عهود مضت مليئة بالفوضى والفساد

فيصل مرعي

يوم تولى الرئيس بشارة الخوري سدّة الرئاسة، كان في غاية المثالية، والإنسانية، والرقي، والاعتدال. يومها دقّت بشائر عهد أَمِل فيه الناس انفراجاً على كل الأصعدة والمستويات، سواء أكان محلياً أم عربياً أم دولياً. إلا أنه سرعان ما اُغرقت البلاد في الفساد، فكان أن انتفضت قيادات وطنية ملء الزمان كباراً، أطاحت به بعد إحدى عشرة سنة من اعتلائه سدة الحكم. ومن بعد كان لا بد من رئيس جديد قيامة للبلاد والعباد. ولم يطل الوقت، حتى اعتلى الرئاسة الاولى الرئيس كميل شمعون، إلا أنه سرعان ما انحرف عما كان تعهّد به، سائراً على خطى السلف في ضرب المؤسسات، وفي الإساءة للادارة والحكم ورمْيه البلاد بسياسة الاحلاف الغربية، التي كان من أهم أهدافها إخماد الروح القومية، وإجهاض اليقظة الوطنية، لا سيما في سوريا.. ما أحدث فرقة بين الرئيس كميل شمعون والزعيم التقدمي كمال جنبلاط، الذي كان أحد أهم داعميه بادئ ذي بدء، فكان أن بدأت مرحلة صراع طويل، حيث وقف ليعارض سياسة الرئيس شمعون بعد فترة وجيزة من اعتلائه مقاليد الحكم، مواجهاً بكل صلابة الأحلاف الغربية، والمشاريع الجهنمية، فكان في كل ذلك الرجل الرجل والثائر الثائر، فحقق ما أراد من انتصارات وإنجازات.

في خضم هذه الأحداث كان يعمل على توطيد العلاقة مع الرئيس جمال عبد الناصر، ولا سيما في المفاصل والمنعطفات التاريخية، خصوصاً بعد العدوان الثلاثي على مصر، ومحاولة الغرب تطبيع العلاقات، فتعزّزت فيما بعد علاقة صداقة بينهما وصلت إلى حد التحالف في العام 1958. ومن ثمّ راح المعلم كمال جنبلاط يعمل على كل ما من شأنه توحيد امة العرب، مؤيداً في هذا المجال الوحدة المصرية – السورية، داعياً إلى اقامة الدولة المدنية بما تتضمن من حرية، وعدالة، ومساواة، ومشاركة في الحياة السياسة، وديمقراطية شعبية، وسياسة، واقتصادية، إذ لا ديمقراطية إقتصادية دون إصلاح سياسي.

لقد كان المعلم الشهيد يسعى جاهداً إلى إقامة التكتلات المناهضة للاستعمار والغرب يومذاك، والتي بانت أكثر ما بانت في مساهمته في عقد المؤتمرات التي أتت ثمارها من بعد في إقامة دولة عدم الانحياز التي كان لها دور فعّال في تجنب الحروب واخمادها وسلك طريق الاعتدال والوقوف جنباً إلى جنب مع الشعوب المظلومة. لقد كان يتطلع دائماً إلى وحدة لبنان، ومنها إلى وحدة عربية شاملة وصولاً إلى الوحدة الانسانية الكبرى.

كمال جنبلاط وجمال عبد الناصر.

وعلى هذا، ناشد الجميع عدم فسخ الوحدة بين مصر وسورية، لا بل وقف بحزم بوجه هذا الانفصال، لا سيما وأنه كان المشروع القومي الوحيد آنذاك. في هذا المجال، نعود لنؤكد بأن المعلم كمال جنبلاط قد كان ذا أفق بعيد المدى في أخذه العبر والعظات من هذه التجربة التي لم يكتب لها النجاح، بسبب من عدم توحيد الجهود، وبسبب من هذا التخاذل العربي، الذي ساهم في الخفاء على تدمير هذه التجربة الوحدوية التي لو نجحت لغيرت معالم كثيرة في عالمنا هذا.

وبالعودة الى الشأن اللبناني، فقد ازدادت العلاقات توتراً بين المعلم كمال جنبلاط والرئيس شمعون، فتدهورت أكثر فأكثر، فانقطع حبل الوصال نهائياً بينهما، لا سيما بعد انتخابات 1957 التي أُسقط فيها عنْوة زعماء كبار بسبب تدخل السلطة، والتلاعب بعملية الاقتراع علناً دون حياء أو خجل. ومع ذلك دعا في بادئ الامر إلى التهدئة، داعياً إلى التماسك، رافضاً السير في العنف، وجر لبنان إلى دائرة الفوضى.

هذا في وقت إزداد فيه الشحن الطائفي، وملاحقة المواطنين من أهل الفكر الحر وزجهم في السجون عام 1957-1958. غير أن محاولة الرئيس كميل شمعون التمديد، وكم الأفواه واغتيال رأس الصحافة الكبير والمفكر نسيب المتني جرّ البلاد إلى قيام ثورة 1958، التي ما أن بدأت سرعان ما حققت أهدافها، بعدم التمديد للرئيس شمعون، وبانتخاب الرئيس فؤاد شهاب للبلاد. وما إن شارفت الثورة على نهاياتها راح المعلم كمال جنبلاط يكتب، ويؤرخ، ويستنتج أسباب وأبعاد الثورة، فكان أن أصدر كتباين لهما من الأهمية بمكان، يلخص فيهما هذه الحقبة من تاريخ لبنان. في هذين الكتابين غاص في رحاب التاريخ شارحاً معضلات لبنان التاريخية المتواصلة، والموانع التي حالت دون تقدم المشروع الوطني فيه.

هذه الأفكار التي وردت في هذين الكتابين كان قد اتخذها الرئيس فؤاد شهاب شعاراً له معتمداً إياها مبدأً في مسيرته الإصلاحية التي إنتهجها في بادئ الامر. وعندما اعتلى الرئيس شارل حلو سدة الحكم، دعم المعلم كمال جنبلاط سياسة الرئيس شارل حلو، ولا سيما لجهة استمراره في سياسة الرئيس فؤاد شهاب الاصلاحية، إلا أن تداخل القضية الفلسطينية على الخط، وتدخل الفلسطينيين في شؤون لبنان الداخلية أحدث هوة بين الرجلين.

وبالرغم من التجاوزات التي قامت بها بعض الفصائل الفلسطينية، لم ينكفئ المعلم الشهيد بل عمل جاهداً على إخماد نار الفتنة، بين المقاومة والسلطة اللبنانية، ناظراً إلى القضية الفلسطينية، بمنظار القضايا القومية الكبرى. وقد وضعه تصرفه هذا في مصاف، وفي أرقى المراتب السياسية بين الساسة اللبنانيين.

لقد عرف بحدسه، بأن رياحاً سوداً تلوح في الأفق، وأن ما من شيء يطمئن، فكان عليه أن يصد رياح المؤامرة الآتية لا محالة، انطلاقاً من معين وعيه، وإيمانه، والتزامه بالقضايا العربية على قاعدة القضية والمصير، هذا هو المعلم كمال جنبلاط، الذي حاول ترميم ما فسد طوال عهود وعهود معظمها مليء بالفساد، فكان الثائر والمهدّئ، في نفس الوقت.

أما باقي الرؤساء، فلم يكونوا أحسن حالاً، إذ سادت عهودهم التدخلات والاحتلالات. فإذا ما أردنا التكلم عن بقية العهود لطال بنا الوقت. لذلك أردنا إعطاء نبذة عما إكتنف هذه العهود من اعمال لا تليق بلبنان، ونموذجيته، طبعاً مع الاحتفاظ ببعض الايجابيات. هذه التراكمات لعهود مضت، اوصلتنا إلى ما وصلنا إليه من فراغ وشغور وتشتت، وضياع، وإرتهان، ومشاريع جهنمية، فلنتعظ، ولنعتبر.

اقرأ أيضاً بقلم فيصل مرعي

المعلم كمال جنبلاط مصباح الديمقراطية المتكاملة..

خطاب القسم وحكومة استعادة الثقة

ارحموا لبنان يرحمكم التاريخ..

فلننقذ لبنان اليوم قبل الغد..

طبّقوا الطائف تنقذوا لبنان

لبنان: ديمقراطية مشوّهة وتخبط سياسي…

الاجماع والتوافق (وأي اجماع وتوافق!)

لا للصفقات ولا للاستئثار بعد اليوم

قادة بحجم الوطن أحسنوا قيادة السفينة

النزوح السوري وقانون التجنيس..

حماية لبنان من اولى اولويات الحكومة..

قانون انتخابي بلا نكهة سياسية

لبنان لا تطبيع ولا علاقات…

النأي بالنفس حاجة وضرورة..

..إذا قلنا: أخطأنا…

تسوية جديدة لا استقالة

سلسلة الرتب والرواتب..

لبنان وازمة النازحين..

قانون بلا نكهة سياسية وقيمة اصلاحية؟!

الدولة وحدها تحمي لبنان…