الدروس العسكرية لـ”حماس” من عملية “الجرف الصامد”

خرجت حركة “حماس” من 50 يوماً من القتال، المدة التي استغرقتها عملية “الجرف الصامد”، مثخنة بالجراح، وحتى الآن لم تتحقق خطط إعادة إعمار قطاع غزة بالوتيرة والحجم اللذين كان يتوقعهما قادة الحركة عند انتهاء القتال. كذلك فإن من شأن الوضع الاقتصادي الصعب جداً والأزمة الاقتصادية والإنسانية أن يعجّلا في حدوث احتجاج شعبي، وبالتالي تهديد حكم “حماس”، ويضاف إليهما عدم وجود أفق سياسي منظور حتى الآن، وبقاء الكفاح المسلح عنصراً أساسياً في العقيدة السياسية – الإسلامية لهذه الحركة. من هنا فإن جولة القتال المقبلة بين إسرائيل و”حماس” هي مسألة وقت فقط.

لقد ساهمت عودة محمد ضيف، قائد الجناح العسكري في الحركة، في زيادة حدة الأسئلة المطروحة بشأن توجهات عمل الحركة في المواجهة المستقبلية مع إسرائيل. ويمكننا منذ الآن الافتراض أنه في المواجهة المقبلة ستكون “حماس” أكثر استعداداً وأشد خطراً مما كانت عليه حتى الآن، ذلك بأن استخلاصها الدروس [من كل مواجهة] يبرز جيداً في أسلوب عملها في كل جولة مواجهة جديدة. لذا يجب أخذ هذا الأمر في الحسبان لدى التقدير ما إذا كان الهدف الأساسي الذي وضعته إسرائيل في المواجهة الأخيرة مع “حماس”،أي وضع أسس ردع طويل الأمد في مواجهة الحركة، قد تحقق.

من الواضح منذ اليوم أن حركة “حماس” مستعدة جيداً للجولة المقبلة، وهي ترمم وتعيد بناء قواتها وبناها التحتية العسكرية بسرعة، ومع ذلك فمن المعقول الافتراض أنها لن تغير عقيدتها القتالية بصورة جذرية قبل الجولة المقبلة، والأرجح أنها ستعمل على تطويرها وتعزيزها من خلال استيعاب وتطبيق الدروس التي استخلصتها منذ دخول وقف إطلاق النار الذي أنهى معركة صيف سنة 2014 في حيز التنفيذ.

سنتفحص في هذا المقال آلية استخلاص الدروس في “حماس”، وبصورة خاصة الجوانب العسكرية في بناء القوة واستخدامها، وذلك بهدف محاولة تقدير استعدادات الحركة للمواجهة المستقبلية.

منذ انتهاء القتال في صيف سنة 2014، تعكف “حماس” على إعادة بناء منظومة الأنفاق الهجومية من قطاع غزة إلى داخل إسرائيل. وقد أدركت قيادة الحركة أن عدد الأنفاق التي بنتها وحجم استخدامها شكلا مفاجأة لإسرائيل. وفي الواقع، فإن الأنفاق الهجومية شكلت عنصراً أساسياً في عقيدة “حماس” القتالية، على الرغم من أن نتائج استخدام هذه الأنفاق خلال عملية “الجرف الصامد” لم تكن متناسبة مع الوزن الحاسم الذي أعطته الحركة لها، كما أن قدرة هذه الأنفاق على الأذى لم تتحقق بصورة كاملة. ويمكن الافتراض أن الحركة ستواصل حفر هذه الأنفاق وستحاول “مفاجأة” إسرائيل مجدداً من أجل جعلها تدفع ثمناً باهظاً. وليس مستبعداً أن تتركز مساعي الحفر على عدد قليل من المحاور الفعالة وذات القدرة الكبيرة [على الأذى] من أجل تحقيق إنجاز كبير بالنسبة إلى “حماس”، ألا وهو خطف جنود أو مدنيين أحياء.

لقد أطلقت “حماس” وسائر الفصائل المسلحة العاملة في غزة خلال عملية “الجرف الصامد” أكثر من 4500 صاروخ أصابت أماكن متعددة في إسرائيل. وقد استوعبت الحركة من ذلك أنه وعلى الرغم من نجاعة “القبة الحديدية” التي منعت وقوع إصابات كبيرة في صفوف السكان المدنيين في إسرائيل، فإن مجرد إجبار ملايين السكان في إسرائيل على النزول إلى الملاجىء بصورة يومية ومتواصلة وتعطيل وتيرة حياة المواطنين الإسرائيليين شكلا إنجازاً مهماً في نظر الحركة. كما أن القدرة على تعطيل حركة الطيران المدني في إسرائيل (توقفت الرحلات لمدة يومين خلال “الجرف الصامد”) واحتمالات الضرر الاقتصادي والمعنوي المترتبة على ذلك، من شأنهما تشجيع التوجه نحو إنتاج صواريخ وزيادة كمياتها وتحسين دقتها وإطالة مداها، وتؤكد تجارب الإطلاق المتكررة في قطاع غزة هذا التقدير.

علاوة على ذلك، تدرك “حماس” أنه نتيجة عدد بطاريات “القبة الحديدية” سيكون عليها مستقبلاً أن تتسبّب في توزيع منصات إطلاق الصواريخ بصورة أوسع بكثير كي تفرض على دولة إسرائيل بعثرة هذه البطاريات [أي نصبها في أماكن متباعدة] والتركيز على الدفاع عن البنى التحتية الحيوية، الأمر الذي سيزيد في مخاطر اختراق غطاء الحماية [للسكان المدنيين]. وليس مستبعداً أن تستعين “حماس” من أجل توسيع توزيع الأهداف والتسبب بإضعاف البطاريات بقوات حزب الله في لبنان أو سورية، وبتنظيمات فلسطينية في الجنوب اللبناني، أو تنظيمات إسلامية متطرفة في شبه جزيرة سيناء، من أجل فتح جبهات إضافية تُطلق منها الصواريخ في اتجاه دولة إسرائيل.

 لقد استخدمت “حماس” خلال عملية “الجرف الصامد” عدداً من التكتيكات التي أثبتت نتائجها أن فعاليتها لم تنضج بعد، لكن على الرغم من ذلك، فإن في إمكاننا أن نتوقع أن تستخدم هذه التكتيكات مرة أُخرى في جولة القتال المقبلة. والمقصود هنا تسلل كوماندوس بحري إلى أراضي إسرائيل، واستخدام طائرات من دون طيار، هدفها الأساسي إثارة شعور بالردع لدى سكان إسرائيل. وليس بعيداً أن يؤدي بعض هذه العمليات إلى إصابات بشرية أو أضرار في الأملاك.

صحيح أن استخدام “حماس” طائرات من دون طيار في “الجرف الصامد” لم يحقق نجاحاً بارزاً، لكن هذا المجال هو من بين المجالات التي تستطيع الحركة أن تحقق قفزة كبيرة فيها، ولا سيما في ضوء حقيقة تقدم التطورات التكنولوجية في هذا الإطار. وقد حصلت الحركة على مساعدة في هذا المجال من إيران التي تملك قدرات متقدمة في تطوير طائرات من هذا النوع وإنتاجها، ومن المنتظر أن تستمر هذه المساعدة. وفي الواقع تستطيع الطائرات من دون طيار أن تتحول إلى بديل من إطلاق الصواريخ، وأن تساهم في زيادة الضرر، وذلك من خلال استخدام طائرات من دون طيار “”انتحارية”، تنقض على الهدف من خلال توجيه بشري أو أوتوماتيكي. كما يُتوقع أن تبذل الحركة جهوداً من أجل التزود بصواريخ بر – بحر ضد السفن، وتطوير منظومتها الدفاعية الجوية وتعزيزها، على الرغم من تفوق سلاح الجو الإسرائيلي، وفي حال نجحت في إسقاط طائرة أو طوافة، أو في اصابة سفينة من سلاح البحر فإنها ستحصل على صورة انتصار تتمناها منذ زمن طويل.

ويرافق عودة الحرارة إلى العلاقات بين إيران و”حماس” في الفترة الأخيرة دخول ضلع آخر في مثلث [حماس – إيران – حزب الله]، هو حزب الله. فمنذ سنوات يوجد بين “حماس” وحزب الله عملية تعلم متبادلة؛ فقد تعلمت “حماس” دروساً وأموراً كثيرة من حزب الله وطبقتها. كذلك من المتوقع أن يكون حزب الله تعلّم من فهم “حماس” لمجريات العمليات العسكرية وطرق العمل التي استخدمها الجيش الإسرائيلي خلال عملية “الجرف الصامد”. ويمكن التكهن أن جهود التعلم واستخلاص الدورس بعد “الجرف الصامد” كانت مشتركة بين إيران وحزب الله و”حماس”.

في “الجرف الصامد” كانت الوحدات التكتيكية لـ “حماس” أكثر فعالية وشراسة مما كانت عليه في المواجهات السابقة مع الجيش الإسرائيلي. وعلى الرغم من استخدام وسائل قتالية متقدمة، فإن عمل الذراع العسكرية للحركة دل على إدراك حقيقة أن السلاح التقليدي وأساليب القتال البسيطة يمكنهما أن يكونا فعّالين وفتّاكين جداً. وأنه من خلال القناصة والراجمات والزرع الكثيف للعبوات والألغام، إلى جانب محاولات جذب القوات الإسرائيلية إلى “مناطق شديدة الخطورة”، استطاعت الحركة أن تجعل إسرائيل تدفع ثمناً باهظاً من الضحايا، أكثر من أي مواجهة جرت بين الطرفين في السنوات الثماني الأخيرة.

لقد ترافقت العقيدة العسكرية لـ “حماس” مع استراتيجيا إعلامية ناجعة يمكن وصفها بـ “عقيدة الضحية”، قوامها استخدام المدنيين كـ “دورع بشرية”، أي إطلاق القذائف من داخل المناطق المكتظة سكانياً من أجل تحريك ضغط سياسي وإعلامي وقانوني ودولي ضد إسرائيل، ومن أجل المس بشرعيتها والتسبب بعزلتها من خلال اتهامها باستخدام قوة غير متوازنة.

 وعلى الرغم من الثمن الباهظ الذي دفعته “حماس” في “الجرف الصامد”، فإنها تعد نفسها للحرب المقبلة. وبالنسبة إليها فإن الحرب ضد إسرائيل هي أداة تغيير استراتيجي، تسعى إليه لضمان سيطرتها على قطاع غزة ولترسيخ دورها كلاعب أساسي في الساحة الإسرائيلية – الفلسطينية، ولكي تكون لها مكانه أعلى من مكانة السلطة الفلسطينية و”فتح” ومحمود عباس.

 ومن أجل تأجيل المواجهة المقبلة مع “حماس” إلى أبعد وقت ممكن المطلوب بذل جهدين أساسيين، هما: أولاً، منع تعاظم قوة الحركة من خلال التزود بوسائل القتال المعتادة والمتطورة وبالمواد الخام التي قد تستخدم في تصنيعها؛ ثانياً، استخدام الحافز الاقتصادي، أي تحسين الوضعين الاقتصادي والإنساني الخطرين للغاية في القطاع.

 إن تحسين وضع سكان القطاع سيعزز الانطباع بصمود حكم “حماس” في المنطقة. وفي ظل غياب تهديد ملموس لهذا الحكم، يمكن التقدير أن الحركة لن تسارع إلى القتال. لكن يجب ألاّ ننسى في هذا الصدد أن شبكة العلاقات العِكرة بين “حماس” والسلطة الفلسطينية، وبصورة خاصة الخلاف بين الطرفين بشأن توزيع أموال إعادة إعمار غزة التي جرى الالتزام بها، تؤدي دوراً أساسياً في كبح التقدم في مسار عملية إعادة الإعمار الضرورية.

—————————-

(*) غابي سيبوني – باحث في معهد دراسات الأمن القومي

نقلا عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية