عام على الفراغ الرئاسي… ماذا بعد؟

مفارقة مأساوية ذات عبر ودلالات يعيشها لبنان هذه الايام، حيث تصادف الذكرى الخامسة عشرة لتحرير الجنوب من الاحتلال الاسرائيلي بفعل ضربات المقاومة الوطنية والاسلامية، هذا الانتصار يصادف هذاالعام مع اكتمال دورة الفراغ الرئاسي سنته الاولى، فبدلا من ان يحتفل لبنان واللبنانيون بكامل اطيافهم بانتصارهم على الاحتلال الاسرائيلي وغطرستهم، يقفون في حيرة من امرهم حيث طوي الفراغ الرئاسي في  عامه الأول، فالجمهورية التي قهرت العدوان تعيش بلا رأس وقصر بعبدا الذي اعتادت قاعة المقاومة والتحرير فيه استقبال المباركين والمهنئين بالنصر يكمل دورته السنوية فاقداً الحياة بلا رئيس ولا مراسيم بروتوكولية ولا زيارات سياسية أو تشاورية، أروقة قصر بعبدا خلت على مدى عام من حراك المستشارين ومناقشات اللجان المختلفة، وقاعاته غابت عنها جلسات مجلس الوزراء، وطاولة الحوار اشتاقت لخلافات المتحاورين ومناقشاتهم، كما افتقدت قاعات الاستقبال للزوار والمهنئين فالأعياد لم تمر على قصر الرئاسة هذا العام.
يقول قائل أن القصر وساكنيه يدفعون بالفراغ الرئاسي ثمن “إعلان بعبدا” الذي اصر الرئيس سليمان على إصداره، بعد أن عجز المتحاورين الاتفاق على الاستراتيجية الدفاعية التي تقدم بها الى طاولة الحوار، والتي تضع سلاح حزب الله تحت سلطة الجيش اللبناني، وتحصر قرار الحرب والسلم في يد الدولة اللبنانية ورئيسها كما ينص اتفاق الطائف.
ويقول قائل أن حزب الله وحليفه العماد عون لن يكررا تجربة إتفاق الدوحة التي أتت بالرئيس  ميشال سليمان الى قصر بعبدا، وعاد وانقلب عليهم في النصف الثاني من ولايته، وبالتالي فإن الفراغ الرئاسي سيدوم، ما لم ترضخ القوى السياسية وتجمع على انتخاب العماد عون أو من يرشحه حزب الله للرئاسة، لضمان موقع لبنان  ودور حزب الله في محور “الممانعة”، وهذا غير ممكن حاليا بفعل التوازن النيابي القائم، وبالتالي فإن مشهد الفراغ سيبقى على حاله إلى أن تنضج ظروف التسوية الاقليمية الشاملة، والتي يتحدد من خلالها موقع لبنان ووظيفته في المنطقة التي تعيش مرحلة مفصلية من تاريخها قد تؤدي الى إعادة رسم حدودها الجغرافية واتجاهاتها السياسية.
هذا الواقع الرئاسي المأزوم بفعل الفراغ في سدة الرئاسة من جهة، وبفعل الانقسام العمودي المتوازن من جهة اخرى، عطل مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية وقيد حركتها ومقدرتها عن اتخاذ الاجراءات والتشريعات الضرورية لضمان سير الامور، فباتت الدولة بكامل قواها في موقع تصريف الأعمال، تراوح في حلقة مفرغة لا بل متوقفة على رصيف انتظار المجهول.
لقد أدى التعطيل المقصود لجلسات انتخاب رئيس الجمهورية، الى ربط الأزمة الرئاسية بأزمات المنطقة، وتوازناتها الاقليمية المتبدلة، كما سهل للأطراف السياسية المرتبطة بالصراع الدائر في المنطقة والعابر للحدود الجغرافية، المتجاوز للكيانات الوطنية وأشكال الدول القائمة من سوريا الى اليمن مرورا بالعراق، من المشاركة في هذا الصراع بأشكال مختلفة عسكرية منها أو سياسية او لوجستية، دون حسيب أو رقيب أو أي التزام وطني رادع، فالصدام السني – الشيعي المشتعل في المنطقة والذي يشكل إحدى أدوات الصراع الإقليمي، رفع من شأن العصبية المذهبية على حساب الالتزام الوطني، ما أفقد “ميثاق العيش المشترك” من مضامينه الجامعة، ونزع عن الغطاء عن مشروع الدولة الحاضن لجميع أبنائه، فأبناء لبنان يموتون في معارك وحروب لا شأن لبلدهم بها، ويرفعون لواء شعارات مذهبية تتعارض لا بل تتناقض والمبادئ الأخلاقية والقانونية التي قامت على أساسها فكرة المقاومة، وحق الشعوب في تقرير المصير.
وبالتالي فإن مشاركة حزب الله في الحرب الدائرة في سوريا دفاعاً عن نظام بشار الأسد بقرار إيراني، دون أي تقدير او اعتبار للدولة اللبنانية ومكوناتها المختلفة، كما مشاركة المسلحين المختلفين الى جانب الجماعات والفصائل الاسلامية المعارضة للنظام في سوريا أو غيرها من التنظيمات، وبعيدا عن الأهداف والشعارات التي يرفعها الطرفين، فعلى الرغم من تعريف الامم المتحدة للمسلحين الذين يقاتلون الى جانب فصائل او جيوش عسكرية على أرض غير أرضهم بالمرتزقة، فإن هذه المشاركات المختلفة أدخلت لبنان الدولة والميثاق في أزمة قد ترتد سلباً على أمنه واستقراره ووحدته الوطنية، على الرغم من جلسات الحوار القائمة بين حزب الله وتيار المستقبل والتي تؤكد على ضمان أمن واستقرار لبنان ووحدته، سيما وأن الصراع الدائر في سوريا وغيرها من الدول مرتبط بالصراع على المنطقة، ومرتبط بالاتفاق النووي الايراني مع الغرب، وبالتالي فإن هذا الصراع مرتبط بعناصر وموازين إقليمية ودولية تتحكم بها مصالح تلك الدول وليس قوة او ضعف هذا الفريق أو ذاك.
وبالتالي فإن حاجة تلك الدول ومصالحها وتوازناتها وتسوياتها، التي تحرص على أمن واستقرار لبنان اليوم، قد تضطر الى كسر هذه القاعدة، والى جر لبنان نحو حرب أهلية تدميرية على غرار ما يجري في دول الجوار، سيما وأن عناصر التفجير تلك وعدة القتال لدى الاطراف المتقاتلة متوفرة
ضمن هذا الواقع المأزوم وهذا الترابط العضوي لعناصر الصراع وامتداداته بين الداخل والخارج بفعل التورط المقصود والمسبق عن سابق تصور وتصميم يندرج الخطاب التصعيدي لكل من العماد عون والسيد حسن نصر الله والذي يقحم لبنان في ازمة حقيقية مع شركاء الداخل ويضع لبنان الدولة والميثاق والكيان امام مرحلة خطيرة تهدد وحدته الجغرافية وعيشه المشترك، وهنا تأخذ معركة القلمون السورية موقعا في رسم جغرافيا الكيانات المستحدثة بالتار والبارود.
لقد سبق ان عاشت دول عديدة في اوروبا الشرقية مثل هذه التجربة التفتيتية على اسس عرقية واثنية بعد انهيار المنظومة الشيوعية، وقبل ان تأخذ شكلها الاخير في المنظومة الاوروبية الحديثة والعالم الاحادي القيادة، وبالتالي فأن ما تعيشه دول منطقتنا ولبنان لن يكون خارج اطارها، مرحلة انتقالية ترتسم معها كيانات جديدة، وهنا يكمن الخطر الحقيقي للفراغ الرئاسي والدستوري، ولحملة التصعيد التي قد تعطل البلاد ومؤسساته ودستور الطائف، بانتظار ما يأتي من تسويات او تحولات ترسمها الحروب المشتعلة.
فوزي ابوذياب