الوزير السابق ادمون رزق لـ”الأنباء”: انزلقنا بعد الحرب الى التفتت المذهبي والفرصة متاحة لبـناء وطن (11/8)

لا يرى النائب والوزير السابق المحامي ادمون رزق “اننا تعلمنا شيئاً من حرب لبنان. دليله لذلك ما يشهده لبنان من مزيد من التفتت المذهبي والطائفي في بلد قام على تعدديته. وإذ لا يخفي أبرز المفاوضين في اتفاق الطائف”، والكتائبي السابق اشمئزازه مما آلت إليه الأمور بعد حرب كان مفترض ان تؤدي إلى إعادة بناء وطن يقوم على مبادئ مستمدة من صفتنا التعددية، يرى في صحوة الشباب ما يمكن البناء عليه بعدما فشل السياسيون في ذلك. وضع رزق الأصبع على جرح لبنان في حديثه لـ”الأنباء”، ضمن ملف “هل تعلمنا دروساً من الحرب بعد مرور 25 عاماً عليها”، في ما يلي تفاصيله.

– هل تعلمنا دروساً من الحرب بعد 25 عاماً على مرورها؟

* أتمنى أن نكون قد تعلمنا، لكن لا إثبات عندي، خصوصاً وأن التصرف الراهن لا يدل على أي إرادة تغيير وتصحيح، وعودة إلى الأسس الحضارية التي بني عليها لبنان. لم يبن لبنان على قومية وشخصية، والدليل ملاحظات الرحالة الأوروبيين الذين كتبوا انهم فيما صادفوا في بلدان الشرق ملوكاً، وأمراء وشيوخ، رأوا في لبنان شعباً. وبالتالي، فإن مقولة ان الناس على دين ملوكهم رأيناه في أوروبا وروسيا، حيث عندما يعتنق ملك دين ما تتبعه الرعية، فيما في لبنان الأمراء يتبعون أديان وطوائف شعبهم. وبهذا المعنى، كان الدين في لبنان عامل تلاقي بين الناس وليس عامل تفرقة. لذا، فإن كل ما نراه اليوم مختلف عن نية مؤسسي هذا الكيان التعددي والموحد. واستحضر هنا ما كتبه نجلي بهجت عن إمارة الأمير فخر الدين التي أبدعت وجسدت الصيغة اللبنانية، من حيث التنوع في الوحدة، والوحدة في التعدد. اما اليوم، فأرى لبنان يعود أكثر فأكثر إلى مذاهب وليس طوائف، ومحسوبيات، وتسييس للدين، بدلاً من رفع السياسة إلى مستوى الإيمان.

– ومن يتحمل المسؤولية في هذا الإطار؟

* لا ألقي المسؤولية على أحد، لأن جميعنا شركاء بها. شاركنا بالسلطة، والحكومات والمجلس النيابي، وعبر الإعلام، لذا لا نعفى من المسؤولية. علينا مواجهتها والاعتراف بها للتصحيح. نعيش اليوم في دوامة الفشل، والخداع، والكذب، والتمويه، والنفاق، واستنباط الذرائع لتحميل الآخرين تبعة الحرب. لدي مقولة أرددها دوماً، الا وهي انه قد تكون هناك مسؤولية على الآخرين، وتحديداً الوجود الفلسطيني، والتدخل السوري والاحتلال الإسرائيلي، إلا ان هذه ما كانت لتكون لولا الأخطاء اللبنانية، والانقسامات السياسية المموهة بالدين. وللعلم، الدين والإيمان الحقيقيان يقربان بين المؤمنين، فيما الطائفية والمذهبية عاملاً تسييس للدين، وتباعد بين الدين الواحد وشرذمة المجتمع.

– أين هي الأحزاب ودورها في ذلك بعدما كانت الأساس في الحرب؟

* تحتاج هذه الأحزاب لنقد ذاتي بعد سقوطها الذريع. سقطت الأحزاب والحزبيات لأنها خرجت عن مسارها المبدئي، وتشخصنت فدمرت المحتوى الفكري للأحزاب. أحاول يومياً ممارسة نقد ذاتي للفكر والتذكر الاستعادي لما حصل في المدى الذي يمكن احتواءه بالذاكرة، وأدين نفسي باستمرار وأحياناً على كلمة قلتها في غير موضعها، أو لصمت في غير موقعه. أدين نفسي على صمت وكلام، وأستذكر هفوات بالغة، لكن كل ذلك لا يبدد النتائج، لأن الأخطاء حصلت، لكنها تمنع التكرار. لا أخفي انه لدي مأخذ كبير على نفسي أولاً، ومن ثم على كل متعاط بالشأن العام من الزاوية السياسية. سعيت وحاولت ان يكون لي عمل وطني وليس سياسياً لأننا لسنا بحاجة الى تسييس الوطنية، بل إلى سياسة الوطن، وإدارة الأمور بروية وحكمة، وبما يناسب المصلحة العليا والعامة. على الأحزاب العودة إلى ذاتها وقراءة التاريخ القريب.

– ماذا عن تجربتك الحزبية في إطار حزب الكتائب اللبنانية والتي استمرت حتى في الحرب؟

* كنت حزبياً، وعشت فترة بإطار حزبي، لكني احتفظت بحريتي الشخصية، وبحرية أفكاري. كنت أعبر عن قناعاتي في كتاباتي وخطاباتي، لكني لم أسخر يوماً الكلمة في سبيل السياسة، وهذا كلف، ومستعد لدفع ثمن مواقفي. أعود من منظور ذاتي إلى المقياس الذي يعتبره الإنسان صالح لتحديد الربح والخسارة، وأسأل: ماذا ينفع الإنسان إذا ربح العالم كله وخسر نفسه؟ وماذا ينفع الإنسان إذا تكدست الأموال في صناديقه، واحتكر الدوائر العقارية وسجلاتها، ولم يحافظ على احترامه للآخر، واحترام الآخر له. نريد معرفة ما هو سلم الأولويات، وما هي وحدة القياس للربح والخسارة. أتيح لي كخيار أخذته، ألا وهو البقاء قدر الإمكان محافظ على نوع من المصالحة بيني وبين نفسي، فيما اعتقد ان كل المختلفين مع الآخر بحدة، وعنف، إنما لأنهم مختلفون أساساً مع ذاتهم. المصالحة مع الآخر تبدأ بالمصالحة مع الذات، لكونها شرط أساسي للمصالحة مع الآخرين.

– ألا يمكن ان تتم هذه المصالحة وعلى قاعدة حقيقية؟

* قال الرئيس الشهيد رينيه معوض في خطاب قسمه ان “المصالحة لا تستثني أحد، بما في ذلك من يصرون على استثناء أنفسهم”. كان مشروعنا معه المصالحة اللبنانية، لكنها لم تتم. سعينا لإتمامها بالطائف، لكن الاتفاق أجهض، ولم يطبق. عدلنا الدستور بعدما كلفني مجلس الوزراء بصفتي وزيراً للعدل بوضع مشروع لتعديل الدستور وفق اتفاق الطائف، ولم تطبق. لا يطبق الدستور، ونعيش على هامشه، علماً انه ليس لفئة دون أخرى، بل هو ضمانة لقيام الجمهورية. ونحن بحاجة لمبادئ الجمهورية المستمدة من صفتنا التعددية التي تعتبر إثراء متبادل. إذا اعتبرنا الاختلاف خلافاً، فذلك يؤدي إلى حروب والى انهيار للوطن. نحن راهناً في حالة زعزعة ركائز الوطن. علينا الاعتراف بذلك بدل البقاء في التكاذب، والنفاق، والتمويه و”غرغرة” شعارات من دون محتوى. هناك الكثير من خداع للذات.

ما يعني اننا لم نتعلم من الحرب أو نتعظ من دروسها وتجاربها المرّة؟!

* لم نتعظ فعلياً، لا نظرياً ولا وجدانياً. لو اتعظنا لكنا تجنبنا الأخطاء والخطايا، وما يترجم من أعمال ذات صلة. والبرهان على اننا لم نتعلم اننا اليوم في حالة تفكيك للمؤسسات، وتفتيت للوحدة الوطنية، وليس هناك من محاولات جدية للإنقاذ، إنما هناك شروط يفرضها الأفرقاء على بعضهم البعض، وهي شروط سلبية، ونتائجها المزيد من الانهيار والتفكك. المطالب الشخصية تتحكم بمسار المعالجة المبدئية. المطلوب حين يكون المريض في حالة احتضار، تأمين الطبيب المختص والجدير بتقديم العلاج، وليس من هم من غير اختصاص، لأننا لا نكون نساهم بانقاذه. وفي حالة لبنان من البديهي التفتيش عن المناسب.

هل ما نمر به اليوم يعود لأن لا أحد يريد الاتعاظ من دروس الحرب؟

* تتملكنا الروح الفردية والأنانية بحيث يعتبر كل واحد انه قادر على أخذ مواقف، ولم يصله الدور بعد. وبرغم مشاهدته غيره قتل واستشهد، وإنهار وخسر، يعيش وهم العصمة والمناعة الوهمية، فيما ما من احد فوق رأسه خيمة. من الممكن لسيارة مفخخة أو حزام ناسف قتل كائناً من كان، بمن فيه زوجته أو أولاده. لسنا بمنأى عن كل ذلك إذ استمر المسلسل الذي به ندخل بنفق مفخخ بعدما كان مظلماً، فلا تظهر أماكن التفخيخ، ظناً انها لن تنفجر بنا، بل بغيرنا. فكيف الحال إذا كان وطن.

– ماذا عن  دور الجيل الشاب؟

* هناك صحوة عند الشباب، وأعول عليه وعلى دوره لأنه لم تستحكم به بعد لوثة السياسة بمعناها الانحطاطي، كون السياسة بالمطلق رائعة. أخذت عن والدي مقولة “السياسة فن الممكن”، وأضفت عليها في مؤتمر أوروبي – عربي لدعم القضية الفلسطينية بأن “السياسة هي” فن جعل العادل ممكنا”، رداً على رئيس الوفد الفرنسي آنذاك حين ذكرنا بأن السياسة هي فن الممكن. نحن بحاجة لعدم إقحام دور الشباب وتوريطه، لحاجتهم للتركيز على العلم، وفي ان يكونوا شركاء كاملين في إبداعات العقل في العصر الكوني، بما يتوفر من وسائل تواصل، لا ان يكبلوا بحزبية ومذهبية وطائفية. نريدهم ان يبرزوا إبداعاتهم الإنسانية لبناء هيكل الروح الذي يقوم عليه مستقبل الوطن والإنسانية.

على الشباب ان يرفضوا الاصطفاف في غياهب المذهبية، والطائفية والتحزب المشخصن المدمر لشخصية الإنسان، أقول ذلك لأن جميعنا مر بتجارب وتجاوزناها. علينا ان نقف أمام المرآة لنرى حقيقتنا، ذلك لأنه بحسب قول شعري “كلك عورات وللناس أعين”. أتمنى ان لا تلحق الشباب لوثة الزمان الرديء. اننا مدعوون لإعطاءهم أفضل ما في تجربتنا وخبرتنا، وليس التعمية والمزيد من الغش. استغرب محاولة البعض إقناع أنفسهم والآخرين انهم المشكلة والحل. هذا غير ممكن، لا يمكن للمشكلة ان تتحول إلى حل. كما لا يجوز الاستهداف الشخصي بل العقليات التي هي بالنتيجة ممكن ان تضعنا في التخلف أو توجهنا نحو المستقبل.

– ماذا تقول للسياسيين مِّمن كانوا أمراء حرب بهدف الخروج من الحالة الراهنة وتفادياً لما هو أسوأ؟

* كمراقب ومعايش للواقع، لا أحمل مسؤولية حصرية لأشخاص، بقدر ما أحمل المسؤولية لمن لا يجرون نقداً ذاتياً أو موضوعياً، خصوصاً وان ذاكرة البلد لم تتعرض للطمس. لا يجب ان ننسى قول وليد جنبلاط المأثور “أغفر ولكن لا أنسى”. يجب ان يشمل النسيان إساءة الآخر الينا، أو التناسي والغفران، لكن لا يجوز نسيان أخطاءنا. أحياناً، النسيان الموضوعي هو خطأ. هناك ما اسمه خطيئة وخطأ وأخطاء تكون في أحيان كثيرة جريمة. الخطأ الجسيم يوازي سوء النية. ومن غير المسموح ان لا يسامح من يخطئ في العمل الوطني. يقول القرآن الكريم “ولكم من القصاص حياة”، لذا كنت ضد قانون العفو العام، وقلت قد أكون مع العفو عن العقوبة من أجل مصالحة وبداية جديدة، وليس العفو عن الجرم. كنت من دعاة إدانة الجميع حتى الهياكل العظيمة، ليس للانتقام والثأر، إنما للاتعاظ والقول ان هناك محاسبة بهذه الدولة. حاولت ونجحت عندما كنت وزيراً للعدل في 1990 في إجراء تشكيلات قضائية متوازية على أساس الكفاءة والاختصاصات، بمعزل عن كل الاعتبارات المذهبية والطائفية والمناطقية، لأن الشعب يريد الأفضل، ولا تهمه طائفة ومناطقية الأستاذ أو الطبيب أو المهندس “الشاطر”.

– إلى ما نحتاجه لتصحيح المسار؟

نبحث عن شخص يقود البلد غير متزلم. نريد أفضل عالم مال وزيراً للمال، وهلم جرّ، من دون النظر إلى انتماءه الطائفي والحزبي. علينا العودة إلى مبادئ بناء الأوطان والدول والجمهوريات، ولا نريد اختراع الديمقراطية، انما تطبيقها. نختلف على الحصص بقانون الانتخابات. سبق وحددنا مرجعاً للوظائف العامة في المادة 95 من الدستور، قاعدتها الكفاءة والاختصاص مع مراعاة التوازن الوطني وليس الحزبي، والقائم على الشراكة الحقيقية. وهذا ما جعلني أسمي “اتفاق الطائف” عهد حياة وعقد شراكة . فعهد حياة يعني اننا نتعاهد على الحياة، وعقد شراكة يقضي بتنظيم هذه الشراكة بروح الوحدة الوطنية والارتقاء إلى المثل العليا التي تضمن المصلحة الوطنية العليا. ليس مهماً القول بوجود مجلس نواب ومجلس وزراء وقانون، المهم ان يعطى المواطن حرية التعبير عن رأيه، والاختيار، على ان يعطى الإعلام حيّزاً أكبر للتوعية الوطنية، بدل تركيزه على الخلافات والمهاترات، والانحطاط السياسي، لا سيما وان الشعب أظهر قدرته على التجاوب، وعلى الخيار الحقيقي، وأخذ مواقف عندما انتفض على الظلم، ونزل إلى الشارع مليوني مواطن من كل الأعمار وعبروا، لكنهم صدموا بإجهاض صحوتهم من قبل المستغلين، ومصادرتها، وإبطال نتائجها، لا يكفي القول انه لدينا مصيبة.

– ما الذي يجب قوله، لا بل فعله لإنقاذ البلد من مصيبته؟

* نحن في وارد انقاذ وطن والعودة إلى قائمة الدول المحترمة بالعالم، خصوصاً وانه لدينا كل الخصائص التي تؤهلنا في أن نكون درّة في الشرق. إننا الجامعة، والمستشفى، والمنتجع والطبيعة الخلابة، والقدرات العلمية. فلما علينا حصر كل ما نتمتع به بإشكالية، وزجها بحرب طواحين. لدينا انتماءنا العربي وهويتنا اللبنانية – العربية. نحن لبنانيون أولاً وآخراً، وعربا. لما لا نرتب بيتنا الداخلي على أساس التجربة، وحصيلة النتائج التي توصلنا إليها، مع الأخذ بالاعتبار الأولويات، برغم من يحاول إيجاد فتاوى واخراجات للأوضاع الطارئة والمستجدة، سواء بالنسبة لقرارات مجلس الوزراء أو غيرها. علينا بالعودة إلى الأساس. ان هيكلية الدولة مصابة وتحتاج ترميماً، ووضع الرأس على الجسد.

– لكن هذا الرأس ينتظر صدور القرارات الخارجية برغم محاولات اعتبار انتخابه صناعة محلية؟

* انتهينا من فبركة رؤساء وتنصيبهم وتعيينهم. يجب العودة إلى مفهوم الانتخابات الصحيح، أي الشعب ينتخب نواباً ينتخبون رئيساً، ونواب يمنحون الثقة لتشكيل حكومة وتعيين وزراء وليس محاسيب. علينا العودة إلى قاض يقاضي، لا أن تتكدس الدعاوى ولا يتجرأ على عقد جلسة. ألم يحن الوقت لأن نتعلم. علينا البحث عن نوعية أشخاص لمهمات معينة من دون إقصاء أحد عن الشأن العام والوظيفة.

– إلى ما نحن مدعوون إليه اليوم طالما لم نتعلم من الحرب؟

* نحن مدعوون إلى مواجهة مع ذاتنا أولاً، والاعتراف بعلاتنا قبل أن تقتلنا، انطلاقاً من أن “من كتم علته قتلته”. معروفة اليوم ما هي علتنا “الشخصنة، والمحسوبية، وتسييس الدين”. لذا، نحن بحاجة إلى العودة لأنفسنا أولاً، فاستفادة لبنان الذي يهرب من بين أيدينا ثانياً، بما لدي من إيمان بالعناية الإلهية، وثقة بالشعب، وقدرة الشباب على الاضطلاع بدور فاعل. انه السبيل للخلاص.