دعوة للتعقـّل والحكمة

غازي العريضي (الاتحاد الاماراتية)

ثمة تحرك في لبنان يقوم به رجال أعمال لبنانيون في اتجاه القوى السياسية داعين إلى تقدير أوضاع الدول العربية لاسيما الخليجية منها وخصوصاً في هذه المرحلة، المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، بعد سلسلة من المواقف والتصريحات طاولتهما وحملت نعوتاً وصفات غير مألوفة وغير مسبوقة، وتهديدات وعنتريات وتحديات لا مبرّر لها، وكانت البحرين وقطر قد نالتا حصة من هذه الموجة في مرحلة معينة، مما بات يشكل قلقاً على أوضاع اللبنانيين العاملين في تلك الدول، ويؤثر على العلاقات مع لبنان ككل سياسياً ودبلوماسياً وأمنياً ومالياً واقتصادياً. ولا يستطيع أحد أن ينكر قلق اللبنانيين المقيمين في الدول الخليجية وأهلهم في لبنان. كما لا يستطيع أحد أن يدّعي أن المسألة تستهدف أو تعني فريقاً محدداً في البلد. فاللبنانيون داخل لبنان متضررون من هذه السياسة وتلك المواقف، وأبناؤهم وأهلهم الموجودون هناك والذين شكلوا سنداً أساسياً لعدد من العائلات في الداخل منذ اندلاع الحرب الأهلية وحتى الآن قلقون، كما أن مواقف تلك الدول إلى جانب لبنان وأبنائه عموماً وفي أصعب الظروف ساعدت البلد وحمت أمنه واستقراره السياسي والمالي والاقتصادي والنقدي.

لبنان بلد التنوّع والحريات والديمقراطية وحرية التعبير عن الرأي والمعتقد، ويجب أن يبقى كذلك. وقد دفعنا في تاريخ نضالنا السياسي أثماناً كبيرة لتأكيد وتكريس هذه الخصوصية وهذه الميزة وهذه النكهة التي تمناها كثيرون عنده وتمنـاه لبلاده ونظامها السياسي. لكننا نقوله للتأكيد أن الاستعلاء والاستقواء وسوء التقدير وعدم تقدير العواقب الناجمة عن أي تصرف أو موقف في الداخل أو الخارج سينعكس سلباً على اللبنانيين ككل ولا يستطيع أحد أن يتجاوز هذه الحقيقة.

من حق كل إنسان أن يعبـّر عن رأيه، وأن يتحمـّل مسؤولية هذا الأمر، لكن عندما يكون ضرر جماعي يلحق بالبلد وأبنائه فهذا أمر غير مقبول.
لقد كان كمال جنبلاط من كبار القادة السياسيين في هذا الشرق. قامة سياسية ثقافية فكرية علمية كبيرة. كان يركـّز دائماً على الاستفادة من التجارب واستخلاص الدروس والعبر. ومما أشار إليه في هذا المجال أن “للناس طاقة وقدرة على التحمـّل”. “لا يجوز أن نحمـّلها أكثر مما تحتمل”. الناس في حاجة إلى هدوء وإلى راحة. وإلى مرحلة من الهدوء، لا يمكن دفعهم دائماً وباستمرار ومن دون توقف إلى معارك أو مواجهات أو دعوتهم إلى تحمل المزيد من الأعباء والضغوطات. فماذا يعني حوار في الداخل بين المختلفين على كل شيء واستمرار حملات الاتهام المتبادل بالتورط أو التوريط، وبمدّ اليد إلى المال العالم وغير ذلك من اتهامات؟ يقول كل المتحاورين في لبنان: الحوار هو لتنفيس الاحتقان! وإذا تطلعنا إلى الشاشات والمنابر لما شاهدنا ولما سمعنا إلا ما يؤكد المزيد من الحقن والشحن والغليان في النفوس لجهة النبرة العالية والكلام القاسي الجارح المؤذي والمضر بمصالح البلد وأبنائه. وكمال جنبلاط عندما قال كلامه كان يعبـّر عن قناعة راسخة في فهمه للسياسة، وهي في تعريفه لها وهي: “شرف قيادة الرجال”! في هذا المجال نحن بحاجة إلى صراع أفكار وبرامج يقوده رجال كبار يتحلـّون بالحكمة والمنطق والمسؤولية والخطاب القوي ولكن المهذب من جهة والحريص على الخاص كما على العام من جهة أخرى. في النهاية عندما نحترم خصمنا نكبـّر أنفسنا. وعندما ننافس مع كبير نكبـّر اللعبة ونكبـّر دورنا. وعندما نكون أقوياء، لسنا بحاجة إلى أن نستقوي، وعندما نكون أذكياء لسنا بحاجة لأن نتذاكى، وعندما نكون قادرين نتميـّز بالعفة والعفو عندما نضطر إليه.

لبنان اليوم يعاني. أبناؤه في أفريقيا وعدد كبير من الدول معرّضون لمضايقات. وهم يشعرون بها ونحن نشعر بها في الداخل. الضغوطات على الوضع المصرفي كبيرة بسبب سياسات وممارسات وتصرفات نحن في غنى عنها، فهل نضيف إليها مشكلة مع دول شقيقة مثل السعودية والإمارات وغيرهما وهما دولتان محبـّتان لنا على كل المستويات وقدّمتا وتقدمان كل المساعدة، وما المبادرات السعودية الأخيرة تجاه الدولة ومؤسساتها الأمنية إلا خير شاهد على ذلك؟ ولا يستطيع أحد تجاوز هذه الحقيقة من جهة، والضرر الذي يلحق باللبنانيين إذا استمرت المواقف غير المسؤولة تطلق من هنا وهناك! أما الحقيقة الثالثة، فهي أن الدولتين المعنيتين وحرصاً على لبنان ووحدته تحملتا الكثير وحمتـــا في أكثر من محطة ومناسبة بعض الذين يقول فيهما ما لا يُقال. فهلا نتعلـّم ونتـّعظ ونعتبر؟ هي دعوة للتعقــّل والحكمة.