لبنان الضحية بين «الرئيس القوي» و«الرئيس الضعيف»

عزت صافي (الحياة)

لطالما ردّد لبنانيون مقولة «أن لبنان أصغر من أن يُقسّم وأكبر من أن يُبتلع». هذا صحيح. لكن، يمكن أن تقع فيه حرب داخلية. وهذا حصل. ويمكن أن يستدرج حروب الآخرين إلى أرضه. وهذا حصل. ويمكن أن يُقدم مئات الآلاف من شعبه شهداء وضحايا. وهذا حصل. ويمكن أن يصل إلى يوم ينظر فيه إلى الوراء فيرى دماراً هائلاً ذهب بأعمار أجيال متتابعة. وهذا حصل. ويمكن أن يخسر دوره الاقتصادي والسياسي والثقافي. وهذا حصل. ويمكن أن يفقد سلطته الوطنية والأمنية لحساب قوى مسلّحة طاغية داخلية وإقليمية. وهذا حصل.

ثمّ يأتي، بعد كل هذه الكوارث، زمن يستعيد فيه لبنان قراره المستقل، فيتعافى أمنياً واجتماعياً، ويعيد بناء بعض ما تهدم خلال ثلاثة عقود، ويضيف إليه الأجمل والأرقى من العمران، وإن على حساب التراث والحضارة القديمة. وهذا حصل.

لكن، بعد كل تلك الإنجازات، وبعد كل تلك الخسائر والتضحيات، يمكن أن يستيقظ لبنان ذات يوم فيفاجأ بأنه كان واهماً ومخدوعاً، إذ يكتشف أن قراره السياسي والأمني قد سُلب منه، وأن الواقع المستجد قد أعاده إلى ما كان عليه قبل ثلاثين سنة. هذا ما حصل.

فلبنان اليوم بلا رئيس جمهورية منذ سنة إلا شهراً. وحكومته ملغومة من الداخل، ومكبّلة من الخارج، والخيار أمامه بين أن يستسلم للرئيس المرشح المفروض عليه، وبين أن يتهيأ، شاء أم أبى، للدخول في مصير مجهول. هذا إنذار علني من دون تمويه ولا مواربة.

يقول أصحاب القرار للبنانيين: أنتم تدّعون الديموقراطية ولا تفهمونها، ولا تمارسونها. نحن نعرف من تريد الأكثرية رئيساً. إنه الرئيس القوي الذي يجب أن يُنتخب، ولا فرصة، ولا حظ، لرئيس ضعيف. هي ليست المرة الأولى التي يواجه فيها لبنان هذه الأزمة، لكنها هذه المرة هي الأخطر. وثمّة سوابق قد تكون العودة إليها مفيدة.

ففي عام 1970، أي قبل خمسة عقود، انقسم مجلس النواب في معركة الرئاسة بين كتلة «النهج الشهابي» وكتلة «الحلف الثلاثي». الكتلة الأولى كانت ترشح رئيساً اعتبره «الحلف» ضعيفاً هو الراحل إلياس سركيس، والكتلة الثانية كانت تضم ثلاثة أقطاب موارنة، كل منهم طامح للرئاسة، وهم: كميل شمعون (رئيس سابق) وريمون إده حامل لقب «العميد»، وبيار الجميل.

وكانت هناك كتلة ثالثة رفعت شعار «الوسط» وكانت تضم مرشحاً موصوفاً بـ «القوي»، هو سليمان فرنجية. وكان كمال جنبلاط «بيضة القبّان» بعدد الأصوات النيابية التي يمثلها، وكان على مسافة من كتلة «النهج» وكتلة «الحلف». وحين وضع ورقته في صندوقة الاقتراع لم يكن يعلم أن تلك الورقة هي خاتمة «اللعبة الديموقراطية في لبنان». فقد فاز سليمان فرنجية بنصف صوت. (50 صوتاً لفرنجية مقابل 49 صوتاً لإلياس سركيس).

جميع هؤلاء الأقطاب صاروا في ذمة التاريخ، ومعهم انطوى عصر لبنان مع الديموقراطية. فقبل نهاية عهده أمر «الرئيس القوي» سليمان فرنجية بضرب مخيمات الفلسطينيين في ضواحي بيروت بقذائف الطيران الحربي. لكنه في السنة الأخيرة من ولايته غادر القصر الجمهوري في بعبدا تحت قصف الطيران السوري الحربي، وبغطاء أميركي…

وبعده جاء «الرئيس الضعيف» إلياس سركيس عام 1976. وفي السنة الأخيرة من عهده (1982) دفعت إسرائيل جيشها وسلاح الجو للهجوم على لبنان، فاجتاز قائد الهجوم آرييل شارون بيروت، ووصل إلى بعبدا.

كان سركيس قد اتخذ فندق «كارلتون» مقراً لإقامته. وفي يوم انتخابه كان يذرع قاعة الطبقة السفلى من الفندق ويتابع وقائع جلسة انتخابه عبر محطات الإذاعة والتلفزيون.

ويتذكر الصحافيون الذين كانوا في صالون الفندق ذلك اليوم كيف جاءت كوكبة من منظمة «الصاعقة» السورية – الفلسطينية، فاحتلت بهو الفندق، وحولته «غرفة عمليات» لإدارة معركة انتخاب الرئيس في جلسة عُقدت في «فيلا» كانت قد تحولت مقراً لمجلس النواب قرب ميدان سباق الخيل في بيروت.

كان قائد «غرفة العمليات» في الفندق مسؤولاً فلسطينياً في «الصاعقة» السورية. وقد وضع على الطاولة أمامه ثلاثة أجهزة هاتف رُبطت بخط خاص للفندق. وكانت أمامه لائحة بأسماء نواب لبنان، وأرقام هواتفهم المنزلية والمكتبية. كان يرفع السماعة ويدير القرص على رقم النائب الذي يطلبه. مرة كان يطلع صوته هادئاً عندما يتأكد أن النائب المطلوب توجّه إلى جلسة الانتخاب، أو أنه على أهبة الذهاب. ومرة كان يطلع صوته عالياً مهدداً، وأحياناً متوعداً وشاتماً النائب الذي يرفض حضور الجلسة. وقد فاز سركيس بالرئاسة في غياب عدد من كبار الناخبين، أولهم كان كمال جنبلاط ونواب كتلته الذين قاطعوا الجلسة رفضاً للوصاية السورية على لبنان، وكانت الوصاية في أول عهدها، قبل أن تبدأ عمليات الخطف والاغتيال.

وللإنصاف فإن إلياس سركيس كان رئيساً وطنياً، عقلانياً، مثقفاً ونزيهاً، لكنه «ضعيف» لأنه لا يمثل قاعدة شعبية، ولا يتقن لعبة القفز على الحبال.

ذلك الرئيس «الضعيف» كان ذا حظ عاثر، فقد فوجئ ذات يوم من أواخر ولايته بقائد الغزو الإسرائيلي شارون يقتحم البوابة الخارجية للقصر قاصداً الدخول إلى مكتب الرئيس، فيما كان أفراد الحرس الجمهوري يسدون البوابة، وقائدهم يخاطب العدو المهاجم بأعلى صوته: «لن تستطيع أن تدخل إلا على أشلائنا». كان السفير الأميركي المقيم في دارته في «اليرزة» على مقربة من القصر يبلغ حكومته في واشنطن تفاصيل المشهد. ولم تمضِ دقائق حتى تراجع شارون عن بوابة القصر.

تلك المحطات – السود من تاريخ لبنان الرئاسي تكفي استعادتها للوصول إلى اقتناع بأن لبنان فقد قراره المستقل منذ خمس وأربعين سنة على الأقل…

لم يفقد لبنان قراره الرئاسي فقط، بل فقد التيار الشعبي المدني الذي كان يجمع الجماهير المعترضة من النقابات المهنية، الحرة والعاملة، ومن الهيئات الطالبية، والجمعيات الثقافية والفنية والخيرية، ومن سائر ألوان النسيج اللبناني الوطني كانت تلك الجماهير تنزل إلى الشوارع وتعلن غضبها.

وفوق ذلك، فقد لبنان الإعلام المحايد والنزيه الذي يمثل الرأي العام على حقيقته، لا على توجيهات وخواطر أحزاب احتكرت كل عناوين الوطنية والنضال باسم إستقلال لبنان، وباسم ديموقراطية مركبة من كلمات لا تعني سوى التسلّط بالحيلة أو بالقوة.

لذلك، يصعب على اللبناني الذي عايش زمن «الرؤساء الأقوياء» وزمن «الرؤساء الضعفاء» أن يهضم هذا الدجل السياسي الفج، بل إنه يعجب كيف لا يزال الكيان اللبناني صامداً.

ولعل صمود هذا الكيان حتى اليوم هو معجزة فعلاً. ليس فقط بفضل تمسك عقلاء المسلمين بالوطن الصغير، بل أيضاً بفضل إصرار عقلاء المسيحيين، جيلاً بعد جيل، على استمرار لبنان وطناً منتمياً إلى العروبة المدنية، وإلى الحضارة العالمية.

منذ تكوينه لم تكن أهمية لبنان في أنه كيان سياسي مركّب من مسيحيين ومسلمين فحسب، بل الأهمية في أنه كيان يقوم في الأساس، ولو في الشكل، على جملة مبادئ وقيم مكتوبة بحبر الحرية والديموقراطية.

ولقد سقطت مبادئ وقيم كثيرة في لعبة الديموقراطية اللبنانية. ولكن بقي مبدأ الانتخاب النيابي من الشعب، وإن بحد معين من النزاهة والشفافية. وكذلك استمرّ العمل بمبدأ انتخاب رئيس الجمهورية من الطائفة المارونية، وأيضاً بحد معين من استقلالية النائب المقترع.

كان الرئيس اللبناني السابق الراحل شارل حلو يردّد كلاماً لرئيس وزراء لبنان سابق وراحل هو تقي الدين الصلح كاتب مسودة الميثاق الوطني التي تحولت في ما بعد دستوراً دام نحو نصف قرن من دون أي تعديل.

قال تقي الدين الصلح في ذلك الزمن: لولا المسلمون اللبنانيون لما نال لبنان استقلاله عن فرنسا. ولولا المسيحيون اللبنانيون لما مارس لبنان الحرية والديموقراطية.

اقرأ أيضاً بقلم عزت صافي (الحياة)

العهد اللبناني «الجديد» لم يبدأ بعد

«حماس» × «فتح» = إسرائيل «فتح» + «حماس» = فلسطين

وثيقة برنامج رئاسي لبناني للاطلاع

جمهورية سوريّة ديموقراطية تولد في الخارج

لبنان «الطائف» على شبر ماء

فلسطين الثالثة في عالم عربي آخر

هـل أخطأ سعد الحريري؟

الديموقراطية على الطريقة اللبنانية

«حماس» ترمي نكبة غزة في ساحة رام الله والمهمة الأولى إعادة الإعمار

رؤساء الجمهورية اللبنانية وعلاقاتهم بفرنسا منذ الاستقلال

بوتين «القيصر» غير المتوّج على … سورية!

لبنان: لكل عاصمة وَفدٌ … و «دولة» وخطاب!

ما بين جمهورية ماكرون وجمهورية ديغول

هل بدأ ترسيم سورية «المفيدة لإسرائيل» ؟

صيف لبنان من دون عرب… ووعود السياسيين المتوارثة لا تتحقق

أي دور لإيران في المنطقة بعد تغيّـر كل شيء في سورية ؟

كمال جنبلاط مُستعاداً في مئويته

الجزائري حين يكون ناخباً فرنسياً

ترامب على أبواب القدس وعباس على باب البيت الأبيض!

سبعون سنة تحت الحكم العسكري: أي معجزة يمكن أن تنقذ سورية؟