هل تتعرض آثار طرابلس للإندثار؟

علا كرامة – الأنباء

لأن الآثار هي دلالة على تاريخ وثقافة المجتمع ولأنها تعبّر عن ذاكرة شعب وهويته وعن ثقافة هذا الشعب ونمط عيشه. لذا، كان الإهتمام الدائم بالآثار وحمايتها لما تشكل من كنز تاريخي وقيمة حضارية، وبالتالي فتعتبر عنصراَ مهماً في السياحة والبيئة والثقافة.

ومدينة طرابلس في شمال لبنان هذه المدينة العربية العريقة التي تختزن في عمارتها وشوارعها وقلعتها إرثاً ثقافياً مميزاً يجب الحفاظ عليه والإهتمام به لأن المصلحة الوطنية تقضي أن تحتفظ هذه المدينة العريقة بتنوعها وتعدديتها وغنى آثارها بالعيش لأنها تضم بمعالمها أسماء خالدة تؤكد عراقتها في العيش المشترك كما تضم عشرات المواقع الأثرية التي تشكل نموذجاً في العمارة التقليدية والإسلامية لأن طرابلس هي من أعرق المدن المملوكية بعد القاهرة فهي تعتبر إرثاُ ثقافياً ولبنانياً وعربياً وعالميا. وبما أن الحرب وما تعرضت له طرابلس من مشكلات وصراعات أصاب أثارها بعض التخريب والإهمال. لذا، فهي بحاجة إلى تضافر الجهود الرسمية والشعبية لرسم خطوات علمية وجدية لحماية هذه الآثار من الهجمات العقارية والتجارية التي تجتاح طرابلس كما باقي المدن أصبحت حاجة ماسة إلى استراتيجية لحماية وترميم هذه الآثار.

طرابلس2

درباس

من هنا، التقت “الأنباء” بوزير الشؤون الإجتماعية رشيد درباس الذي شرح عن سؤال حول واقع وتحديات آثار طرابلس “قبل الحرب الأهلية كانت آثار طرابلس هي مكان الحياة لسكانها وكانوا يحرصون عليها حرصهم على بيوتهم لأن الإنتماء العميق من قبل الطرابلسيين للتاريخ تجلى وعياً لقيمة هذه الآثار ولقد كانت تحافظ طرابلس على رونقها من غير جهد لأن أهلها كانوا يعتنون بها من غير تدخل من قبل الجهات المختصة، الحرب الأهلية زجزت بطرابلس في بئر عميق من النسيان والإهمال وأصيبت الديموغرافية الطرابلسية بخلل خطير نتيجة الهجرة الريفية وأصيبت أيضاً آثارها بإهمال أو حتى بتخريب قد يصل حتى إلى حد زوالها لأن الدولة نسيت هذه المدينة وتركتها لدورات العنف وللفوضى ولأن صيادي الثروات كانوا يقفزون فوق هذه الكنوز التي لا تقدر بثمن لكي يبنوا بنايات قليلة الذوق وغير مطابقة للمواصفات التراثية والحضارية والإنسانية وبهذا فإننا نجد أن هذا الأثر المملوكية الكبير معرض للتلف أو الإتلاف وذلك بأعمال قصدية حيناً وبإهمال في معظم الأحيان أو بالتخلي عنها في معظم الأحيان”.

درباس

وتابع درباس قائلاً: “أنتهز هذه المناسبة لأقول إن وزارة الثقافة التي على رأسها شاب مثقف وغيور لا بد أن تولي هذه المدينة عنايتها وأن تحرك المديرية العامة للآثار كي تشكل حملة وطنية وعربية وعالمية لإنقاذ آثار طرابلس”.

وذكر درباس إن “في الماضي تمكن رجل واحد إسمه الدكتور ثروت عكاشه (رحمه الله) وقد كان وزيراً للثقافة المصرية من إنقاذ آثار النوبة العظيمة من الغرق لدى تحويل مجرى نهر “النيل” واستنفر اليونيسكو ودول العالم لكي تنقل هذه الآثار من قاع المجرى إلى قمته، فكان هذا النقل بحد ذاته معجزةً قائمةً ومحط تقدير العالم. الآن إنقاذ آثار طرابلس لا يحتاج إلى هكذا عملية مكلفة بل يحتاج إلى الإيرادات الطيبة والعقول النيرة واستنفار الجهود المحلية والعربية والدولية لكي نحفظ كنزاً ثميناً من كنوز التاريخ ونعيد لطرابلس رونقها وجمالها ولكي يعتز لبنان أن كل بقعة منه كانت مسرحاً من مسارح التاريخ”.

وحول سؤال عن دور وزارة الشؤون تحديداً في هذا الموضوع أجاب درباس “نحن كوزارة لسنا معنيين بهذا الشأن، بقدر ما أنا وزير طرابلسي فإنني ملزم بأن أدعو بمثل هذه الحملة وأن نحاول توعية المواطنين بأهمية هذه الآثار وهذا أيضاً دور ممكن أن تقوم به وزارة التربية الوطنية لتوعية الطلاب وكذلك تقوم به وزارة الإعلام، أنا أعتقد أن كل مؤسسات الدولة يجب أن تتضافر لحماية تاريخها وتراثها”.

الشريف

وفي مقابلة خاصة مع “الأنباء” مع مستشار الرئيس نجيب ميقاتي الدكتور خلدون الشريف الذي قال إن “طرابلس هي المدينة المملوكية الثانية التي كانت موجودة في العالم بعد القاهرة. وهي عبارة عن مدينة كاملة فيها: طرقات، ومدارس، ومساجد، ومحلات وبرك وقائم، وفيها من القصور والبيوت القديمة التي تشبه الحارات، كل هذا البعد وهذه المدينة وتفاصيلها مهمة. جاء مشروع “الإرث الثقافي” ليقوم بأمرين: الأول سقف سطح نهر “أبو علي”، والثاني ترميم الواجهات فقط، والترميم لم يكن بالجودة المطلوبة”.

الشريف

وحول ما إذا تأثرت آثار طرابلس بالمعارك السياسية والمسلحة ردّ الشريف إن “آثار طرابلس هي في منطقة لم تشهد معارك كالتي حصلت في مناطق باب التبانة وجبل محسن، فهي موجودة تحت القلعة في بقعة تمتد على مساحة مدينة طرابلس كلها. أي حارات طرابلس كلها أي “باب الحديد” و”السوقية” و”النوري” و”سوق العطارين” و”سوق النحاسين” و”بركة الملاحة” و”الرفاعية” و”باب الرمل”، المدينة القديمة في طرابلس كلها بعدها قائمة وفيها أسواق: “السراي العتيقة”، “سوق العريض”، وكلها تنتمي لمدينة أثارية قديمة. وبالتالي لا يمكننا القول إن الآثار ضربت بسبب المعارك بل بسبب الإهمال التي تعرضت له خصوصاً من الدول اللبنانية المسؤولة عن إرث الوطن ككل فكيف إرث مدينة تتمتع بهذا الكم؟”.

أما عن الأسباب وراء إهمال آثار طرابلس التي تشكل صرحاً ثقافياً بامتياز أجاب الشريف إن “كان هناك إمكانيات كثيرة لاستثمار آثار طرابلس، وهنا أعني الإستثمار الحقيقي. والمشكلة أن إقتصاد لبنان يتموضع بشكل شبه كلي في العاصمة ومحيطها، وبالتالي فإن الدولة لا تفكر بإقامة أي استثمارات خارج بيروت الكبرى. أما عن السبب الآخر فهو عدم اهتمام أصحاب الملك بأملاكهم لأن الأملاك في حالة موت صاحبها يتكاثر الورثة ويصبح هناك تنازعاً عليها ومما أدى بالتالي إلى فقدان هذه الأملاك”.

طرابلس4

وعن الحلول التي يمكن اللجوء إليها من أجل الحفاظ على هذه المدينة شرح الشريف إنه “تم التصنيف هذه المناطق كمناطق تراثية، كما يجب أن يتم ترميمها حارة حارة. كما أن المنطقة بحاجة إلى سواح. كما يجب على الطبقة السياسية اللبنانية أن تدرك مسؤوليتها على كل ما يجري في لبنان وليس فقط ما يجري في مناطقها”.

وذكر الشريف بإن “أول من كان يثير المشاريع المتعلقة بطرابلس من خارج طرابلس هو الوزير وليد جنبلاط، وهذا النموذج يجب أن يعمم على الطبقة السياسية لتدرك أن أي مشكلة تحصل في طرابلس أو في أي منطقة لبنانية سينعكس حكماً على كل لبنان”.

وتابع الشريف “لذلك عليهم أن يتكاتفوا ويتحملوا مسؤولية استنهاض المناطق المهدومة والمنكوبة. كما نعلم أن طرابلس في آخر خمس سنوات الأخيرة (2011) دفعت ثمن الصراعات الإقليمية في كل لبنان عن كل اللبنانيين وبالتالي فهي تحتاج إليهم لكي يعاد استنهاضها. وقبل القانون نحن بحاجة إلى إجماع وأن يتكون لدى اللبنانيين مسؤولية عن كل ما يحصل في لبنان”.

طرابلس5

تدمري

كما حاورت “الأنباء” عضو مجلس بلدية طرابلس ورئيس لجنة الآثار والتراث فيها الدكتور خالد عمر تدمري الذي قال “لجنة الآثار والتراث هي لجنة داخل المجلس البلدي تهتم بالمواضيع التي تخص آثار طرابلس ومشاريع الترميم والتأهيل التي تقوم في المدينة بالإضافة إلى الكشف والإشراف على قمع المخالفات والتعديات والسرقات التي تتعرض لها، وذلك بالتعاون مع مصلحة الهندسة والدوائر البلدية المختصة وبالتنسيق مع المديرية العامة للآثار، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، تسعى اللجنة إلى نشر ثقافة الحفاظ على التراث والتعريف بإرث طرابلس العمراني والثقافي، وإحياء المناسبات التاريخية، وإقامة الإحتفالات والأنشطة لإحياء هذا التراث والتعريف به والتسويق السياحي، كما ودعم الجمعيات والنوادي الناشطة في هذا الإطار وعلى رأسها نادي آثار طرابلس. ونادي آثار طرابلس هو نادٍ شبابي تطوعي يقوم بالتعريف بآثار طرابلس وأهميتها وإقامة الدورات التثقيفية وتنظيم الجولات السياحية الميدانية في ربوع المدينة القديمة والميناء للزوار الأجانب والمحليين ولطلاب الجامعات والمدارس. أمّا الحملة المدنية لإنقاذ آثار وتراث طرابلس التي انطلقت منذ نحو ثلاثة أعوام، فهدفها التصدي لأعمال الهدم والتشويه والسرقة والإعتداء التي تتعرض لها أثار المدينة وأبنيتها التراثية وحاربتها إعلامياً والتنسيق مع الجهات المعنية لقمعها.

تدمري

وقال تدمري “في طرابلس وبالرغم من وجود أكبر عدد من القصور القديمة – المتهاوية حالياً – تعود ملكيتها إلى كبرى العائلات الطرابلسية، إلا أنهم تركوها لمصيرها ولا يقومون بترميمها بهدف بيعها كعقارات وأراض صالحة للبناء، وهذا دليل على فقدان الغيرة على تراث الأجداد. وعندما نقوم نحن كبلدية بمبادرات للإتيان بهبات لبعض المعالم الأثرية، فإنها تأتي مشروطة لترميم أماكن تعود للملكية العامة وليس للملكية الخاصة. لذا لا يسعنا ترميم المدينة القديمة بكاملها من خلال الهبات ويحتاج ذلك إلى خطة وتمويل من الحكومة مباشرة. وقد تمكنت البلدية خلال العهد السابق من ترميم “سوق حراج” بهبة قدمتها الحكومة الألمانية، و”سوق البازركان” بهبة من مؤسسة عصام فارس، و”حمام عزالدين” بالتعاون مع مديرية الآثار بهبة من بنك التنمية الكويتي، وخان الخياطين بهبة من الحكومة الإسبانية. كما قمنا بترميم مبنى “التكية المولوية” الذي سيستكمل بمشروع استحداث حديقة مميزة في محيطها بهبة من الحكومة التركية، هذا فضلاً عن متابعة مشروع “الإرث الثقافي” الممول بقرض من البنك الدولي والذي يشرف عليه مجلس الإنماء والإعمار، والذي مع الأسف أتت نتائجه حتى الساعة كارثية على عدة صعد، بسبب نقص في رؤيا المشروع من جهة وسوء تخطيط وتنفيذ من جهة ثانية، كانت كبرى كوارثه سقف جزء كبير من مجرى نهر أبو علي وتحويله الى سوق للبسطات الشعبية”.

وتابع تدمري: “ومنذ إنطلاق عجلة الإعمار لم تشهد مدينة طرابلس القديمة وضع أي خطة استراتيجية للنهوض بها والمحافظة عليها بسبب تقصير فاضح من الدولة ووزاراتها المعنية. وهناك نقص فاضح على مر السنين في دور وزارتي الثقافة والسياحة تجاه المدينة، إن من ناحية عدم إعطاءها حقها في الدعاية السياحية وإن بسبب انعدام التمويل وضعف العنصر البشري في المديرية العامة للآثار، التي لم تتمكن حتى الساعة من ضبط السرقات والهدم الذي تتعرض له المدينة القديمة وأبنيتها بشكل شبه يومي. والمشكلة في تأمين تمويل لمشاريع الترميم تكمن في أن القسم الأكبر من المعالم الأثرية هي إمّا أملاك خاصة أو أوقاف دينية، لذلك يتعذر على أي جهة حكومية ترميم هذا الكم الهائل من المعالم والآثار. من هنا، يأتي سعينا إلى تحصيل الدعم الخارجي من جهات مانحة دولية ومحلية، كالتي نشهد مثيلا لها في مدينة جبيل”.

طرابلس1

وقال تدمري: “حالياً ينصبّ علمنا الأساسي على رفع مستوى الوعي لدى الطرابلسيين على أهمية الحفاظ على تراثهم وآثارهم. ونقوم من خلال نادي آثار طرابلس والإحتفال بيوم طرابلس 26 نيسان من كل عام بنشر ثقافة الحفاظ على التراث في المدارس من خلال المسابقات التاريخية والجولات الميدانية التي يقوم بها النادي مع طلاب وأساتذة هذه المدارس”.

وختم تدمري قائلاً إن “هيئات المجتمع المدني في طرابلس بالتعاون مع لجنة الآثار والتراث في البلدية تقوم بالتصدي لأي مشروع تخريبي يطال إرث طرابلس العمراني أو يؤدي إلى تشويه مدينتها القديمة، كتصيدنا حالياً لمشروع “مرآب التل” الذي ينوي مجلس الإنماء والإعمار زرعه في وسط ساحة التل التاريخية مكان السراي القديمة التي هدمت من دون مبرر عام 1969، وهو مشروع ليس له جدوى ولا يدخل ضمن أي خطة استراتيجية لمتطلبات المدينة كما أي مخطط توجيهي للمدينة القديمة ومحيطها، وسيصرف عليه مبلغ قدره 24 مليون دولار من حصة طرابلس المخصصة من الحكومة، وسيستغرق بناؤه 3 سنوات في أقل تقدير سيشل خلالها الوسط التجاري ويتسبب بالكثير من المشاكل ولن يكون له أي مردود اقتصادي بعد كل ذلك، بل سيكرس الفوضى وازدحام السير وسيسبب بتشويه كبير بيئي وتنظيمي في هذا الوسط التاريخي، فبدلاً من تحويل الساحة الى مكان خال من السيارات ومخصص للمشاة وأن تنسجم الساعة ببرج ساعتها الشهير مع محيطها من المباني التاريخية المفروض إعادة توظيفها سياحيا، تماماً كما سبق وخططوا وفعلوا منذ ربع قرن في ساحة النجمة في بيروت، يسعى هذا المشروع المشبوه إلى تحويل ساحة التل – جمال عبد الناصر إلى كراج يتسع ل600 سيارة ومحطة انطلاق للتاكسيات أي شبيه بمحطة شارل الحلو المهملة والتي تحولت إلى شبه مرحاض ومكان لتجمع المتسولين والباعة الجوالين”.

طرابلس إنتماء عريق للتاريخ وفي التاريخ تحتاج إلى حملة وطنية وعربية وعالمية لإنقاذ آثارها من الإهمال.