الرهانات الإيرانية بين الأسطورة الدينية والواقعية السياسية

د.خطار ابو ذياب (العرب اون لاين)

تهديد الجنرال سلامي بمنع كل تفتيش يدل على أن القيادة الإيرانية ستقترب من لحظة الحقيقة، حيث عليها أن تختار بين استخدام الأسطورة الدينية، أو الالتزام بالواقعية السياسية.

برزت الطموحات الإيرانية في إعادة إنتاج الإمبراطورية الفارسية على ضوء ممارسات طهران في السنوات الأخيرة من خلال مشروع سياسي للسيطرة على الدول المجاورة باسم الأيديولوجية الثورية الخمينية، والتفسير الأسطوري للمذهب الشيعي تحت عناوين قيادة المسلمين ووحدتهم ودعم “لمستضعفين” في الظاهر، واللعب على كل الأوتار في الواقع من أجل تكريس الغلبة وانتزاع دور الشرطي الإقليمي في الخليج والشرق الأوسط.

وقد كشف المستـور من الأمور علي يونسي مستشار الرئيس روحاني بمجاهرته “إن إيران أصبحت إمبراطورية عاصمتها بغداد”، وأتى ذلك بعد معزوفة التهليل للسيطرة على العواصم الأربع (بيروت وبغداد ودمشق وصنعاء) في التركيز على مكاسب ما قبل استكمال إبرام الصفقة مع واشنطن، والتفاوض تحت سقف السيطرة الإقليمية إلى جـانب المكافأة النووية المنتظرة.

منذ وصول إدارة باراك أوباما في أواخر 2008، وخصوصا منذ السيطرة على مجريات الأمور في العراق بعد الانسحاب الأميركي في 2011، بالتزامن مع الانخراط في سوريا للحفاظ على النظام الحليف، جوهرة المشروع الإمبراطوري والجسر نحو المشرق والبحر المتوسط حيث حزب الله الركيزة الأساسية لمنظومة ولاية الفقيه، تمادت القيادة الإيرانية في استغلال انهيار النظام الإقليمي العربي منذ سقوط بغداد في 2003 وقررت التوسع في المحيط العربي، والترويج في أوساط أنصارها إلى أن العرب الذين خضعوا للخلافة العثمانية مئات السنين، سيرضخون أيضاً لدولة ولي الفقيه أي إمبراطورية فارس المتخذة من الولاية السياسية المباشرة باسم الدين ذريعة للهيمنة والسطوة.

للدلالة على هذا التوجه نقرأ في موقع علي خامنئي على الشبكة العنكبوتية هذه الفتوى “طبقًا للفقه الشيعي على كل المسلمين إطاعة الأوامر الولائية الشرعية، الصادرة من ولي أمر المسلمين والتسليم لأمره ونهيه”. وهكذا فإن الالتزام بولاية الفقيه لا ينفصل عن الالتزام بالإسلام.

وفي إطار أوسع يتم استخدام النزاع السني – الشيعي، وحروب العرب الداخلية وانقساماتهم، بالإضافة إلى التهويل العسكري والمشروع النووي والأسطورة الدينية والواقعية السياسية (إجادة فن التفاوض وطول النفس وإتقان فهم موازين القـوى) للـوصول إلى تحقيق الـرهان والـدفاع عن المصلحة العليا ليس لإيران (التي تمتلك عناصر وفيرة من القوة دون الحاجة إلى السلاح النووي والأسطورة الدينية للتأكيد على موقعها كقوة إقليمية كبيرة)، بل لنظام ولاية الفقيه وديمومته وسيطرته على قوميات إيران، وتمدده نحو الآخرين.

في تصريح له في عام 2009، تمنى رئيس مجلس الشورى الإيراني علي لاريجاني أن تغير الولايات المتحدة سلوكها تجاه بلاده و”اللعب على رقعة الشطرنج، بدلا من حلبة الملاكمة”. وبالفعل إذا ربطنا الأسلوب الدبلوماسي لكل بلد باللعبة الأكثر شعبية فيه وبالعادات التاريخية يمكننا تلخيص التجاذب الأميركي – الإيراني منذ حادث السفارة الأميركية في طهران إلى اليوم، في المبارزة والحوار بين البيسبول والملاكمة والوسترن من جهة، والشطرنج والبازار وحياكة السجاد من جهة أخرى.

يركض لاعبو البيسبول في الملعب لإحراز النقاط، ويسعى كل فريق لإيقاف الآخر عن طريق التقاط الكرة أو إعادتها. أما في مباراة الشطرنج فيسعى كل طرف للانتصار أو التعادل. للوصول إلى هذا الهدف أو ذاك، يجب التضحية ببيادق وفيلة وأحصنة أو قلعة، وأحياناً تقع التضحية الكبرى بالملكة. وهذه الصفقة أو المقايضة الكبرى بين واشنطن وطهران، تصل الآن إلى شوطها الأخير بعد توقيع الاتفاق – الإطار في لوزان وأمامنا مهلة شهرين لنرى إذا كانت ستتم على حساب النظام السوري أو إسرائيل، أو على حساب الدول الخليجية العربية الحليفة التقليدية لواشنطن؟

قبل عملية “عاصفة الحزم” التي أعطت إشارة بدء تغيير المشهد الإقليمي وموازين القوى، كان اللاعب الإيراني الذي اضطر إلى التسليم بتسوية لا تتفق مع الحدود الوسطى لطموحاته في لوزان، بدأ ينتابه الشك حيال أسلوب أوباما ووده المعلن. إن فهم الرئيس الأميركي للذهنية والنفسية الإيرانية، ودغدغة “غرورها التاريخي”، كان يهدف إلى الاحتواء وانتزاع تنازلات تضع طهران ولو على مدى متوسط على طريق البروسترويكا السوفيتية، خاصة وأن الرأي العام متعطش بغالبيته إلى الانفتاح والخلاص من التحكم باسم الدين. وزادت الشكوك عند القيادة الإيرانية بعد الضوء البرتقالي الأميركي الذي أعطي لتشكيل تحالف عربي هدفه الأول وضع حد للتمدد الإيراني في الإقليم.

في تسلسل الأحداث بعد التوقيع في لوزان أوائل أبريل على الاتفاق – الإطار، لاحظنا أن المرشد الأعلى اعتصم بالصمت، ولكنه فوجئ بأن نهج رفسنجاني – روحاني – ظريف الذي يتم بالطبع تحت رعايته ورقابته قد كسب الكثير من النقاط، بالرغم من التسوية الناقصة حسب وجهة نظر مكتب المرشد (الرفع الكلي للعقوبات ومسألة التفتيش هما محور مساومات فيينا حاليا)، ووصل الأمر بالجنرال حسن فيروز أبادي رئيس أركان القوات المسلحة، والجنرال محمد علي جعفري قائد الحرس الثوري إلى المباركة بالاتفاق. وهنا خرج علي خامنئي عن صمته وقال حرفيا “لا شيء جديدا حتى نبارك به”، ويمكن أن يفهم من ذلك مجرد توزيع للأدوار وتحسين شروط التفاوض على الصيـاغة، وهي المرحلـة الأصعب والأدق. بيْدَ أن خروج الجنرال سلامي من الحرس الثوري، وتهديده بمنع كل تفتيش يدل على أن القيادة الإيرانية ستقترب من لحظة الحقيقة، حيث عليها أن تختار بين استخدام الخطاب الشعبوي والأسطورة الدينية، أو الالتزام بالواقعية السياسية وأحكامها.

قبل اختبار اليمن سقطت أسطورة الجنرال قاسم سليماني في تكريت وفي درعا في جنوب سوريا، ولهذا أخذت القيادة الإيرانية تراجع حساباتها وهل سيكون الزمن في صالحها في الشهور القادمة. ولذا لاحظنا استدارك خامنئي واعتباره موعد نهاية يونيو موعدا غير مقدس. في حساباته الداخلية يلائم المرشد أن تتأجل الأمور حتى لا يغنم فريق رفسنجاني – روحاني انتخابات مجلس الخبراء في آخر هذا العام، وهو ينتهز عجلة أوباما ورغبته في تمرير أهم إنجاز تاريخي لحكمه، لكن تخلي أوباما عن استخدام حق النقض في ترتيب أبرمه مع الكونغرس جعل القيادة الإيرانية أكثر حيرة في اتخاذ موقفها، خاصة وأن مجريات الأمور من اليمن إلى سوريا لا تنطبق في الإجمال مع توقعاتها.

إزاء عاصفة الحزم أذهل عنصر المفاجأة طهران وراقبت عن قرب نجاحات الطيران السعودي والطيران الإماراتي ضمن التحالف. وفيما ارتاحت الدبلوماسية الإيرانية لنجاحها في تحييد إسلام أباد وأنقرة اللتين تلعبان لعبتهما الخاصة، أتتها مفاجأة جديدة بصدور قرار مجلس الأمن الدولي بشأن اليمن، مع موافقة الصين وامتناع روسيا. في حسابات الربح والخسارة لم يربح العرب بعد استعادة موقعهم لأن مشوار العودة طويل، لكن طهران أخذت تخسر وربما تستوعب أن زمن الغلبة غير مضمون النتائج.

في انتظار قمة كامب ديفيد بين أوباما وقادة دول مجلس التعاون الخليجي أواسط الشهر القادم، وفي موازاة مفاوضات النووي، سيصعب على صاحب القرار في طهران تغليب الأسطورة الدينية من أجل نجدة الأنصار في اليمن “أرض البشارة الممهدة لعودة المهدي المنتظر” حسب التفسيرات الأسطورية الإيرانية. لكن البعض في طهران يركز على وصية الإمام الخميني ضد آل سعود ويعتبر أنه يتوجب تنفيذها.

هناك مثل شعبي فارسي يقول “من هذا العمود إلى عمود آخر يأتي الفرج”. والآن بعد انهيار الشرق الأوسط والخليج الذي يشبه القبة الكبيرة المستندة إلى عواميد مترابطة، من الصعب أن يأتي الفرج أو تدوم الغلبة من التعويل على الأساطير والاعتداد بصلف القوة.

(*) أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس

اقرأ أيضاً بقلم د.خطار ابو ذياب (العرب اون لاين)

سوريا: الانتداب الروسي وورقة اللاجئين

إيران: شرارة البازار وكماشة ترامب

اختبار القوة بين ترامب وأوروبا

القانون رقم 10: إعادة تركيب سوريا

سوريا: التغيير الديموغرافي ومصير إدلب

دلالات التصعيد الروسي الأميركي في سوريا

العرقنة واللبننة في انتخابات لبنان والعراق

فرنسا – إيران: الاختبار الكبير للوسطية الماكرونية

الغرب وإيران بين هيلي ولودريان

القدس: دوافع قرار ترامب الأحادي وتبعاته

الأزمة السورية: المسار الشائك من جنيف إلى سوتشي

تصاعد النفوذ الروسي في الشرق الأوسط

إيمانويل ماكرون الأوروبي وأنجيلا ميركل الألمانية

الأمم المتحدة من وودرو ويلسون إلى دونالد ترامب

مآلات التصعيد الصارخ في الأزمة الكورية

استراتيجية الصعود الصيني: الجيش الأحمر في البحر الأحمر

السياسة الخارجية الأميركية في متاهات الترامبية

قمة ماكرون – ترامب: شهر العسل الأميركي الفرنسي

العراق بعد معركة الموصل

تقاطعات الاستراتيجية الروسية في سوريا وتداعياتها