“عاصفة الجنون” التي تضرب بلاد المسلمين

محمد شيا (النهار)

بعدما انتهى “الربيع”، الذي أزهر لفترة قصيرة في العالم العربي مطلع سنة 2011، إلى نقيض كل ما هو ربيع وحياة وأمل، ما عاد يليق بهذا الحراك الدموي المتفجر الذي بات يضرب بلاد الإسلام والمسلمين، من أقصى جنوب شرق آسيا إلى صحارى إفريقيا وشواطئ الأطلسي، غير وصفه بالعاصفة المجنونة الهوجاء، و”المُلتبسة” في آن واحد.

نقول مجنونة وهوجاء، ولا يحتاج الأمر إلى دليل أو بيان. إذ ما الذي تبقى من المطالب التقدمية والمدنية والديموقراطية التي رفعها الشباب العربي لأشهر عدة سنة 2011 ولم يكن بينها كما رأينا شعارات دينية أو طائفية ظاهرة أو بارزة؟ وما الذي تبقى منها في هذا الحراك العنيف بل المجنون الذي أطلقته الجماعات الأيديولوجية المتشددة من أبي سيّاف جنوب الفيليبين، إلى السيّافين الكُثر في “داعش”، مروراً بعشرات الجماعات الأيديولوجية التي ولدت ولا تني تولد وتتناسل في كل بلد إسلامي، وبين ظهراني كل جماعة إسلامية، وبدون استثناء واحد ربما، من “طالبان” و”القاعدة” شرقاً إلى “التكفير والهجرة” و”شورى المسلمين” و”الجماعة الإسلامية المقاتلة” و”بوكو حرام” وسواها غرباً؟
ما علاقة الأهداف المتشددة أعلاه بالدين الإسلامي الذي تزعم تلك الجماعات الانتساب إليه وخدمة أهدافه؟ وهل الأدوات والممارسات المستخدمة من تلك الجماعات دون استثناء – وهي أقرب إلى الفظاعات البربرية والمتوحشة – تصلح حقاً لتخدم غايات الدين ورفع راية الدين وإقامة حكم الدين- هذا لو صحّ أصلاً أنها في خدمة الدين؟
الدين ليس كذلك، لا من جهة الأهداف، ولا من جهة الأدوات على وجه الخصوص.
فكيف حدث، إذاً، كل ما شاهدناه في السنتين الماضيتين من ذبح وحرق وتدمير ضد البشر والحجر والذي بات أقرب إلى النظرية المتكاملة، أو ما سمّاه البعض من دون خجل “إدارة التوحش”؟ هو الجنون. ولا إسم آخر يليق بما يحدث أفضل من ذلك.
ولكن علامَ هذا الجنون؟ ثم إلامَ؟ ومسؤولية من؟ وهل هناك ما يمكن عمله أو استدراكه؟
يظهر التاريخ الحديث حالات جنون مشابهة أصابت غير جماعة وشعب، في روسيا ستالين، وفي كمبوديا الخمير الحمر، وفي الصين زوجة ماوتسي تونج، وفي رواندا وأوغندا والعراق وسوريا ومناطق أخرى في إفريقيا وآسيا وأميركا الوسطى. وكان قد حدث قبل ذلك ما يشبهها أيضاً وربما على نحو أكثر شمولاً وتدميراً حتى بين تلك التي كان يُظن أنها الأكثر تعقلاً وعقلانية وتحضراً – كما رأينا في أحوال المجتمعات النازية والشوفينية والخرافية في ألمانيا وأيطاليا واليابان سحابة ثلاثينات وأربعينات القرن العشرين.
يمكن الذهاب في تفسير هذا الجنون – وفي ما خصّنا أو يعنينا منه راهناً على وجه التحديد – غير مذهب، سياسي واقتصادي واجتماعي، وكلها صحيحة وواقعية إلى هذا الحد أو ذاك:
إقامة الكيان الصهيوني بالقوة وعلى حساب القانون الدولي وحقوق الشعوب الضعيفة والمغلوب على أمرها، ثم تكرار الاحتلالات الغربية في غير مكان عربي وإسلامي، وآخرها غزو أفغانستان 2001، والعراق 2003، وما استحضر ذلك أو استتبع من غطرسة وإهانة للكرامة الوطنية، وللشخصية العربية، والهوية الإسلامية.
فشل مشاريع التنمية التي قادتها الدولة العربية الوطنية التي نشأت في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، في شكليها الليبرالي والاشتراكي، وتحولها من ثمة إلى ركام متفاقم من الإخفاق الاقتصادي والمالي، وهدر مئات المليارات من الدولارات، والفساد العلني المتمادي.
إفلاس الدولة العربية المدنية الحديثة نفسها، وتحولها إلى واجهة لسيطرة تحالف طبقة رجال الأعمال المحليين الكبار مع الرأسمال الأجنبي والعولمة الأحادية الجانب التي جلبها، وتحت حماية الجيوش والأجهزة الأمنية والاستخباراتية “القومية و الوطنية”، وما نتج عن ذلك من قمع أعمى للأصوات المنتقدة أو المعارضة ومن إقفال لكل المنافذ التي يمكن للمجتمع أن يتنفس أو يعبّر عن نفسه من خلالها.
انهيار الطبقات الوسطى حاضنة الاعتدال والمواطنة والتقدم والحداثة في المجتمعات العربية قاطبة (باستثناء الخليج كحالة مختلفة)، ودخول أجزاء واسعة جداً من المجتمع العربي بعامة – وبخاصة الأجيال الشابة – في غياهب حالات مرعبة من البطالة والأمية والفقر والتهميش، ما خلق الظروف المثالية لنشأة التطرف وتوسعه بسهولة.
سيطرة الأوساط الدينية والطائفية ذات العقل الأحادي والتفكير الضيق على المناهج التربوية في درجاتها كافة، وفي غالب المجتمعات العربية والإسلامية، رغم الأخذ بأحدث التكنولوجيات والتي تبين بالملموس والتجربة أنها تحولت بسهولة أداة في أيدي المتخلفين والمتطرفين وليست بالضرورة باباً للتقدم والتحضر.
الحرب الشعواء المعلنة، بكل الوسائل، على الفكر والتفكير عموماً، وبخاصة إذا كان تحديثياً، أو حراً، أو نقدياً، أو شجاعاً غير ممالئ أو مدجّن؛ وبعض الحرب تلك تحريم تدريس الفلسفة – بما تعنيه من تعقل وتفكر وتحليل ونقد – وتجنب مقاربتها والبحث في مسائلها في مدارسنا وجامعاتنا، وصولاً إلى تكفير المشتغلين بها، ما جعل المسرح الثقافي فارغاً وفي انتظار ممثل وحيد: الفكر اليومي السخيف والسطحي أو الأرض المثالية لولادة التطرف وتمدده.
الأدوار المؤكدة التي لعبتها، ولا تزال، أجهزة الاستخبارات ومراكز التفكير الاستراتيجي الغربية والإسرائيلية والإقليمية والعربية في توليد وإعادة توليد أفراد وجماعات مهمشة ومحتاجة جرى دفعها نحو التطرف والإرهاب.
كل التفسيرات تلك واقعية وصحيحة تماماً، بنسب مختلفة، ومن زوايا عدة، وبمسؤوليات متباينة. لكن التفسيرات “المدنية” أعلاه تبدو أحادية الجانب وقاصرة من جهة واحدة على الأقل:
فأفكار الجماعات المتطرفة القائمة وممارساتها الوحشية الذائعة الصيت ما كانت لتأخذ المنحى الحالي الخطير التي هي عليه الآن، وعلى نحو استثنائي غير مسبوق، لو لم تتصل على نحو مباشر بالدين، والإسلام هو المعني بالتأكيد.
هوذا مكمن قوة الجماعات الإرهابية الراهنة، ومكمن الخطورة في آن واحد: استخدام راية الدين الإسلامي وشعاراته على نحو لم يعرفه هذا الدين، ولا أي دين آخر، في الماضي.
نجاح الجماعات المتطرفة في التوظيف السياسي والإرهابي لراية الدين الإسلامي وشعاراته بسهولة ونجاح لافتين هو ما يجب أن يتجه إليه التفكير والبحث راهناً. سؤال مطروح على دوائر التفكير والبحث من جهة وعلى المرجعيات الدينية الإسلامية ومفكريها من جهة ثانية.
إذ كيف يستطيع فرد، أو مجموعة، أن تخطف راية الدين وشعاراته وتوظفها في أعمال أقرب إلى المجال الجنائي منها إلى الجهادي، ناهيك عن الديني عموماً؟
هل الأمر هو بهذه السهولة واليسر، عقيدة وفقهاً وشرعاً؟ وهل هو بهذا الإحراج والحذر مؤسسياً، وإلى درجة السكوت وصولاً إلى التواطؤ مع ما يجري؟
وهل هو – وهذا هو الأكثر خطورة – الممر السهل والسريع للتأييد الشعبي ومن دون مساءلة أو تدقيق أو نقد؟
وعليه فمن حق الصديق، لا العدو، أن يلاحظ أو يلفته واقع قائم لا يمكن التنكر له وهو:
حين يتاح لأية دعوة – ومن دون النظر في نوعها أو شكلها أو تداعياتها – أن تكون على درجة عالية من سهولة القبول والانتشار والنجاح الشعبي والسكوت الديني المؤسسي (النسبي) لمجرد الزعم بانتسابها للإسلام، ورفعها رايته، وارتدائها لبوسه ومظاهره الشكلية الخارجية، والزعم بخدمة أهدافه، فكيف نأمن من ثمة أن لا يكون ذلك باب واسعاً تنفذ منه بيسر كل الدعاوى المشبوهة المصدر، الملتبسة الأغراض، والبالغة الخطورة بالنتيجة، وبكل المعايير، على المسلمين، وبلاد المسلمين، كما على مستقبل الإسلام نفسه!
هو سؤال فكري برسم دوائر التفكير في منتدياتنا وجامعاتنا، وبرسم علمائنا، إذ عليهم أن يوضحوا عدداً كبيراً من المسائل السياسية والحقوقية والاقتصادية، وأن يؤكدوا في الدساتير والقوانين المعمول بها على انتساب شعوبنا لحضارة البشر، ولمدنيتهم الراهنة، وفق ما هو متعارف عليه من تشريعات وموجبات دولية، وأن النضال ضد الاحتلال والطغيان هو عمل إنساني راق ونبيل وعليه، لذلك، أن يتسم دائماً بالسمات الإنسانية، وأن يبقى أميناً للمبادئ والمعايير الإنسانية – والتعاطف الدولي مع القضية الفلسطينية وغيرها من القضايا المحقة العادلة مثال راهن.
وهو أيضاً سؤال شرعي برسم المؤسسات الشرعية والدينية ومسؤوليها ومفكريها، والتي يصح أن نسألها على وجه الخصوص: هل استئناف الدعوة، والتبليغ، وإقامة الحد، وتكفير الآخر، وإعلان الجهاد، مثلاً، أمور في وسع من شاء – فرداً أو جماعة – التصدي لها وادعاء مسؤوليته عنها؟ وهل عملت ما يكفي حقاً أو كانت لها الشجاعة المطلوبة لإدانة الخروج على الشرع وأهدابه وقيمه وآدابه أولاً وأخيراً، وعلى الطريقة الخطيرة المتدحرجة حالياً؟
وهو، أخيراً ، سؤال ثقافي – سوسيولوجي برسم علماء الثقافة والاجتماع العرب والمسلمين: إذ كيف يمكن أن يتحول المجتمع الإسلامي إلى حاضنة قابلة أو مولدة، بسهولة، لدعوات التطرف الثقافي والديني، ونبذ الآخر، وقبول إلغاء التعدد والتنوع، والسكوت على الممارسات الوحشية التي لا تمت بصلة فكرية أو تاريخية بالإسلام في تياراته ومذاهبه المعروفة؟
أسئلة ثلاثة، فكرية وشرعية وسوسيولوجية، يجب أن تكون دون تأخير محور تفكير مؤسساتنا الأكاديمية والدينية والاجتماعية والتربوية ومدار اهتمامها وعملها وبحثها دون كلل، ومنذ هذه الساعة، وبكل موضوعية وجرأة وروح علمية نقدية وشجاعة.