للاعتراف الفاتيكاني إيقاعه المختلف

هشام دبسي (المستقبل)

استكمل البابا فرنسيس رأس الكنيسة الكاثوليكية خطوات من سبقه من باباوات الفاتيكان في مسيرة الاعتراف بالحق والاستحقاق الفلسطينيين، عبر توقيع اعتراف سياسي كياني بدولة فلسطين. لتصبح الفاتيكان الدولة الـ136، التي تتبنى هذا الموقف بما يتضمنه من رمزية التحدي، أو رمزية السبق، أو رمزية الدفع في هذا الاتجاه من المركز الروحي العالمي الى المركز السياسي العالمي.

وكان قداسة البابا بنديكتوس قبل ثلاث سنوات، قد أعلن من لبنان في إرشاده الرسولي: أن «اليهود والمسيحيون والمسلمون يؤمنون بإله واحد والمطلوب (….) أن يقدموا شهادة جميلة للصفاء والمودة بين أبناء إبراهيم أبي المؤمنين«. بتلك الكلمات البسيطة والواضحة طالب البابا السابق الجميع حكومات وشعوباً وأفراداً، بالعمل والانتصار للتسوية التاريخية المنشودة.

لكن الاعتراف اليوم بدولة فلسطين تجاوز المناشدة السابقة، نحو خطوة عملية تساعد وتعزز موقف أنصار السلام والحرية في العالم والشرق الأوسط في نضالهم لإنجاز حل سلمي للصراع العربي الإسرائيلي. وفي المركز منه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. في وقت بلغ التطرف الإسرائيلي أعلى مستوى له، جسدته سياسة حكومات نتنياهو المتعاقبة. التي تعبر في جوهرها ومظهرها، عن أصولية يهودية متصاعدة، لا تقل بشاعة عن الأصوليات القومية والمذهبية.

لذا يحمل الاعتراف الفاتيكاني بدولة فلسطين، بعداً استثنائياً، ويشكّل حدثاً بذاته، له تداعياته وتأثيره الشامل على حركة الصراع الميداني في أرض فلسطين التاريخية، وكذلك على ميدان الصراع السياسي الدولي وتحديداً (مراكز صناعة القرار في واشنطن) لما يتضمنه هذا الموقف من رسالة أخلاقية سياسية، تذهب مباشرة إلى كل فرد مسيحي في العالم، وإلى كل جماعة ذات صلة بالعملية السياسية في الغرب عموماً.

بعد الاعتراف السويدي بدولة فلسطين عمدت معظم برلمانات أوروبا الغربية إلى رفع توصياتها لحكوماتها. كي تحذو حذو حكومة السويد. لكن الآن تبلورت مرجعية من نوع جديد عبر الاعتراف الفاتيكاني، مرجعية تؤشر وتقول وتدفع إلى ما يجب أن تقوم به الحكومات الأوروبية والأميركية لئلا يتحول الاعتراف الفاتيكاني إلى حجة ضد من يرفض الإتيان بمثله.

بهذا امتلكت القيادة الرسمية الفلسطينية منصة جديدة في إدارة المعركة الديبلوماسية على المسرح الدولي، وتحديداً في أوروبا الغربية والولايات المتحدة. لتوظيف الفرص المتاحة واستنفاذها، تحت المظلة الدولية للأمم المتحدة. وما تسمح به المعاهدات والاتفاقيات التي لها سمة القانون الدولي.

في رحلة الحج الأخيرة للبابا فرنسيس إلى فلسطين، أراد تشجيع المنطقة على المضي قدماً في المسيرة نحو السلام قائلاً: «السلام يبنى يدوياً وكل يوم، لا وجود لمصانع السلام، السلام يصاغ يومياً«.

كما أراد أيضاً «تثبيت الجماعة المسيحية بالإيمان لاستمرار الحضور المسيحي في الشرق الأوسط» مضيفاً القول: «إن إخوتنا هم شهود شجعان للرجاء والمحبة هم «ملح ونور» تلك الأرض«.

تلك المنهجية التي تحدث بها البابا فرنسيس تعكس الدعوة للتمسك بالوجود، والاندماج في الأوطان على عكس تجار «مقولة الأقليات« كما تعكس رؤية الفاتيكان لتنفيذ قرارات الأمم المتحدة بدءاً من القرار 242، وما صدر من قرارات ذات صلة بالمسألة الفلسطينية. في هذا الصدد سعى الفاتيكان لإيجاد مساحة في القدس للعيش والتعايش بين أتباع الديانات الثلاث معتبراً أن القدس مفتاح الحل للصراع المستمر.

تطويب قديستين

تزامن الاعتراف بالدولة مع تطويب القديستين ماري الفونسين غطاس ومريم بواردي مع الذكرى الـ67 للنكبة الفلسطينية المستمرة. تزامن الأحداث تلك ينطوي على إعادة انتاج صورة الحق التاريخي للفلسطينيين فضلاً عن الحق السياسي المعترف به دولياً. ليرى العالم ويدرك أن الحق السياسي الذي ترفض الاعتراف به دولة إسرائيل. هو في حقيقة الأمر الجزء الصغير من الحق التاريخي. وقد تطلب القبول بهذا الجزء جرأةً وشجاعة من قبل الفلسطينيين، انتصاراً للسلام في إطاره الأممي.

وبهذا التطويب للقديستين من القرن التاسع عشر، استعادة قوية للحضور المسيحي الفلسطيني، وكسر الصورة النمطية التي أرادتها الحركة الصهيونية لتكريس مشهدية الصراع الثنائي (يهودي إسلامي) في أرض فلسطين.

بينما يرفع تطويب القديستين مكانة الكنيسة الفلسطينية، إلى مستوى الحضور الدولي الفاعل، بما يتناسب مع مستوى الحضور التاريخي المتجذر منذ ولادة المسيح عليه السلام.

هذا الحضور المسيحي السابق لمشاريع الاستيطان باسم الدين في الأراضي المقدسة، التي احتضنت الحجاج اليهود ودمجتهم بالمجتمع قبل أن يتحول الأمر إلى مشروع سياسي « كيان ووطن قومي« بعباءة دينية.

وهنا لا بد من التذكير أن البابا يبوس العاشر، أبلغ زعيم الحركة الصهيونية تيودور هرتزل في لقاء حصل عام 1904 بالموقف الرافض للمشروع الصهيوني بصفته «مشروعاً يتناقض مع المعتقد المسيحي «وكذلك رفضت الكنيسة «وعد بلفور» البريطاني الداعم لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.

إلا أن سياسة الفاتيكان، لا تسقط من حساباتها ميزان القوى الدولي، ووجهة القوى العظمى ما أدى إلى القبول بقرار التقسيم من دون الاعتراف الرسمي بدولة إسرائيل، حتى تم ذلك عام 1993 بعد إبرام «اتفاق أوسلو«.

لكن هذا الاعتراف الديبلوماسي لم يَثْنِ البابا بنديكتوس عن التصريح قائلاً: «لا لسيادة اليهود على الأرض المقدسة«.

وينبغي هنا ملاحظة التوافق والخصوصية معاً بين المركز الروحي المسيحي في الفاتيكان وبين توجهات المركز السياسي الدولي في كل فترة من تاريخ المسألة الفلسطينية، لمعرفة كيف ومتى وأين تستطيع الدينامية الفلسطينية العمل وإنجاز خطوة إلى الأمام. أليس من المفارقة أن يشهد الوضع الفلسطيني الضعيف والمأزوم داخلياً، مثل هذا الحضور الدولي القوي؟ إن الدولة الفلسطينية باتت حاجة ملحة للمجتمع الدولي وللسلام في المنطقة والعالم.

() مدير مركز تطوير للدراسات