محليين سوريين. لكن ذلك أسفر عن مشكلة أخرى، إذ استغلّ الشيوخ مواقعهم للاستيلاء على منازل الناس واستعباد نسائهم. وبالتالي يعتبر بعض سكان الرقة السوريين أن الأجانب يعاملونهم معاملةً أفضل مما يعاملهم القادة السوريون.

تحديات الحوكمة والأمن

يواجه تنظيم الدولة الإسلامية أيضاً التحدي المتمثّل في مدى قدرته على إرساء دولة فعلية. فالتنظيم توسّع بما يفوق طاقته، وبحلول منتصف العام 2015 أصبح عاجزاً عن التمدّد جغرافياً من دون أن يكون ضعيفاً في العديد من المناطق. ومع أنه بدأ ينشئ مؤسساته الحكومية، إلا أنه يفتقر إلى الخبرة والموارد لإدارة دولة كاملة، علماً أن قدراته في الحوكمة هي في مرحلة بدائية. وتشير التقارير الإعلامية إلى أن مستوى توفير الخدمات في المناطق التي يسيطر عليها داعش هو دون الحد الأدنى من الحاجة.89 وهذه العقبات، إضافة إلى إغلاق تركيا حدودها مع سورية في العام 2015، تُبطِئ عملية هجرة الأجانب، مايؤدّي إلى نقصٍ في التكنوقراط المطلوبين وتضاؤلٍ في عدد المقاتلين الجدد المحتملين.

يُضاف إلى كل ذلك أن التنظيم يواجه تحدياً أمنياً جدّياً. فمع أن حملة التحالف الدولي ضده تتركّز على الغارات الجوية، إلا أنها تعتمد على المخابرات المحلية لاستهداف قادة داعش. وهذا الأمر جعل قيادة التنظيم ترتاب للغاية من الزائرين والقادمين الجدد، ولاسيما الأجانب منهم، إذ تخشى أن يكونوا جواسيس. لكن هنا يواجه التنظيم معضلة: لايمكنه رفض أشخاص قصدوه مبايعين إياه، ولكن لمعرفة ما إذا كان هؤلاء القادمون الجدد جديرين بالثقة، يتعيّن عليه استخدام عدد كبير من الأشخاص لمراقبتهم. وهذا يشكّل عبئاً مالياً ولوجستياً، خصوصاً في وقتٍ يحتاج تنظيم الدولة الإسلامية إلى انتقال مزيد من الأشخاص إلى المناطق الخاضعة إلى سيطرته لدعم إقامة الخلافة. فقادة التنظيم، وبسبب عدم قدرتهم على تهدئة مخاوفهم الأمنية، يُبقون مواقع تواجد منازلهم سريةً، ويُقال إنهم يأمرون بقتل أي شخص يُشتبَه بتسللّه إليها.

التمدّد الجغرافي

صحيح أن تنظيم الدولة الإسلامية كان قادراً على زيادة تواجده الجغرافي في سورية والعراق، إلا أنه كان عاجزاً عن فعل ذلك إلى ما لانهاية. فهو يستصعب التمدّد والمحافظة على المناطق حيث المقاومة المحلية كبيرة، على غرار المناطق الشيعية في العراق أو الكردية في سورية.

والواقع أن التنظيم يحاول الاستيلاء على أجزاء من محافظة حلب، إلا أنه يواجه سلسلة من العقبات هناك أيضاً. ففي البداية، واجه مقاومةً في المنطقة من جانب المجموعات الثورية السورية المدعومة من الغرب، ولاسيما حركة حزم وجبهة ثوار سورية. وعقب تراجع هذه المجموعات بعد الهجمات التي شنّتها عليها جبهة النصرة في أواخر العام 2014، وصعود جيش الفتح في الشمال، يواجه تنظيم الدولة الإسلامية مقاومةً من هذا التحالف الثوري المنافس الجديد، ومقاومةً متواصلةً في شمال حلب بشكل أساسي من المجموعات الإسلامية المنضوية تحت التحالف المُسمّى الجبهة الشامية. هذا وتجعل الغارات الجوية التي يشنّها النظام والبراميل المتفجّرة التي يلقيها، من الصعب على التنظيم أن يتمدّد في حلب، لأن زيادة الأراضي التي يسيطر عليها ستتطلّب تواجداً عسكرياً متزايداً، الأمر الذي قد يُعرِّض التنظيم إلى مزيد من الغارات.

عندما بدا أن تنظيم داعش تمدّد جغرافياً بما يفوق طاقته، عمد في أغلب الأحيان إلى إعادة تنظيم نفسه وتقوية قبضته على المناطق التي يسيطر عليها، كما فعل عند محاولته الاستيلاء على إدلب في آذار/مارس 2014. آنذاك، وبعد أن اعتُبِرَت المنطقة بعيدة جداً ومنفصلة عن عمليات التنظيم في الرقة، قرّر هذا الأخير الانسحاب وتعزيز قبضته على الرقة.

بيد أن الاستيلاء على إدلب من جانب جيش الفتح، إضافة إلى انسحاب قوات النظام من مناطق مثل تدمر، حثّ تنظيم الدولة الإسلامية على استئناف تمدّده في سورية لاستعراض نفوذه، ولاسيما في وجه خصمه جيش الفتح. هذا الأمر وضعه في خطر التمدّد الزائد، خصوصاً لأن نموذج إحكام قبضته على المناطق هو من خلال السيطرة الشاملة، التي تتطلّب موارد بشرية وأمنية وقدرات حوكمة كبيرة.

التمدّد الدولي

شكّلت تحديات الوضع المحلي في سورية والعراق سبباً رئيساً لانخراط تنظيم داعش أكثر فأكثر في هجماتٍ في بلدان أخرى، مثل اليمن وليبيا ومصر. فقد قَبِل التنظيم مبايعة مجموعات تتواجد في تلك المناطق، وأرسل أمراءه لعقد اتفاقات معها. بعض تلك المجموعات أتباعٌ جدد، على غرار أنصار بيت المقدس في سيناء، وهم يجدون في تنظيم الدولة الإسلامية وسيلةً للحصول على النفوذ والموارد. أما مجموعات أخرى، مثل أنصار الشريعة في ليبيا، فتربطها صلات أقدم بالتنظيم، تعود إلى السنة الأولى من الثورة السورية، حينما نسّق الثوار الليبيون مع نظرائهم السوريين لإنشاء لواء المهاجرين، الذي انطلق من الساحل السوري ثم انتقل إلى الرقة. مذّاك الحين، برز عدد من القادة الليبيين ضمن تنظيم داعش، الذين استقدموا نموذج هذا الأخير إلى ليبيا.

هذا التوسّع في الأنشطة يبدو ناجماً لا عن رغبةٍ في زيادة الحدود الجغرافية للخلافة، بل عن أهداف نفسية وتكتيكية. فبهدف رفع معنويات أتباعه، يحاول التنظيم أن يُظهِر لهم أنه يتمتّع بتأثير عالمي. في الوقت نفسه، يبغي التنظيم أن يكسب وقتاً لمعالجة التحديات التي يواجهها ضمن البلد وذلك من خلال إلهاء المجتمع الدولي عن سورية. ووفقاً لأحد المقاتلين المحليين، يدرك تنظيم داعش أن النظام السوري يحتاج إليه للبقاء، وأن الولايات المتحدة تفيد من وجوده فيما هي متردّدة في مايتعلّق بمصير نظام الأسد، ولذا يتحيّن داعش الفرصة ليُعيد تنظيم نفسه في سورية. في غضون ذلك، يعتمد على الخلايا النائمة والهجمات غير المتّسقة لاستعراض نفوذه في أنحاء العالم.

بيد أن هذا التمدّد يطرح تحدياته الخاصة. فإذ يبايع مزيدٌ من المجموعات والأفراد تنظيم الدولة الإسلامية في مسعًى إلى كسب النفوذ والشهرة والموارد، وإذ يحتضن التنظيم مزيداً من هذه الكيانات والحالات لتأكيد نفوذه العالمي، سيكون مجبراً على التحوّل من منظمة مركزية إلى منظمة متعدّدة الفروع على غرار القاعدة. وبحسب وصف أحد المصادر المحلية، فإن صعود نماذج أصغر من تنظيم داعش في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، سيُحوِّل التنظيم إلى مايشبه “مسخ الميدوسا (في الأسطورة اليونانية، إمرأة مسخ تكسو رأسها الأفاعي الحيّة)، أي منظمة ذات فروع شبه مستقلة تنشط في أنحاء العالم كافة”. وكلما كان تنظيم داعش لامركزياً، كلما كان أقلّ قدرةً على السيطرة على عملياته العالمية.

استراتيجية لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية

على الرغم من التحديات التي يواجهها تنظيم الدولة الإسلامية، بقي مرناً وقابلاً للتأقلم.

صحيح أن التنظيم خسر ربع أراضيه في العراق بعد ستة أشهر من الغارات الجوية للتحالف الدولي، إلا أنه استطاع أن يتقدّم إلى مدينة الرمادي في أيار/مايو 2015. وقد أتاح تركيزُ التحالف على العراق للتنظيم أن يضاعف مساحة المنطقة الخاضعة إلى سيطرته في سورية، على الرغم من عددٍ من الانسحابات التكتيكية والخسائر في المناطق الكردية. كما أن التنظيم وسّع نطاق عملياته جنوباً، حيث يستهدف الجبهة الجنوبية التابعة للجيش السوري الحر، وشمالاً في حلب. إلا أن نجاح تنظيم الدولة الإسلامية يجب ألا يُقاس بحجم الأراضي التي يسيطر عليها، بل بمدى حيوية التنظيم ككلّ.

يعود جزءٌ من هذه الحيوية إلى بحث التنظيم المتواصل عن حلولٍ للتحديات التي يواجهها، وإلى قدرته على تكييف عملياته وتكتيكاته على الأرض وفقاً لذلك. لكن نجاحاته هي أيضاً نتاج الفرص التي ينتهزها. وهذه الفرص هي نتيجة مكامن الضعف في استراتيجية التحالف الدولي، بما في ذلك الاهتمام غير الكافي بمعالجة التظلّمات الطائفية في العراق، واستمرار نظام الأسد في سورية في غياب حلٍّ للصراع.

يُمثِّل تنظيم الدولة الإسلامية بالنسبة إلى المجتمع الدولي واللاعبين الإقليميين، تهديداً خطيراً للأمن الإقليمي وحتى الدولي. فالتحالف الذي أنشأته الولايات المتحدة وتقوده، هو خطوة إيجابية نحو معالجة هذا الخطر؛ إلا أنه غير كافٍ البتة. ففي حين أن استراتيجية التنظيم متنوّعة، وتحوي عناصر اجتماعية واقتصادية إلى جانب عناصر عسكرية، تبقى حملة التحالف متركّزةً على النشاط العسكري. وهذا النشاط يقتصر، إلى حدّ كبير، على الغارات الجوية التي تستهدف بشكل أساسي المراكز الحضرية لتنظيم الدولة الإسلامية، بدلاً من مراكز القيادة التابعة له في الصحراء. ونتيجة لذلك، حافظ التنظيم على قدرته على توجيه عملياته العالمية.

والواقع أن الغارات الجوية نفسها شكّلت سيفاً ذي حدَّين. ففي سورية أسفرت عن مقتل مقاتلين من الجيش السوري الحر، الذين كان تنظيم الدولة الإسلامية يحتجزهم. فمع انطلاق الغارات في العام 2014، قُتِل 200 من هؤلاء المقاتلين في هجومٍ للتحالف على محكمة تابعة لتنظيم داعش، حيث كانوا محتجَزين في البوكمال في شرق البلاد، فيما لقي 300 مقاتل من الجيش السوري الحر المصير نفسه في الرقة.95 هذا وأودت الغارات الجوية في الرقة بحياة مدنيين في الغالب، مازاد من حنق السكان إزاء الغرب. وقد تقرّبت بعض القبائل السورية في الجزء الشرقي من البلاد من تنظيم الدولة الإسلامية أكثر نتيجة لذلك، إذ تشتكي من أن المجتمع الدولي لم يتدخّل ضد نظام الأسد بل فقط ضد تنظيم يُقدِّم نفسه على أنه يقاتل النظام.

الشعور نفسه يُفصَح عنه في العراق، حيث يتزايد الاستياء المحلي إزاء تعاون التحالف غير المباشر مع الميليشيات الشيعية في الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية، ولاسيما نظراً إلى مستوى النهب الذي تقوم به تلك الميليشيات في مناطق مثل تكريت. كما أن الوتيرة العالية من الاستقطاب الطائفي في العراق، وواقع أن تنظيم الدولة الإسلامية انبثق من المنطقة في العام 2003، يعنيان أن التنظيم له روابط وثيقة في البلاد، سيكون من الصعب حلّها من دون اتخاذ إجراءات شاملة لكسب ثقة السكان المحليين من السنّة.

حتى النجاحات التي حصدها التحالف كانت بتكلفة مادية هائلة. ففي كوباني، وفّرت قوات البشمركة البرية المعلومات المخابراتية عن مواقع تنظيم داعش في المدينة، التي استخدمتها طائرات التحالف المقاتلة لتحديد أهداف غاراتها. فكانت النتيجة تسوية كوباني بالأرض. ولذا سيكون تطبيق المقاربة نفسها على مناطق أخرى مثل الموصل كارثياً.

قد تكون الغارات الجوية أضعفت تنظيم الدولة الإسلامية، إلا أنها لن تكون قادرة على التخلّص منه. فللتنظيم هدف بعيد المدى، وهو يراهن على انحدار سورية لتصبح دولة فاشلة كي ينشئ جيلاً جديداً من الموالين له. وإلا فلا إمكانية للتخلّص من داعش من دون التوصّل إلى حلٍّ سياسي للصراع السوري.

لقد قدّم النظام السوري نفسه على أنه شريك للغرب في مكافحة الإرهاب، فيما بحثت بعض الدول في فكرة العمل مع نظام الأسد لمحاربة تنظيم داعش. لكن هذه المقاربة ليست واقعية. إذ من المهم أن نتذكّر أن التنظيم هو جزئياً نتاج نظام الأسد نفسه؛ حتى لو انخرط النظام في الحرب ضد داعش، سيبقى من مصلحة الأسد أن يُبقي على النشاط الجهادي في سورية لدعم تأكيده على أنه يكافح التطرّف.

من غير الواقعي أيضاً توقُّع التخلّص من تنظيم الدولة الإسلامية ثم التطرّق إلى الانتقال السياسي في سورية. على الخطوتين أن تُتَّخذا بالتوازي، مايعني أنه لابد من وجود استراتيجية سياسية لسورية تكون مدعومة دولياً، وتحول دون انحدار البلاد نحو نوع الفوضى الذي شهدته ليبيا عقب سقوط معمر القذافي.

على المدى القصير، يمكن استخدام التحديات التي يواجهها تنظيم داعش كفرصٍ للتحالف الدولي من أجل تحديد نقاط الضعف واستغلالها. ومع أن قيادة التنظيم تحاول أن تجد حلولاً لتلك المشاكل، بدءاً من الموارد المستخدمة بشكل مفرط، وصولاً إلى تحديات الحوكمة والتظلّمات المحلية، يمكن استخدام العديد من هذه المشاكل لزيادة الضغط على المنظمة من داخلها.

بناءً على ذلك، يجب ألا تُركّز محاولات استخدام الدعاية ضدّ تنظيم الدولة الإسلامية على الإيديولوجيا – وعلى الحجج التي تقول مثلاً بأن التنظيم ليس إسلامياً فعلاً – بل على الديناميكيات المتناقضة للحياة اليومية ولساحات المعارك الواقعة تحت مظلة التنظيم، على غرار ممارساته الحوكمية غير المتّسقة. كما ينبغي على الدول المحتشدة ضد التنظيم أن تزيد من مراقبة الأفراد والمجموعات خارج سورية والعراق، الذين قد يعملون كخلايا نائمة.

تركيا أيضاً تستطيع أن تضطلع بدور مؤثّر على المدى القصير. قبل العام 2011، كان من الصعب اختراق الحدود السورية-التركية. لكن الصراع في سورية جعلها قابلة للاختراق، ما أتاح للقاعدة في العراق آنذاك، أي المنظمة الأم لداعش، أن تصل إلى المقاتلين الذين كانوا يعبرون إلى العراق بعد دخول سورية عبر تركيا. وقد زادت تركيا من تعاونها مع التحالف المناهض لتنظيم الدولة الإسلامية، مُغلِقةً بما في ذلك حدودها مع سورية، إلا أنها لم تسمح لطائرات التحالف بالعمل انطلاقاً من القواعد التركية. والوصول إلى مثل تلك القواعد من شأنه أن يساعد حملة التحالف على الوصول إلى الأهداف في سورية بشكل أفضل.

كذلك ينبغي أن تقترن حملة الغارات الجوية بإنشاء حرس وطني في العراق، يضمّ ممثّلين عن الطائفتَين السنّية والشيعية في البلاد بغية منع تنظيم داعش من استغلال التظلّمات السنّية. كما يجب أن تقترن بتقوية التحالف المُعارِض المعتدل الوحيد المتبقّي الذي يقاتل تنظيم الدولة الإسلامية في سورية، وهو الجبهة الجنوبية.

والواقع أن برنامج “التدريب والتجهيز” الذي وضعته الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في أوائل العام 2015 لزيادة عديد المقاتلين المعتدلين الذي جرى التدقيق في خلفياتهم، ليس كافياً. فالجبهة الجنوبية تحتاج إلى المساعدة أيضاً على المستويَين التنسيقي والمالي، لتتمكّن من جذب فصائل مستقلة أخرى للانضمام إليها. فضلاً عن ذلك، كلما جرى إظهار قدرة المعارضة المعتدلة على تقديم المزيد، ارتفع أكثر مستوى الثقة المحلية فيها، الأمر الذي سيُترجَم بدوره إلى مزيد من التأثير والفعالية العملاتية. وذلك ليس لأن الدعم المحلي يزيد من قدرة الجبهة الجنوبية على جمع المعلومات وحسب، بل لأنه يُسهِّل عمل الجبهة الجنوبية مع المجالس المدنية المحلية. وهذا ضروري لأن الجبهة تنشط في درعا التي تُشكِّل موقعاً استراتيجياً على بُعد 100 كلم (حوالى 62 ميلاً) فقط من دمشق. وإذا استطاع تنظيم الدولة الإسلامية التفوّق على الجبهة الجنوبية، فسيكون من الأسهل عليه التقدّم نحو دمشق.

أما على المدى المتوسط، فالطريقة الوحيدة لمكافحة التنظيم بفعالية هي اتخاذ تدابير خاصة بالحوكمة وصنع القرار في العراق، من شأنها أن تُحيي ثقة المواطنين في مؤسسات الدولة، وتُخفِّف من حدّة الانقسامات بين الطوائف.

في سورية، يتعيّن على الأطراف الدولية المعنيّة بالصراع التوصّل أولاً إلى اتفاق تسوية بشأن عملية الانتقال في البلاد. ويجب أن يتّخذ ذلك شكلَ حكومة مؤقّتة تضمّ ممثّلين عن مختلف المجموعات المعارضة على الأرض، سواء العسكرية منها أم المدنية، إضافة إلى المعارضة في الخارج. ومن شأن هذا الاتفاق أن يُشجِّع تلك الشخصيات من النظام الحالي التي تُبدي انفتاحاً على التسوية – ولكن تخشى ترك النظام لغياب شبكة أمان – على الانضمام إلى الحكومة المؤقّتة. هذا النوع من الحكومات سيُمكِّن الجيش السوري، في نهاية المطاف، من التوحّد، والحكومة السورية من السعي رسمياً وراء دعم المجتمع الدولي لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية. كما أنه سيشجّع المواطنين الذي يعيشون ببؤس في المناطق الخاضعة إلى سيطرة هذا التنظيم، على الاحتشاد ضدّه. والقبائل التي تتبع التنظيم بداعي الخوف ستُغيِّر على الأرجح انتماءاتها عندما ترى بديلاً أقوى.

أما على المدى الطويل، فمن شأن الخطط الآيلة إلى توزيعٍ عادلٍ للموارد، والسماح للمواطنين بإبداء الرأي في الحوكمة المحلية، أن تُحيي الثقة في الحكومة وتجذب المُنتمين إلى تنظيم الدولة الإسلامية سعياً وراء الكسب المادي. وإحدى الطرق لتحقيق ذلك هي إطلاق نقاش حول الفدرالية في سورية والعراق، وحثّ السوريين على اتخاذ قرارهم بشأن شكل وتطبيق بنية الحكم هذه.

في سورية، سبق أن زُرِعَت بذور الحوكمة المحلية الموثوقة في الجنوب، حيث الجبهة الجنوبية دخلت في عملية مأسسة لتوسيع نطاق اختصاصها من الأنشطة العسكرية إلى الحوكمة. والواقع أن الجبهة الجنوبية تحتاج إلى الدعم الدولي لا لتتمكّن من مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية والنظام وحسب، بل لتتمكّن أيضاً من الاضطلاع بدورٍ في الانتقال السياسي في سورية. وثمة حاجة إلى المساعدة لتوفير الأجور للمقاتلين والمدنيين العاملين في مؤسسات الجبهة الجنوبية، للسماح لهم بالتنافس مع ماتُقدِّمه مجموعاتٌ مثل داعش. ومن شأن هذا الدعم أن يتيح أيضاً للجبهة الجنوبية توطيد مبادراتها الحوكمية، مثل الجهود المبذولة للعمل مع المجالس المحلية لإنشاء محاكم مدنية، الأمر الذي يتيح لهذه المؤسسات توفير بديلٍ عن نظام الحوكمة الذي يقدّمه تنظيم الدولة الإسلامية.

في نهاية المطاف، السبيل إلى استئصال تنظيم الدولة الإسلامية ليس عبر الغارات العسكرية وحدها، بل عبر قطع شريانَي الحياة اللذين يتغذّى منهما: التظلّمات في العراق والصراع السوري. وتحقيق ذلك يتطلّب معالجة الطائفية في العراق، وتطبيق خريطة طريق شاملة أوسع لإنهاء الصراع السوري.

———————————-

(*) مركز كارنيغي للشرق الاوسط