الفوضى الدستورية ومستقبل الطائف

نشأت الحسنيّة

إن الوضع الحالي للمؤسسات الدستورية القائم ليس إلا “فوضى هدامة” وحالة تخبط عشوائية تـُنذر بخطر شديد على مستقبل الوطن وديمومة عمل النظام البرلماني الديمقراطي .

 صحيح أن الأنظمة الديمقراطية ومنها النظام المعمول به في لبنان مرّت بحالات مـُماثلة أو مـُشابهة إنما تلك الحالات لم تعمرّ طويلاً بل جرّت تسويتها للخروج من المأزق الذي أنتج تلك الحالة، والتي تبقى إستثنائية نتيجة لظروف عارضة والأمثلة كثيرة سواء في الدول ذات النظام البرلماني كما في لبنان حيث عمل الساسة رُغم التباينات في الآراء والمواقف السياسية على وضع الحلول الذي مكــّن من إعادة الحياة للمؤسسات الدستورية .

وبعد إتفاق الطائف في زمن الوصاية لم نكن لنشهد مثل هذا الفراغ نتيجة لتدخل “الوصي” الذي كان ينتج المأزق ويضع له المخارج سواء بالتهديد والوعيد أو الترغيب فتعود الأمور إلى نصابها وإن على “زعل” .

أما بعد خروج الوصي وإنحسار تأثيره المباشر وتعاظم القصور في الممارسة الديمقراطية وتغليب المصلحة الحزبية أو الشخصية على المصلحة الوطنية بتنا نعيش أزمة عميقة إستلزمت تدخلاً خارجياً لوضع تسويات كانت في أحسن أحوالها مؤشر إلى أزمات أخرى قادمة ومنها الأزمة الحالية.

وهذا يطرح السؤال هل هذه الفوضى والتخبط هي وليدة صدفة أم هي فوضى مـُدبـّرة ومـُخطط لها؟

وهل السبب في ذلك يعود إلى الإجتهاد والمـُستجد للفهم الديمقراطي لعمل المؤسسات أم لها أبعاد أخرى؟

وهل هي نتاج أزمة في النظام مفتعلة للدفع إلى الأمام لوقف تام لمسار عمل المؤسسات وبالتالي الوصول إلى مكان يصبح فيه البحث عن بدائل أمر واقعي ومقــرّ به؟

الطائف

إن المتابع لمسار الأحداث الداخلية منذ خروج الجيش السوري وصدور مواقف علنية وأخرى مسرّبة تـُفيد عن ضرورة عقد مؤتمر تأسيسي لوضع أسس جديدة للنظام السياسي بديلاً عن إتفاق الطائف بات وضعاً مـُقلقاً ومـُثيراً للمخاوف خاصة بعد أن أدّت الممارسات إلى إقامة إرتباط وثيق بين مسار الأمور الداخلية وأزمات المنطقة بحيث جرى ربط كل المسائل بالأحلاف الأقليمية وإستدراج التدخلات الخارجية مما أعطى برهاناً أن ما يجري في الداخل ليس وليد صدفة بل هو مدبر ومراد له أن يحصل خاصة وأن القوى التي تعتبر مسؤولة عن هذا المأزق الدستوري كانت بمجملها ضدّ إتفاق الطائف وقد أعلنت ذلك سراً وعلانياً.

وكثير من هذه القوى تحدثت عن تعديل يمسّ جوهر إتفاق الطائف بذريعة إعادة صلاحيات رئيس الجمهورية أو تكريس واقع جديد على مستوى توزيع الصلاحيات بما عـــُرف بالمثالثة.

 وقد وضعت تلك القوى مطالبها في خانة العيش المـُشترك والميثاق الوطني والهدف منها كما صار واضحاً هو الإنقلاب على النظام الحالي لتحقيق مكاسب حزبية أو فئوية أو مذهبية دون تحقيق مصلحة وطنية.

 وهـُنا يرى مراقبون إن الدفع بإتجاه إطالة أمدّ الفراغ الدستوري والشلل الحاصل في عمل مجلس النواب وما تعيشه الحكومة من أزمات قد تـُطيح بها عند أول إستحقاق جدّي وبخاصة التطورات السريعة التي يشهدها المحيط كل ذلك يـُنذر بخطر على الطائف وعلى الوطن برمته.

 إن إتفاق الطائف الذي جاء بعد سنوات طويلة من الحرب الأهلية المدمرة والذي خيـّط وحبك بدقة وإتقان على أساس توازن وطني وطائفي ومذهبي دقيق فإن البحث أو التفكير في إتفاق آخر بديل في ظل هذه الظروف هو خطوة في المجهول لن تكون في مصلحة أحد فالخروج من إتفاق إلى آخر في ظل صراع حاد وإنشقاق عامودي وفرقة وطنية تكون حتماً على حساب الميثاق الوطني وعلى حساب المسيحيين تحديداً وكل المكاسب الجوهرية التي حققها إتفاق الطائف وعلى الأخص موضوع المـُناصفة لم يكون في “المنال” نتيجة للتوازنات التي باتت مختلفة عن مرحلة إتفاق الطائف بحكم الواقع السياسي والديمقراطي الحالي متوازن القوى.

ويرى مراقبون أن بقاء الأزمة الدستورية طويلاً سيؤدي إلى شلل تام في عمل المؤسسات وإستمراريتها وديمومتها وسيزيد من حدّة الإنقسام القائم على قاعدة الصراع المذهبي والطائفي فدخول القوى المسيحية إلى البحث في تعديل إتفاق الطائف لن يعطيها أية مكاسب إضافية إنما وفي أحسن الأحوال سيبقى بالوضع على ما هو عليه إن لم يؤدِ إلى خسارتها المكاسب الحالية وهي التي تـُثير دائماً مسألة ضعف الوجود المسيحي في لبنان والمنطقة في ظل تعاظم قوة ونفوذ القوى الأصولية.

 وإن أي بحث في إجراء تعديلات على المستوى الدستوري سيواجه بأزمة على مستوى القوى الإسلامية التي تعيش ساحتها صراعاً محموماً وهي على أبواب فتنة تعمل جاهدة “بحوار” مـُستجد على إبعادها والتقليل من وطأتها.

 إذن الكل مأزوم والخيارات المـُتاحة هي العودة إلى إتفاق الطائف وأعطاء الفرصة لتطبيقه تطبيقاً صحيحاً وإلا دخل الجميع في نفق مـُظلم من يكون بالإمكان الخروج منه سالمين، وستكون وحدة الوطن وعروبيته مـُهددة جدياً، فمتابعة الوضع الشعبي بطبيعته العفوية التي أعادت إلى الأذهان خطابات ما قبل إتفاق الطائف من أن الحلّ هو بالكونغدرالية أو الفدرالية بعد أن شعر المواطنين بفوارق عميقة في نظرتهم إلى الوطن نتيجة لحدّة الخطابات الصادرة من التجمعات القائمة التي إنعكست إنقساماً خطراً في المجتمع اللبناني أو الدعوات الأصولية والجهادية التي ستنتج حتماً “أسلمة” للمجتمع بعد إنهيار وتشتت القوى العروبية التي هي مسلك حضاري يوحد الرؤية الدينية للمجتمع والنظام .

فهل يتمّ إنقاذ الدولة والمؤسسات وتـُعاد الأمور إلى نصابها أن يسقط الجميع في فخ الإنتماء وتستمر الهيستيريا السياسية القائمة؟

وهل من إمكانية للخروج من عنق الزجاجة وعودة الجميع إلى الدولة والوطن؟

مجريات الأحداث تقول عكس ذلك.

——————————————

(*) مفوض العدل في الحزب التقدمي الإشتراكي