لغة السقوط ومظاهره

سمير عطاالله (النهار)

لكل عصر لغته وخطابه. لغة زمن النهضة كانت: شكيب أرسلان، فؤاد افرام البستاني، عمر فاخوري، سعيد تقي الدين، بشارة الخوري، فيليب تقلا، عادل عسيران، إلخ… لغة زمن السقوط، شريط التعذيب في سجن رومية.

السجون، مثل المدارس، مثل الجامعات، تعبير عن الزمن التي هي فيه. مثل إطلاق النار في جامعة اليسوعية عند كل خلاف، مثل مستوى الخلافات بين طلاب الجامعة الأميركية، مثل انتقال عدوى السجون العربية إلى سجون لبنان. كل زمن يفرز (على قباحة التعبير) قواعده ومستوياته ولغته.
يروي القاضي سليم العازار (“النهار”، 24 حزيران) أنه أصدر حكماً بالإعدام على رجل قتل آخر من آل عسيران، لم يدخل القاتل السجن لمجرد أنه كان يحمل بطاقة الانتساب إلى “الصاعقة”، زعيمها زهير محسن. البلد الذي لا يُسجن فيه المحكومون ولا توجّه فيه التُهم إلى قتلَة الرؤساء، لا يحقّ له أن يُفاجأ بممارسة التعذيب في سجن رومية. قبل سنوات كتبت هنا عن أوضاع سجن النساء في طرابلس، عيب الدولة والقضاء والقانون والمجتمع. أما سجن النساء في بيروت فقد دخلَته حاكمة بنك المدينة رنا قليلات، ومعها “الكوافير”، لئلا يتغيّر شكل “الشينيون”. أحياناً تبدو المسألة مأساة، وأحياناً تبدو مسخرة. وفي كل الأحيان هي تعبير مقزِّز للسقوط الحرّ الذي تعبِّر عنه لغة السياسيين المتفلّتين على تأديب الخصوم وتعنيف الأوادم وتقريع جميع الناس، كل يوم.
في مثل هذا الدَغل اللغوي، يُصبح من المضحك أن نطالب السجّانين الصغار بالتزام البدهيات الإنسانية أو معايير البشر في دول الإنسان. ماذا يُلزِم السجان الصغار في بلد يسخّف رئاسة الجمهورية 25 مرة في مجلس النواب؟ وأي قانون نريد تطبيقه في السجن فيما نوجّه الإهانة إلى قيادة الجيش كل يوم؟ وأي مشاعر نطلبها من الجلاّدين فيما ترتعد الحكومة رعباً إن هي عقدت جلستها الأسبوعية؟ البثور المرَضية في سجن رومية أعراض تلقائية طبيعية للأمراض والأوبئة والتلوّث التي تنخر في عظام الدولة والمجتمع والوطن. هذه لغة زمن السقوط. من أمامكم ومن ورائكم.
قبل أن نطالب بسجّان يلتزم أصول عمله ويضبط الوحش الذي في نفسه، يجب المطالبة بسياسي يقبل قواعد القانون، وأعراف العُرف، وانضباط النفس، وتسهيل أعمال الناس، وعدم تفريغ رموز الدولة الكبرى من معانيها وروابطها وحصانتها الوطنية والأخلاقية والتاريخية.
عندما يفيق هذا السجّان الشاذّ كل يوم وهو في بلد لا يسمع فيه مطلباً وطنياً واحداً، ولا يسمع سوى دعوات إلى الشجار والقتال والتحارب، ولا يَقرأ إلا عن مطالب شخصية فاقعة طوال عمره وطوال عهده بمتابعة أخبار بلده – عندها، أي رادع سوف يردعه؟ أي ضمير يمكن أن يقلّد؟ أي تعقّل يمكن أن يطلب من نفسه؟ الجميع ذاهبون بالسفينة إلى الصخور، فهل وقفت المسألة على سمعة السجون؟ وماذا عن النواب والوزراء الذين طالبوا الدولة بـ”التعويضات المستحقة” لهم بعشرات الملايين، طلبات ممهورة أيضاً بتواقيع القضاة؟ بطاقة “الصاعقة”! المؤسف أن زهير محسن عاد فاغتيل ولم يدخل قاتله السجن يوماً واحداً. بطاقة مضادة. علامات الانهيار.
كم هو عدد الجرائم المُحالة على القضاء ولا يجرؤ أحد على النظر فيها؟ سوف تنسى بعد فترة من شدة المَلل. لكننا لا نكفّ عن تأنيب الدولة التي لم تستطع حل جريمة واحدة حتى الآن! لا بد أن يكون هناك مسؤول عن ذلك. وأن يسمّى. فالذي يغار على بلده ووطن أبنائه وأرض أمه، يجب أن تكون له الشجاعة لتسمية الخيانات في حق الشرعة الوطنية. الاكتفاء بالضمير الجمعي المستتر، “هم”، مشاركة في الهدم والابتزاز. ثمة دستور يُداس، ودولة تُفتّت، وناس تُسرق حياتهم وأرزاقهم وتُهدَّد مصائرهم وتُدفن آمالهم وحقوقهم ومناعاتهم البقائية – هؤلاء، لا يمكن أن نبلغهم أن المسؤول هو “هم”. مَن هم؟ مَن الذي يرمي البلد في حال المحكوم بالإعدام ويعلّقه بين رعب الموت وفظاعة الانتظار؟ أليس من حق الناس أن تعرف جلاّدها الذي نتهمه كل يوم ولا نسمّيه، كأننا في حفلة تنكرية تخفي أقنعتها السيماء الواضحة في الوجوه؟
في خريطة الكابوس المشرقي الذي أمامنا، وحروب الدواعش التي من حولنا، لم يبقَ سوى موقعين مسيحيين: رئاسة الجمهورية وقيادة الجيش. واحدة محاصرة بالفراغ، وأخرى بالإهانة. واحدة مهدَّدة بوجودها، وواحدة مطعون بشرعية قائدها وكرامة ضباطه وجنوده. من الآن، وإلى أن يتغيّر النظام الدستوري البرلماني الذي كلّفنا 200 ألف قتيل ومليون مهاجر، يحقّ لكل لبناني نظيف السجل العدلي، الترشُّح لرئاسة الجمهوررية، وقائد الجيش توافق وطني مفتوح أمام جميع الضباط المؤهَّلين.
“تعيين” الرئيس سلفاً، احتقار للجمهورية وازدراء لقوانينها وبرلمانها. إلا إذا كانت هذه نهاية لبنان غير المعلَنة، ويتمّ إعلانها من طريق إلغاء الحق الدستوري الأخير. في الماضي، كانت هناك جوقة تردِّد أن السيادة لا وجود لها. وأن لبنان لم يعرف معنى السيادة منذ الولادة. مرة ينتخب رئيسه الفرنسيون، ومرة المفوض السامي البريطاني، ومرة السفير الأميركي. تُرى ماذا تقول هذه الجوقة عن تمزُّق سوريا اليوم، وعن البحث في موضوع الرئاسة في جنيف وموسكو وطهران؟ وما هو رأي نُعاة السيادة اللبنانيون من وزراء في حكومات تلك الأيام، في قوافل المقاتلين الذين يفلحون في أرض سوريا ورُكامها؟ بطاقّة “الصاعقة” تتكرّر لأن التاريخ يتكرّر، وفي المرة الثانية على نحو هزلي، كان يقول ماركس. الأمة التائهة لم تعد تبحث عن سيادتها، بل عن حصصها في ما يُردّد عن تقاسيم بشعة وفيديراليات ملعونة. كأنما حروب لبنان القرن الماضي لم تكفِ بعد. أو كأنما الأمور أسهل اليوم، فلا رئيس نُرسله إلى “الكفور” ولا حاجة إلى نشيد وطني يسهل تحويله إلى نشيد جنائزي، توفيراً للوقت ودمجاً للطاقات والنيات.
هذا البلد المسكين، والشعب المقهور، في حاجة إلى رئيس لبناني، لا مسيحي، يلمّ شمل الضائعين والخائفين والتائهين، ويُعيد إليهم ثقتهم في جدوى الوحدة وعظمة الألفة ورقيّها. لا نريد اللحاق بحروب اللعنة ودول المأساة. نحن أقل من أن نقسّم، وأضعف من أن نفقد عروبتنا، وأهم من أن نستسلم لـ”الإغواء الأخير” كما في رواية كازانتزاكيس (“قبل الصلب”).
لقد ذهبنا إلى استقلال واحد معاً. وذهبنا إلى دستور واحد معاً. وشاركنا في وضع أنبل وثيقة عالمية عن حقوق الإنسان، باسم لبنان، لا باسم شارل مالك. وكل رئيس يجب أن يُشبه وطنه: عمق داخلي وأفق عربي واحترام دولي. وليس سيّئاً إطلاقاً أن يُنتخب من البرلمان. المستشار الألماني يُنتخب في مجلس النواب. البوندستاغ. وهذا المجلس قدَّم للألمان وللعالم أضعف مستشارين وأبهى التاريخيين: مؤسّس النهوض من الركام كونراد إديناور، ومؤسّس العودة إلى الأمم فيلي برانت، الذي اعترف، مثل خلَفه الاشتراكي هلموت شميت، بأنه لقيط، وراعي الوحدة الألمانية، العائدة، هلموت كول.
تلك هي القوة الإنسانية التي خلَفت قوة هتلر، الذي دمّر بولونيا، وتشيكوسلوفاكيا، وروسيا وفرنسا، وبعدها دمَّر ألمانيا ورمى بجثته فوقها. يقال إن تلميذ الطب يشعر بفرح شديد عندما يُعطى أول جثة يشرِّحها! صدَر كتاب حديث للبروفسور آرشي براون، الأستاذ في أوكسفورد، بعنوان: “خُرافة الزعيم القوي: القيادة السياسية في العصر الحديث”.
أمثلته على الزعيم القوي، إضافة إلى الألمان المذكورين: البرازيلي كاردوزو، الذي انخفض التضخّم في عهده من 3000% إلى 5%، وانخفض معدل الفَقر والفساد والعدمية السياسية؛ نلسون مانديلا، مارغريت تاتشر، أف. دبليو دو كليرك، شارل ديغول، أدولفو سواريز، ميخائيل غورباتشيوف، دنغ شياو بينغ. الرجال الذين أخرجوا شعوبهم من تخلُّف الدوغما والعصبيات القاتلة والنظريات المهترئة. الفارق بين صين ماو وصين دنغ، أن الأول كان يكتب “الشعر” وله مهارة الخطاطين، أما الثاني فوضع بلاده على الطريق لأن تصبح أهم دولة في العالم. الأول تسبّب بمقتل 60 مليون بشري من أجل “إعادة بناء الصين” وفي سبيل “المسيرة الطويلة”. يا له من عنوان شاعري. لكن دنغ اختار المسيرة القصيرة. مسيرة الإنسان والحرية والكرامة البشرية التي لا تأتي من “الكتاب الأحمر” ولا من أي لون فاقع آخر، وإنما من الإنتاج والنمو والكفاية والازدهار. ترك ماو ملياراً و200 مليون نسمة بالكاد يشبعون. ولم يعد في صين دنغ سوى 400 مليون فقير.
هناك لغة للنهوض، ولغة للسقوط. الثانية مُبتذَلة وبذيئة. المعذّب الأكبر ليس سجناء رومية. فالذي يُجلد كل يوم هو لبنان. والأسير هو لبنان. والمُضطهد هو الدولة اللبنانية، برئاستها وبرلمانها وحكومتها وجميع مؤسساتها. سجن رومية مجرد نموذج كشف عنه، ليس رفقاً بالسجناء، فلم يعد للرفق أثر في هذا النوّ الفردي العارم. ولكن شكراً في أي حال. على الأقل كان للسجناء الحظ في كلمة طيبة.