غياب “غريس” و”غاليانو” خسارة أخلاقية وفكرية

فوزي أبوذياب

غيب الموت قبل أيام أديبين ومفكرين يساريين كبيرين، شكلا كل في مساحته، أعمدة الأدب الانساني الاشتراكي بإبداعهما االفكري ومواقفهما السياسية الكبيرة، الأديب الألماني غونتر غريس، والصحفي والكاتب الأوروغواياني إدواردو غاليانو، الذين تميزا بجرأتهما في ملامسة قضايا الشعوب الفقيرة وتوقها الى الحرية والعيش الكريم، وبدفاعهما عن حقوق الانسان وحق الشعوب بتقرير مصيرها.

الأديب الألماني غونتر غريس، الحائز على جائزة نوبل، عن عمر يناهز 87 عاما. وكان غراس، الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1999، الكاتب الألماني الأكثر شهرة في النصف الثاني من القرن العشرين. وذاع صيته من خلال رواية “طبل الصفيح” التي نشرت عام 1959، التي تلتها روايتان أخريان هما “القط والفأر” و”سنوات الكلاب”، فيما يطلق عليها “ثلاثية داينتسيغ”، حول مسقط رأسه مدينة غدانسك، البولندية حاليا.

كما اشتهر غريس بمواقفه السياسية، وفي مقدمتها معارضته للحرب على العراق عام 2003، وتضامنه مع الشعب الفلسطيني.أغضب الأديب العالمي إسرائيل، عندما أشاد بالخبير النووي موردخاي فعنونو، الذي كشف تفاصيل البرنامج النووي الإسرائيلي السري عام 1986، وذلك في قصيدة تحمل عنوان “بطل من أيامنا”.

غونتر غريس

وردا على ذلك دعت الرابطة العبرية للكتاب في إسرائيل، المثقفين في العالم إلى مقاطعة غريس، وقالت “إن العنصرية النازية مترسخة في حمضه النووي”.

حياة غريس كانت حافلة بلحظات مأساوية مع كل مرحلة من مراحلها، ففي السابعة عشرة من عمره عايش أهوال الحرب العالمية الثانية عام 1944، أولاً كمساعد في سلاح الجو، ثم بانضمامه للوحدات النازية الخاصة “إس إس”، التي اعترف بانتسابه إليها بعد عقود عدة، وهو ما أدى إلى جدل كبير في ألمانيا. غير أن انضمامه هذا لم يغير من وجه نظره تجاه الحرب ومن يديرها، فقد كان واحداً من الذين رفعوا أصواتهم من تحت الأنقاض ليكونوا شاهدين على ما رأوا، وسمعوا خلال الحقبة النازية السوداء.

عالم غريس الأدبي يصعب اختصاره وكذلك تجربته السياسية والتزامه واشتراكيته الوطنية وسيرته، فقد انطلق من (دكان) أهله في إحدى ضواحي دانتزيغ، حيث تعلم فن الحياة لينتهي روائياً طليعياً وكاتباً ساخراً ورافضاً ومتمرداً، أثارت قصيدته “ما يجب أن يقال” التي نشرها في ديوانه “ذباب مايو” جدلا كبيرا حيث انتقد فيها بقوة إسرائيل واتهمها بكونها تهدد السلم الدولي الذي وصفه بالهش، من خلال اعتزامها شن ضربة عسكرية على المنشآت النووية الإيرانية. كما أدان فيها بيع بلاده غواصات قادرة على حمل أسلحة نووية لإسرائيل. والقصيدة في الأصل مدح لمردخاي فعنونو، الخبير الإسرائيلي الذي كشف عن قدرات إسرائيل النووية وسجن لمدة 18 عاماً بتهمة التجسس.

لكن لماذا كان غريس يجد في الشعر ضالته وسبيلا لنقد القول السياسي، فهذا الكاتب المثير للجدل لم يسلم من نقده الاتحاد الأوروبي الذي وصفه بالسوق المشتركة الفاقدة للقيم، بل أن المستشارة الألمانية ميركل نالت حظها من نقده اللاذع، حينما وصفها بالجبن السياسي دفاعا عن كرامة ألمانيا، بعد فضيحة تجسس وكالة الأمن القومي الأمريكية على ألمانيا، وقد وصفها قائلا “السيدة ميركل جبانة سياسياً، فهي ليست قادرة على الاستفادة من سيادة جمهورية ألمانيا الاتحادية التي نحظى بها منذ الوحدة”.

دافع غريس اليساري عن القضية الكردية وعن قضايا حقوق الإنسان، لأنه كان مناهضا للهيمنة. كما عرف عن غريس إعجابه بالموروث الثقافي لليمن، حيث زاره عام 2004، للمشاركة في ملتقى الرواية العربية الألمانية الذي عقد حينها في العاصمة صنعاء.

ادواردو غاليانو
إدواردو غاليانو الأوروغواياني، الصوت الأكثر ارتفاعا في تمثيل الضمير الاجتماعي على مستوى أمريكا اللاتينية و العالم، والذي وافته المنية الإثنين عن عمر ناهز الـ 74 عاماً، مخلفاً وراءه إرثاً نضالياً حافلاً ورصيداً كبيراً في سبيل حرية الشعوب وكرامتها.

غاليانو المواطن الأوروغواياني الذي أجبر على عيش حياة المنفى عندما كانت بلاده ترزح تحت سطوة الحكم العسكري في السبعينات وقف دوما إلى جانب الخاسرين في لعبة المعادلة الأممية، ولد عام 1940 بمدينة مونيفيديو، امتهن الكتابة والصحافة، وأصبح من أعمدة الأدب الأميركي اللاتيني.

من أشهر مؤلفاته، “الشرايين المفتوحة لأميركا اللاتينية” وكتاب “العناق” و”أفواه الزمن” و”أبناء الأيام” و”مرايا”.

في عبارته الافتتاحية لكتابه الذائع الصيت “الأوردة المفتوحة لأمريكا اللاتينية” ، ” إن تقسيم العمل بين الأمم يستبطن تحديدا مسبقا لمن سيفوز ومن سيخسر” فأضحى كتابه هذا بمثابة النص الملهم لخطب الدوائر الثورية في اميركا اللاتينية.

لم يتناول أحد من الكتاب مثل غاليانو الذي برز اهتمامه الصارخ وبكل الوضوح الأخلاقي المطلوب، إلى الظروف الإنسانية و الفوارق الخطيرة التي أفرزها النظام الاقتصادي العالمي الجديد، حيث اعتبر كتاب غاليانو الأخير ” إزاحة الأعلى إلى الأسفل” بمثابة الصرخه الاجتماعية الأكثر غضبا ضد المجتمع الاستهلاكي الغربي و تفاقم التباعد بين عالمي الشمال و الجنوب.

حيث كتب غاليانو بنبرة كئيبة في هذا الكتاب : ” البلدان الفقيرة وضعت روحها و قلبها في ما كان يبدو سباقا كونيا بين السلوكيات الطيبة لكنها جنت في النهاية فتاتا بائسا من العوائد و تسميما منتظما لبيئة الجنوب ” .

كرس إدواردو غاليانو حياته للنضال من أجل حرية وكرامة الإنسان، ومن أجل حق الشعوب بتقرير مصيرها، كما كان مناهضاً للعولمة المتوحشة، كما وقف إلى جانب القضية الفلسطينية ودافع عنها وعن قضايا الشعوب الثائرة.

بغياب “غريس” و”غاليانو” يفتقد العالم اصوات الضمير والاخلاق، ويفتقد المشردين في الأرض أقلاماً حرة حملت قضاياهم ودافعت عنهم، ويفتقد اليسار العالمي مفكرين كبيرين من أركانه.

اقرأ أيضاً بقلم فوزي أبوذياب

انتخاب رئيس الجمهورية مدخل لاي عملية اصلاحية

لبنان بين تحديات الداخل وتحولات الخارج

العالم العربي بين حربين دوليتين على الإرهاب

غزة تحت العدوان مجددا

هذا ما قاله راشد الغنوشي في “إخوان” مصر

جنيف 2 – التسوية المفقودة !

المعارضات السورية وتحدي (جنيف 2)

الاتفاق النووي الايراني ومفترق الحرب والسلم

لبنان بين سجال نصرالله-الحريري وجنيف 2

هل بات مؤتمر جنيف 2 المدخل الوحيد للحل؟

الحوار الإيراني مع الغرب بين تصعيد المرشد وانفتاح روحاني وتحدي الوقت

الضربة العسكرية المتوقعة على سوريا وتداعياتها

حراك دولي ناشط لمعاقبة النظام السوري على مجازر الكيماوي

تحول جذري في مسار الازمة السوري

ماذا بعد رسائل الليل الصاروخية… غير المنضبطة؟

تونس على حافة الهاوية… مجدداً!!

هل ينجح الجيش الحر في تعديل موازين القوى الاستراتيجية؟

هل أطيح بظاهرة الأسير أم أسس لظواهر مماثلة؟

لبنان أمام أزمة مفتوحة

هل دخل لبنان في جبهة الصراع الإقليمية؟