«الشراكة الشرقية» بين سندان تباين المصالح الأوروبية ومطرقة روسيا

أندرو هيغينز (الحياة)

تأخر رئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون، في الوصول إلى اجتماع الشراكة الشرقية الأوروبية في ريغا، عاصمة لاتفيا. ولكن المتغيب عن القمة الذي شغل كل المناقشات والاجتماعات بين قادة أوروبا والدول السوفياتية السابقة، كان فلاديمير بوتين، الرئيس الروسي الذي لم يدع إلى القمة. ورمى الاجتماع في ريغا، وهي جمهورية سوفياتية سابقة تربطها علاقات وثيقة بالاتحاد الأوروبي والناتو، إلى نفخ الحماسة في الشراكة الشرقية- وهي أبصرت النور قبل 6 أعوام في ستة أقاليم سوفياتية سابقة ترى موسكو، إلى اليوم، أنها تدور في فلك نفوذها. وبوتين سعى إلى حمل أوكرانيا والدول السوفياتية السابقة المشاركة في الشراكة الشرقية على التراجع عن التقارب مع الغرب.

لذا، اعتبر الاتحاد الأوروبي أن اجتماع ريغا ناجح لأن قادة دول أوروبا الشرقية شاركوا وتمسكوا بمواقفهم وصمدوا أمام «الضغط» الروسي. وأعلن دونالد تاسك، رئيس الوزراء البولندي السابق ورئيس مجلس الاتحاد الأوروبي اليوم ، أن لا حاجة لقرارات «دارماتيكية وقفزات كبيرة إلى الإمام»، واعتبر أن البيان المشترك الصادر عن قمة ريغا يظهر «أن النوايا (الأوروبية) بقيت على حالها ولم تتغير في الأعوام الخمسة الأخيرة». والقصد من الإعلان هذا هو الإقرار بـ «الطموحات الأوروبية» في دول مثل أوكرانيا وجورجيا من دون دعوتها إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي ودوله. فهذه الدول «غير جاهزة» لمثل هذا الانضمام والاتحاد الأوروبي كذلك غير جاهز لاستقبالها، على قول جان– كلود يونكر، رئيس المفوضية الأوروبية.

واجتماع ريغا خيب آمال الجورجيين والأوكرانيين بالحصول على فيزا (تأشيرة) ترفع القيود عن حركة سفرهم في أوروبا. وهذا حق حازته مولدافيا فحسب. واجتماع الشراكة الشرقية هو الأول منذ الاجتماع السيئ الطالع في نهاية 2013 الذي ساهم في إشعال فتيل الاحتجاجات الموالية لأوروبا في كييف، عاصمة أوكرانيا، طوال أشهر. وانتهت الاحتجاجات إلى إطاحة الرئيس الأوكراني المؤيد لموسكو، فيكتور يانوكوفيتش. وإثر سقوط الرئيس الأوكراني، ضمت روسيا القرم إلى أراضيها في آذار (مارس) 2014، واندلع نزاع بين انفصاليين موالين لبوتين في شرق أوكرانيا وبين كييف. وتتواصل فصول النزاع هذا إلى اليوم. وهذا الواقع الجيو- سياسي الجديد كان مدار النقاشات كلها في ريغا، على قول الرئيس الأوكراني الموالي لأوروبا. وأقرت المفوضية الأوروبية منح أوكرانيا رزمة قروض قدرها 1.8 بليون يورو، وأبرمت اتفاقاً مع المصرف المركزي الأوكراني في ريغا لإيداعه الأموال. وسبق أن أعلن عن الرزمة هذه في كانون الثاني (يناير) المنصرم.

وأمام مبنى المكتبة الوطنية الجديد والكبير في لاتفيا، تجمع عشرات المحتجين الموالين لروسيا، ورفعوا لافتات تتهم القادة المجتمعين بالسعي إلى تقسيم أوروبا وتأجيج النزاعات. وامتنعت موسكو من التنديد باجتماع ريغا. ولكن وزير خارجيتها، سيرغي لافروف، قال إن على أوروبا أن تحرص على ألا تقوض مبادرتها الشرقية مصالح الفيديرالية الروسية المشروعة. ولم يحدد لافروف هذه المصالح. والحدث الدرامي اليتيم في ريغا كان الخلاف على البيان المشترك، اثر اعتراض أذربيجان على جملة تتناول ناغورنو- قره باخ، وهو إقليم متنازع عليه وتسيطر عليه أرمينيا، واعتراض بيلاروسيا (روسيا البيضاء) وأرمينيا على وصف بيان الاتحاد الأوروبي في نيسان (أبريل) الماضي ضم القرم بـ «غير المشروع». وساهم رئيس اللجنة الأوروبية في حل النزاع، واتصل برئيس اذربيجان المستبد إلهام علييف الذي لم يشارك في الاجتماع وأوفد وزير خارجيته إليه. فأجمع المشاركون على البيان.

وأبطأت مصالح دول الاتحاد -وعددها 28 دولة- عجلة القرار في الاتحاد الأوروبي، وقوضت مساعي التقارب مع أرمينيا وأذربيجان وبيلاروسيا وجورجيا ومولدافيا وأوكرانيا. وهذه الدول تجبه ضغوطاً روسية مباشرة تتفاوت وتيرتها وزخمها.

وبعض أعضاء المجموعة، قبرص واليونان وهنغاريا (المجر) على وجه التحديد، سعت إلى تحسين العلاقات مع روسيا، وعارضت ما رأت أنه أعمال «استفزازية» في الأراضي السوفياتية السابقة. وزعيم المجر، فيكتور أوربان، أثار غضب زملائه من القادة حين أيد بوتين وعقوبة الإعدام. لذا، استقبله رئيس المفوضية الأوروبية بعبارة «أهلاً بالديكتاتور» مازحاً.

والانقسام يفرق صفوف الجمهوريات السوفياتية الستة السابقة، فهي لا تجمع على وجهة سياسية واحدة، وتسلك كل منها طريقاً متعرجة تتجه تارة إلى الشرق وتارة أخرى إلى الغرب، فموسكو تشدها إليها بحبل سرة الطاقة والأسواق، وبروكسيل بواسطة وعود التمويل والمساعدة على التحديث. و «موسكو هي الأخ الأكبر المتسلط الذي يعرفه المرء من كثب ولا يسعه التملص منه. وبروكسيل هي الجار اللطيف الذي يتودد إليه ويقدم له عروضاً جذابة ولكنها غامضة»، يقول توماس دي وال، الخبير في شؤون الاتحاد السوفياتي في مركز كارنيجي في واشنطن. والانقسام لا يقتصر على دول المعسكر الشرقي، فدول الاتحاد الأوروبي لا تُجمع على رؤية إلى الشركاء الستة المرتقبين. وبعضهم يرى أنهم يتوقون إلى التزام المعايير الغربية على نحو ما فعلت دول البلطيق مثل لاتفيا. وغيرهم يرى أن هذه الدول راسخة في حديقة روسيا الخلفية. فهذه الدول «ليست (نظير) بولندا». وهي على خلافها، لم تتخفف من الإرث السوفياتي الراسخ فيها، يقول دي وال. وتشير استفتاءات الرأي العام في هذه الدول إلى أن سكانها يرغبون في علاقات مع كل من روسيا والاتحاد الأوروبي، ولا يرجحون كفة جهة على أخرى، فالروسية هي لسان شطر راجح من السكان، والنخب في هذه الدول حصّلت تعليمها في موسكو. وعلى رغم أن دونالد تاسك أعلن في بداية الاجتماع أن الشراكة الشرقية ليست ضد روسيا وأنها ليست مباراة جمال بينها وبين الاتحاد الأوروبي، انزلق إلى القول أن أوروبا أكثر جاذبية. «فالجمال لا يستخف به. ولو كانت روسيا أكثر «نعومة» وجاذبية وفاتنة اكثر، لم تكن لتضطر إلى اللجوء مع جيرانها إلى تكتيكات عدائية وابتزازية»، قال تاسك.

وتعوق المساعي الأوروبية لجبه استراتيجية بوتين الحادة تباين المصالح الأوروبية إزاء الشراكة الشرقية، فبعض القادة في غرب أوروبا لا يولونها أولوية في وقت يتمسك قادة الشرق بها ويصدرونها الأولويات. فالندوب التي خلفتها القوة السوفياتية لم تندمل هناك. وعلى سبيل المثل، وصل ديفيد كاميرون إلى ريغا بعد ساعات على بدء الاجتماعات. وبدأ القادة المفاوضات من غير انتظاره. وهذا التأخير هو دليل على ضعف الاهتمام بدور أوروبا في الأقاليم السوفياتية السابقة. ودار كلام كاميرون على مشاغل بريطانيا: الرغبة في تغيير وجه الاتحاد الأوروبي قبل الاستفتاء العام القادم على بقاء بلاده فيه أو الانسحاب. وألكسيس تسيبراس، وزير المالية اليوناني اليساري، وصل إلى ريغا على أمل أن يخرج بلاده من طريق المفاوضات المســدود حول تمــويل بلده المــشارفة على الإفلاس. فقابل المســتشارة الألمانية أنغـيلا مركل، والرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند. لكن اللقاء لم يذلل الأزمة.