الوزير السابق البير منصور لـ”الأنباء”: لم نتعلم من دروس الحرب وحاضرنا هو مجموع ماضينا (11/6)

يشدد الوزير السابق البير منصور من موقعه المراقب خلال الحرب اللبنانية، وفي زمن السلم الحاضر المشدود على وتر العصبية المذهبية والطائفية، على ان أحداً لم يتعلم من دروس الحرب ويرى انه بدلاً من ان نخرج منها بتوجه لإعادة بناء مشاركة وتوجه وطني، وبناءً دولة ووطن، شهدنا إعادة بناء هيمنة جديدة قائمة على طائفية ومذهبية جديدة. منصور الذي استفاض في قراءة الواقع الراهن انطلاقاً من نتائج الحرب اللبنانية، وما كان يجب ان يكون عليه دور لبنان بعد حربه، لجهة بناءه قاعدة ثقافية محايدة تقوم عليها قاعدة العروبة، كان له الحديث التالي لجريدة “الأنباء”.

اليوم، وبعد مرور 25 عاماً على الحرب اللبنانية، هل يمكن القول اننا تعلمنا منها؟ ما الذي تعلمناه من دروس؟

يبدو لي في حقيقة الأمر، وعلى ضوء الواقع الذي نعيشه اليوم، اننا لم نتعلم فقط من دروس حرب لبنان، بل نرى ان النتائج ومعطيات الحرب لا تزال قائمة وموجودة، وهي ذاتها التي كانت قبلاً، وبخاصة لجهة التبعية، لا سيما تبعية الأطراف التي زاد منسوبها. ففي مرحلة الصراع الأولى، كان هناك حد أدنى من الاستقلالية عن القوى السياسية، غير ان النتائج التي رسمت بعد الحرب، ولا سيما بعد العام 1992، كشفت عن ارتفاع هامش التبعية، وبشكل كبير، لدى غالبية القوى السياسية، بحيث أصبحت عاملاً مؤذياً.

وما الأسباب التي أدت إلى زيادة التبعية؟

ارتفاع منسوب عامل التبعية، ولسوء الحظ، هو نتيجة سعي حثيث ومشغول عليه من أجهزة في الداخل اللبناني وخارجه، ترتب عنه ارتفاع منسوب الطائفية والمذهبية، علماً ان هذا الأمر لم يكن بنفس المستوى أقله في مرحلة الصراع الأولى، والتي شهدت تركيزاً على الانقسام الطائفي. اننا نعيش اليوم مرحلة تفتت طائفي ومذهبي بشكل غير مسبوق في تاريخ الصراع في لبنان. هذا الأمر بجديد علينا، والذي يبدو أيضاً ان هناك عمل حثيث على بثها في المنطقة ككل.

وبرأيك، من يقف وراء هذا العمل؟

بتقديري، بدأ مع تشجيع الغرب لما يسمى بـ”الظاهرة الدينية في العمل السياسي”، والذي انطلق مع تخلي الغرب عن شاه إيران في السبعينات من القرن الماضي، مروراً باحتلال العراق في 2003، والذي كانت الغاية من ذلك تدمير البنية العراقية وتفتيتها، وصولاً إلى ما أسمه “الربيع العربي”، والذي يبدو في ظاهره محاولة تستر بموضوع الحريات، ومحاربة أنظمة الاستبداد، فيما النتائج بينت وجود نوع من تسعير للصراع المذهبي في المنطقة، لتدميرها تدميراً كاملاً، أي تدمير كياناتها، وتحويلها إلى نار تطبخ عليها القوى الغربية مشاريعها، ولا سيما مِمَن يمسكون بالعالم والرأسمالية الكبرى المحتكرة للنفط، والطاقة، والسلاح، والمال، والدواء. تطبخ هذه القوى على حطب الصراع المذهبي المستعر في المنطقة. النار مشتعلة، وطريقة التعاطي معها تشير إلى انها باقية لفترة طويلة، لأنهم يطبخون عليها مشروع إعادة تركيب المنطقة بشكل جديد، والظاهر للآن من نتائج حرب العراق، والطريقة التي حصلت فيها، وما رافقها من كذب، ان العمل قائم لإنشاء كيانات طائفية ومذهبية، تكون تبريراً ليهودية فلسطين.

وما انعكاسات ما سبق وأوردته على لبنان؟

لسوء الحظ، التفتت المذهبي في لبنان قطع أشواطاً متقدمة، علماً انه لم يكن كذلك في مرحلة الحرب الأهلية، أقله في مرحلتها الأولى بدءاً من 1975، إذ كان هناك على الأقل قضية سياسية مرافقة، وهي قضية الصراع الفلسطيني العربي، والدفاع عن المقاومة الفلسطينية. بينما اليوم، فإن الصراع المذهبي الدائر يبدو أكثر تفتيتاً للوضع اللبناني، ويدل على ان القوى السياسية اللبنانية بات لها انزلاقاتها نظراً للتبعية الكبيرة الحاصلة حالياً.

ما يعني اننا لم نتعلم شيئاً من دروس حرب لبنان؟!

الأسوأ اننا لم نتعلم شيئاً من دروس الحرب. اننا نغرق أكثر فأكثر بالمذهبية والطائفية. المشاريع التي ظهرت مؤخراً، إن لجهة بعض الطروحات المتعلقة بإعادة تنظيم الحياة السياسية على قواعد قانون انتخابي جديد، وما يطرح من قوانين كالقانون الأرثوذكسي وغيره، تشير إلى عودة كبيرة إلى الوراء، وعن المرحلة التي على الأقل رسم فيها أمل بعد الحرب و”اتفاق الطائف”، ولاح في الأفق إمكانية الخروج من الحالة الطائفية والمذهبية إلى حالة وطنية.

ما العوامل التي حالت دون تحقيق هذه النقلة من الحالة الطائفية إلى الوطنية لا سيما وان التاريخ يعلم دروساً؟

لم نتعلم من كل دروس الحرب لوجود مشاريع.  شهدنا في مرحلة ما بعد اتفاق الطائف سيطرة، وبروز قوى سياسية حملت مشاريع، وعملت على استغلال الوضع الذي كان سائداً بعد خروجنا من حرب طويلة ومدمرة، وعملت على تدمير الحياة السياسية اللبنانية. تبلور بعد العام 1992 مشروعاً نتيجة التفاهم السعودي – السوري، أدى إلى انقلاب حقيقي على اتفاق الطائف والوضع اللبناني، وأخذ الحكم باتجاه مشروع جديد للبنان والمنطقة، ما ولّد صراعاً حوله لا زال مستمرا لليوم. كان هناك مشروع مشيخة معد للبنان، لذا أغرق البلد. وبدلاً من التوجه نحو إعادة بناء مشاركة وتوجه وطني، شهدنا إعادة بناء لهيمنة جديدة، قائمة على طائفية ومذهبية جديدة. استبدلت المارونية السياسية بنوع من الهيمنة السنية السياسية في مرحلة معينة، وبرعاية سعودية – سورية، ودخلت معها الشيعية السياسية كشريك مضارب، فأصبحنا أمام هيمنة معكوسة في الحكم، أي بدلاً من الهيمنة المارونية السياسية، بات هناك هيمنة سنية سياسية مع مشاركة شيعية.

– مما سبق، ألا تتحمل المارونية السياسية ما آلت إليه الأمور؟

الأمر ليس كذلك برغم مساوئ المارونية السياسية، وهيمنتها المذهبية والطائفية، وقد كانت في مرحلة من المراحل قد توجهت نحو بناء دولة، وكان هناك مشروع لبناء دولة، وبخاصة في مرحلة الشهابية وما بعد. لكن اليوم، هناك انهيار كامل في مؤسسات الدولة وأجهزتها، ولا يبدو ان هناك توجه لإعادة بناء الدولة وبناء وطن. وكل ذلك يعني اننا لم نتعلم فقط، بل تراجعنا. لو ان الأمر توقف عند حدود لم نتعلم فقط، وحافظنا على النمط القديم الثابت، لبقي لنا أمل ببناء دولة وطنية. حتى هذا الأمل لم يعد موجوداً.

وما المطلوب اليوم لبناء دولة وتفادي العودة إلى زمن الحرب؟

لا أعرف ما إذا لا تزال الإمكانية قائمة، ذلك ان مشروع التفتيت الطائفي والمذهبي قطع شوطاً متقدماً. وبالتالي، فإن المطلوب أقله للمرحلة الراهنة العمل على وقف الانهيار، ومحاولة الحد من الانزلاق أكثر فأكثر نحو المذهبية وبالشكل الذي نذهب به، لأننا نذهب باتجاه مؤذ جداً. ان الوضع المريض الذي تغرق به الطائفتان السنية والشيعية سياسياً، مطلوب نقل عدواها إلى الجو المسيحي، بمجرد الطرح الذي يقول بمرشح قوي لرئاسة الجمهورية، ويمثل طائفته. هذا يعني اننا نتجه نحو تفتيت مذهي للوضع، وانسياق بمسار المشروع الصهيوني المرسوم للمنطقة، وهو مشروع مدمر.

أليس هناك من إمكانية للخروج من الوضع المتأزم نحو اتجاه وطني ما؟

المشكلة انه لم يعد هناك من قوى وطنية تحمل هذا المشروع الوطني. فمن الدلائل البسيطة، والمؤشرات المؤلمة، ما شهدناه مؤخراً في الحركة النقابية، حيث ان هذا الموقع الوطني الوحيد الممثل بشخص حنا غريب، شهد تكتلاً من جميع القوى والأحزاب من فريقي 8 و14 آذار لإلغائه. ما حصل ظاهرة ملفتة ومؤلمة، ومؤشر للانهيار. يبدو ان هذه القوى المذهبية والطائفية، برغم تصارعها بين بعضها، مشروعها واحد، وتلتقي حول معاداة المواطن والدولة الوطنية التي هي الأمل الوحيد.

هذه القوى التي تتحدث عنها كانت في زمن الحرب مسؤولة عن ميليشيا، وهي اليوم في موقع المسؤولة السياسية. ألم تتعلم من الحرب لتفادي ما تشهده اليوم؟

تلحق هذه القوى مصالحها، إذ ليس لديها مشاريع للمستقبل. لديها مشاريع هيمنة، وتسلط، وانقسام، ومنافع ومصالح. ما من جهة سياسية تحمل رؤيا لمستقبل لبنان، وتالياً ما من احد بتوجهه السياسي يملك رؤيا لما هو دور لبنان، وللمنطقة العربية المحيطة بنا. فمن دون رؤيا للمنطقة العربية لا رؤيا صائبة للبنان.

– انطلاقاً من مواكبتك لكافة مراحل الحرب اللبنانية، ما كان متوقعاً ان تخرج دروساً للاتعاظ بها؟

كان يجب على لبنان ان يتعلم بأن الصراع الحقيقي الذي يجب تبنيه والعمل عليه، هو الصراع لمقاومة مفهوم التفتيت الصهيوني للمنطقة، والعمل على المفهوم العروبي الرامي إلى بناء المنطقة على قاعدة من التضامن، وإنشاء قاعدة ثقافية محايدة وليس قاعدة عصبوية. وبمعنى أوضح ان نبني قاعدة العروبة على حاضن تضامن ثقافي أكثر مما هو عصبوي، حاضن لا هو عرفي ولا ديني، إنما قائم على انتماء ثقافي، يمكن البناء عليه مفاهيم إنسانية، كمفهوم مساواة مطلقة بين الجميع، مما يمكّن دولاً وطنية متعاونة في ما بينها من استيعاب هذا التوجه. كان يجب ان يكون هذا دور لبنان بعد الحرب، لجهة إعادة بناء العروبة، ومن ضمنها الدول الوطنية المستعدة لهذا التعاون، مع ما يتطلب ذلك من توجه إنساني لجهة المحافظة على الحقوق الإنسانية البديهية، ومنها حق الفلسطينيين باستعادة أراضيهم ووطنهم، ومعاداة الصهيونية لما تحمل من تمييز بين الشعوب والبشر. لكن، ولسوء الحظ، غلب على هذا المشروع المشروع الصهيوني.

– والحل؟!

يبقى هناك أمل ما بما يحاول إبرازه “حزب الله”، ولما له من جانبين، جانب سياسي وآخر مقاوم. وقد يكون جانب المقاومة صائب وجامع كان يمكن البناء عليه، الا ان التصرف السياسي، أو الانخراط السياسي لـ”حزب الله” بالحياة السياسية لم يكن ناجحاً، وكان أفضل له لو لم ينخرط بها، وبقي على توجه المقاومة، لأن من شأن ذلك كان من الممكن ان تجمع المقاومة حولها ليس فقط مذهبياً وطائفياً، بل وطنياً، فتشكل حالة يبنى عليها في العالم العربي بأسره. أضر انخراطهم بالحياة السياسية اللبنانية، واضطرهم اعتماد النهج المذهبي داخلياً وخارجياً. لكن يبقى لتوجه المقاومة بارقة أمل، وإمكانية لباب للدخول منه للعودة إلى التوجه الوطني والعروبي في العالم العربي. انه الدور الذي يمكن ان يلعبه لبنان، لكونه دوره الأساسي. وهنا، لا يقول احد ان لبنان بلد صغير، إذ هناك دول “سخيفة” بالمنطقة، لكن بنتيجة إمكانياتها المادية تلعب دوراً ضخماً كقطر. لبنان ليس دولة تافهة ولا سخيفة، ويمكنه لعب دور أساسي في المنطقة.

لكن هل القوى السياسية مدركة لدور لبنان؟

غلب على القوى السياسية المرض المذهبي راهناً، وهذا ما يجعلني أقف على حدود اليأس.

– في المحصلة، ما المطلوب اليوم، وأكثر من أي وقت مضى لاستعادة دروس حرب لبنان للاتعاظ بها على قاعدة الاتعاظ من دروس الماضي والتاريخ؟

مما لا شك ان القوى التي نتعاطى معها هي “بنت ساعتها”، وبالتالي لم تتعظ من أي دروس، علماً انه لا يمكننا الهروب من ماضينا، لا سيما وان حاضرنا هو مجموع ماضينا. المطلوب اليوم، وبخاصة من الفئات المهددة بالانقراض – أي المسيحيين والدروز – الانتقال من توجه إلى آخر، إذ لا يمكنهم الدخول بهذا المرض المتفشي لدى السنة والشيعة، ومواجهة هذا المرض ورفضه، والتوجه نحو اتجاه وطني مغاير ومختلف، وإعادة بناء مفهوم العروبة والالتفاف حوله، وإعادة بناء المواطنة والوطنية والمواطن، والخروج من التوجه المذهبي والطائفي. فبمثل هذا التوجه يمكن انقاذ البلد، وإلا نحن متجهون إلى انهيار وتحلل يستفيد منه المشروع المذهبي والطائفي في المنطقة. يبقى، وفي ظل وجود مقاومة، يجب ان يخرج مشروعها من السياسة الداخلية ويتجه إلى إعادة بناء محور عربي على قاعدة العروبة والمواطنة.

——————————

(*) إعداد نضال داوود