كمال جنبلاط: “الشّاهد والشّهادة”… يبقى في الذّاكرة
محمود الأحمدية
20 مايو 2015
كانت حفلة العرض الأولى… المجمّع السّياحي جميلٌ يحمل طابعاً حضاريّاً متميّزاً… مجموعة كبيرة من المطاعم والمحلاّت المغرية في واجهاتها وبناء خاص بدور السينما مطبوع بالطريقة العصريّة الجديدة عددها يناهز الأثنَي عشر دور عرض تعرض في نفس الوقت أحدث الأفلام من شتّى دول العالم وخاصة هوليوود… وفي القاعة رقم 11 يعرض فيلم كمال جنبلاط الشّاهد والشّهادة…
منذ اللّحظة الأولى تسمّرت في مقعدي حتى اللّحظة الأخيرة… يبدأ الفيلم الوثائقي بالسيارة المشؤومة وصوت تصادم ثم إطلاق رصاصة وتظهر سيارة تحمل إسم بغداد رقم كذا… وتنطلق حكاية شخصيّة أحببناها وإحترمناها وتابعناها بكل جوارحنا وعشنا أحداث ذلك الأغتيال بمرارة وصدمة شخصيّة لاحقتنا دهراً…
وتنتقل الصورة إلى مدرسة عينطورة حيث مديرها الحاليّ يراجع ذكريات الأمس وعلامات الأمس للتلميذ كمال فؤاد جنبلاط وفيها ثلاثة عشر مرتبة شرف رَصَّعَتْ مَسيرَتَهُ في أحضان عينطورة ثم مرحلة الستّ نظيرة جنبلاط حيث التّاريخ والحكم بطريقة نموذجيّة للمرأة الحديديّة التي تمسك بالزعامة بعد مقتل فؤاد جنبلاط.
إنتقل بنا المخرج إلى كمال جنبلاط النائب وشدد على أول إطلالة له على المجلس النّيابي من خلال خطاب “رسالتي كنائب” والتي تركت أثراً لا يزال صداه حتى هذه الأيام من نائب يدخل المجلس للمرّة الأولى بعيداً عن الروتين…
وكان للمخرج والمنسّق لفتةٌ ذكيّة إلى المرحلة التي تزوّج فيها كمال جنبلاط من مي أرسلان زواجاً مدنيّاً.
والتركيز المهم في هذا الفيلم التوثيقي شدّد على مرحلة تأسيس الحزب التقدّمي الإشتراكي في تلك الحقبة الذهبيّة من تاريخ لبنان حيث لا أثر للطائفيّة والمذهبيّة بل مؤسّسون من كل أنحاء الوطن من جهابذة ذلك الزمان ومناضليه اللاّمعين… وطبع الحزب في تلك المرحلة حياة اللّبنانيين بمنطق جديد تحت شعار (أيّها الشّعب ماذا تريد مواطن حر وشعب سعيد) شعار يختصر كل المسافات وينثر بذور الوعي في الإشتراكيّة الجديدة أو الماركسية المؤنسنة، في صفوف الشّباب وفي كل أنحاء الوطن… وحقق الحزب وعلى فترات متعددة أهم المؤسّسات الإجتماعيّة الحكوميّة وما تزال حتى الآن ومنها مجلس الخدمة المدنيّة والضّمان الإجتماعي واعطاء الرّخص لكل الأحزاب يوم أصبح كمال جنبلاط وزيراً للداخليّة فكانت قفزة رائعة في مجال تطوير الحياة السّياسيّة واعطاء الأحزاب الفرصة للمناقشة والحوار واعطاء الفرصة للأدمغة اللّبنانيّة أن تتكودر عبر أحزابها كانت أياماً ذهبيّة في مسيرة الوطن.
وجاءت مسألة الجبهة الإشتراكيّة التي أسقطت بشارة الخوري وأتت بكميل شمعون ومرحلة التناقض مع كميل شمعون الذي نكث بالوعود والعهود لصالح الشّعب وأتى بحلف بغداد وأسقط كمال جنبلاط في الإنتخابات النيابية وكانت ثورة 1958 وإنخراط الثوار في هذه الثورة وعلاقة جمال عبد الناصر التاريخية مع كمال جنبلاط… وفي كل هذه الأحداث وبينها كان وليد جنبلاط يدخل في صلب الفيلم التوثيقي بشروحات ذكيّة عن كل شيء مما جعل من كل طلّة حدثاً يعطي الفيلم زخماً جميلاً وخاصة أن الأستاذ وليد جنبلاط كان له فعل السحر في ظهوره وشروحاته على صعيد الذكريات… ومن أقسى اللّحظات التي قالها وليد بيك:هذه هي الكتب التي إحتفظت بها كما كان يمسك بها المعلم عند إستشهاده ومن ضمنها كتاب هذه وصيّتي التي تظهر عليه آثار الدّماء كما كانت عند الاستشهاد ومن اللّحظات التي لا تنسى عندما كان المعلم يرسل مقالته مع مسؤول جريدة “الأنباء” جريدة الحزب التّقدّمي الإشتراكي عندما نادى المسؤول بعد أن أعطاه نص المقالة وكل ذلك قبل استشهاده بقليل: أعد لي المقالة أريد أن أزيد عليها جملة: (اللهُمَّ أشهد أنني بلّغْت)…
ويأتي الفيلم على تفاصيل مرحلة الحركة الوطنيّة ونضالاتها ووقائع العلاقات المتناقضة بين فكر المعلّم والسّجن السّوري الكبير…
وينتهي الفيلم بنفس مشهد البداية، مشهد السّيّارة المشؤومة والإصطدام, والرّصاصة التي شعرنا وكأنّنا في لحظتها أصابت قلوبنا جميعاً…
فيلم رائع… تسلسل مذهل… وثائقية ذكيّة… لا تأليه ولا تصنيم للمعلّم… فيلم يغني عن قراءة الكتب ويعطي فكرة رائعة عن شخصيّة عالميّة طبعت عصرها كشاهد كبير ومهم وتركت بصمة ذات طابع ابداعي في كل المجالات وعلى مستوى الإنسانيّة جمعاء…
كمال جنبلاط المفكّر، والفيلسوف، والسّياسي، والإجتماعي والبيئي والرؤيوي والعالمي والكيميائي والعالم كلها رأيناها في فيلم سيبقى حيّاً في الذّاكرة…
معلّمي كل مساحات الإبداع تنحني وتصلّي في محراب فكرك.