فقط استراتيجية تنسيقية خلاقة في مواجهة الفوضى الخلاقة

احمد منصور

لقد كتبتُ مقالاً منذُ أربع سنوات بعنوان: “هل استقال العرب من الأرض والتاريخ؟” حلّلتُ فيهِ الوضع القائم من المحيط إلى الخليج ضمّنتهُ الكثير من توقّعاتي التي تحقّقَ معظمها بكلّ أسف والباقي على الطريق.

أن تكون حرّاً عارفاً متنقلاً في العالم العربي وأمريكا مقيماً في باريس أُمّ العلم والثقافة مدّة أربعينَ عاماً… ذاكَ يعني أنّكَ تستطيع أن تتابع التطوّرات السياسيّة بوضوح وأن تكشف المُغطّى وأن تستقرىء الآتي الغامض فأنتَ لا تخاف لأنّكَ صاحب قضيّة وما زلتَ مؤمناً بمنطقة رُغمَ ما كُتبَتْ عليها من لعنات وكوارث، مؤمناً ما زلتَ بأنْ تعود أمّةٌ صاحبة حضارة عالميّة من جديد تصطهي الشمس نحو أركان العالم الأربعة أو السّبعة.

إنَّ ثالوثاً من القوى التي لا ترحم تحيطُ بوطننا العربي تقفُ وراءها قوى عظمى: روسيا… أمريكا… وأوروبا من بحر الظلام حتّى خليج النار امتداداً نحو أفغانستان… باكستان…

إنَّ هذهِ المنطقة العربية التي تبدو تضاريسها كالنّسر تراها حاليّاً كسيحة كالبقرة التي تحزحزها الأمم الأخرى نازعةً عن أكتافها اللحمَ والعظم ومن أثدائها النفط والغاز والعسل والتي تستمتع بالحروب القبائلية الجاهويّة فيما بينها… فنار الغربِ تتساقطُ من السماء على الرؤوسِ يواكبها الأكراد أرضاً لحصد أعناق داعش والقبائل التي يحرّكها قات الأفاعي الخضراء… الإنسان لا قيمة لهُ على الإطلاق سيّما إذا كانَ عربيّاً… الجيوش العربية استُهلكتْ وأَهْلَكَتْ من المغرب إلى الجزائر فليبيا (1700 مليشيا مسلّحة) والسودان بسودانَيْه وحروبهما الأهليّة والداخلية، وغزّة واليمن وسوريا (مئات الميليشيات) والعراق والأردن ولبنان والآن الجيش المصري القوّة العربية الوحيدة القاعدة الأمل تتواثب عليها أنياب القوى المدمّرة في سينا وليبيا ومنْ يدري ما ينتظرها قريباً في أثيوبيا بسبب ” النّهضة ” وسدّها؟.

سوريا قاع صفصف.. أربع سنوات من الحرب المتواصلة. القتلى والجرحى والمعاقون أكثر من مليونين والنازحون في الدّاخل والخارج أكثر من عشرة ملايين والحبل على الجرّار…

ألفُ حَيْفٍ على حمص ودرعا وحماه وحلب ودوما وجوبر… كذلك العراق دمارٌ في دمار منذُ أكثر من ثلث قرن ناهيكَ عن اليمن في تمزّقهِ وغزّة في تدميرها و… و… و…

الإعلام العربي إعلام ماركتينغ.. تسويق.. تشويق.. إلهاء.. تسلية وتعمية والسياسيّون بمعظمهم ليتهم كانوا ساسة خيول وحمير وبغال لا ساسة دول ومجتمعات…

زد على ذلك دخول عيس الصحراء في الحلقة الجهنميّة: الأسهم والبورصات وتبخّر مئات المليارات في ساعات من الرياض إلى الكويت وفي مؤشّرات بورصات نيويورك ولندن وباريس والدوران في المتاهات مستمرّ والمصير منسيّ إلى ما لا يعلمه إلاّ الله… إنَّ لاعبي العرب بالبورصات كلاعبي الأطفال بالألعاب البلاستيكية والفرسان البدو بسيارات السّباق.

العرب على الورق عَدَداً وعُدداً قد تكون أقوى أمّة في العالم أمّا على أرض الواقع فَلَكَالْبَوّ الفارغ الذي لا يملؤه سوى الخواء…

مسرح اللامعقول.. كل شيء موجود ولا وجود لشيء على الإطلاق.. مجلس التعاون الخليجي صفر.. دول المغرب الكبير صفر.. الجامعة العربية صفر أكبر.. المجموع أصفار في أصفار. النفط فَقَدَ نصفَ سعرهِ من أشهر وقد يفقد أكثر فأكثر.. من يُقدّر ذلك سوى أرباب الصناعات الكبرى وراسمو مستقبل الشعوب الذين تجمعهم ناطحات السحّاب تحتَ سمائها فيستبدلون الأبيض بالأسود والنفط الرمليّ بالنفط الصّخريّ.. ديدنهم إشعال الحروب باستمرار وبالتناوب في العالم وليسَ في هذا خلاص الإنسان بل التخليص عليه وتشغيل معامل السلاح الذي مهمّته نهش الشعوب بالآلاف والكرّات والملايين، وحرق القمح الفائض كي لا ينقص سعره وتقطيع العجول وردمها كذلك وكذلك حرق البنّ… وحدّث ولا حرج عن إغراق السيارات الجديدة في المحيطات كي لا تتهدّد أسعار وأرباح الشركات العملاقة. والأنكى من كلّ ذلك فهي تتكلّم ليلَ .. نهار عن الديمقراطية وحقوق الإنسان ومساعدة الآخرين وتقرير المصير عن طريق إعلامها الكاسح الكاسف.. لكن رغم ذلك فالناس بدأوا يتلقّنون الحقيقة شيئاً فشيئاً مما دفعَ الغطريس الأمريكي على التساؤل: لماذا يكرهوننا؟

أنتَ تدمّر أرضي وتسبي عرضي وتجرف نفطي ودمّي بالمجّان تقريباً وأنا يجب عليّ أن أحبّك وأسبّح بحمدك… بقي على العقول أن تهاجر من الرؤوس كي يسرح اليانكيّ ويمرح دونَ رقيبٍ ودونَ تشويش ودونَ إعتراض…

لقد كان العرب في أواخر القرن التاسع عشر أكثر وعياً وتماسكاً وتمسّكاً بتراثهم الحضاري.. وها نحن نصل إلى القرن الواحد والعشرين فكأنّنا لا نتعلّم سوى الجهل والتخلّف وصناعة النفاق والغدر مما أعطى الفرصة لظهور تيارات وحركات عنيفة كرد فعل على العقل الأمريكي والإسرائيلي والعربي الحاكم في دولهِ العشرين ونيّف… غوانتنامو من نوع ٍآخر إنّما ذاتَ اللون الواحد، والفرق هو المرافقة بالسّكين… تتصوّر دول الخليج القابضة على مئات المليارات الدّولاريّة أنَّ مجلس الأمن موظّف عندها تشتريه لتنفيذ ” البند السابع ” بصدد اليمن… ولم تتعلّم هذه الدول حتّى الآن أنَّ الدول شركات ومصالح فلا مكان للمبادىء والقيم والأخلاق وأنَّ حالة الكويت في القرن الماضي كانت متميّزة وراءها مئات المليارات التي اختطفتها الأيدي الأمريكية المتحفّزة. وابتلعَ صندوقَ الأجيال وملياراته عاصفةُ الصحراء.

إنَّ العرب لم يفهموا حتّى الآن أنَّ الدول العظمى لا تنام كي تكرّس سيطرتها على العالم بمختلف الوسائل عن طريق مراكز أبحاثها وأساطيلها البحريّة والجويّة وجيوشها الجرّارة وطوابيرها الخامسة وأنَّ البشرية ما زالت تعيش عيشة الأسماك في المحيط حيثُ الكبير يبتلع الصّغير.

العالم العربيّ كلهُ بحاجة إلى إطلاق انتفاضة عقلانيّة ماديّة كبرى مستمرّة حول مصر قلب الدائرة العربيّة الإسلاميّة الآسيو- إفريقيّة.. العالم العربي بحاجة إلى استنفار مثقّفيه وأصحاب المال فيه فالأرض معرّضة إلى الزلازل التي تلتهمنا فيها شقوقها وأنيابها…

ليست القواعد الأمريكية والفرنسية والروسية هي التي ستحمينا كأنَّ ثلاثة أو خمسة آلاف سنة ليست أمام عيوننا وكأنَّ التاريخ بدأ اليوم والتاريخ ممحوّ بأسيد النسيان…

إنَّ الإستعمار الجديد كالسّرطان الذي يقضمنا شيئاً فشيئاً تاركينهُ على راحتهِ مستسلمينَ لقدريّة الأزمان.

كيف الخروج من الأنفاق المسدودة؟

المشكلة ليست مشكلة فقط بلْ هي معضلة. فالأنظمة ربّعتها القبائل والدول والمذاهب والداخل في الخارج والخارج في الدّاخل. إنّها ذهنيّاً تعيش في عصر والعالم في عصرٍ آخر والأنظمة تذبحها امتيازاتها والشعوب يذبحها الفقر والعسكرة والاستشهاد العابث والحكّام القرو- وسطيّون. المسألة الآن هي استعادة الروح والعودة إلى الأصالة إلى الإنسان إلى فطرة العطاء وعطاء الفطرة… إلى التسابق نحو الالتفاف فالأرض مهدّدة بالتشقق والتقطيع والخسوف، والثروات مهدّدة بالنضوب أو الاحتراق أو الاستيلاء (مَنْ يمنع ) كأنّنا عشنا وحدنا الحرب العالمية الثالثة التي لم تحصل، فوضعنا كوضع ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية… لكنّ روح الشعب الألماني كانت تصرخ من خلال الأنقاض والركام: لقد هُزِمت ألمانيا ولكنها لم تمت وسنعيد بناءها من جديد أفضل مما كانت. وهكذا كان. فألمانيا اليوم هي الدولة السادسة في مجلس الأمن مجلس الخمسة زائد واحد الذي هو ألمانيا المنتصرة اقتصادياً على أوروبا وأمريكا والتي تمثّل صدر الاتحاد الأوروبيّ والقوة الاقتصادية الثانية أو الثالثة في العالم…

لماذا لا نأخذ العبرة من التاريخ ولنعد إلى التاريخ: بولونيا تقاسمتها دول الجوار الأقوى ثلاث مرّات وامّحت عن الوجود.. الدول مصالح دائمة، والقيم فقط في الكلام على الهواء والورق.

تصريحات أميركية خطيرة

الحرب مع داعش ستستغرق ثلاث سنوات حسب إجتماع 65 دولة، ناهيكَ عن اجتماع القادة العسكريين في الرياض 26 دولة بينها الولايات المتحدة. هلْ أصبحت داعش من حيث القوّة في كفّةٍ والعالم في كفّةٍ أخرى؟ هل أصبحت في منزلة دول المحور في الحرب العالمية الثانية؟ كيفَ ستغدو المنطقة بعد ثلاث سنوات وكيف ستتمخّض الأوضاع في دول الخليج هل ستبقى كما هي وهي واقفةٌ على براكين اليمن؟ هل الطاقةُ الأرهابيةُ من داخل سوريا والعراق والعناصر التي صدّرتها أوروبا والغرب عموماً – كي تتخلّص منها والتي يُمنع عليها العودة – ستكتفي بهزيمتها والقضاء عليها بمنتهى البساطة؟ أمْ سنشهد مفاجآت لا نستطيع تصوّرها سلفاً كما لم نتصوّر بروز داعش الصاعق الضاغط كقوة ٍعسكريّة بقدرة قادر؟

أسئلةٌ كثيرةٌ يعرف أجوبتها من رسموا الأحداث. هذهِ الفوضى الخلاقة التي أرادتها أمريكا هلْ هي بمجرد الإستعراض أم لتفريغ المنطقة من طاقاتها البشريّة الخلاقة في صراعاتٍ إيديولوجيةٍ عبثيةٍ لا تأتي لا على البال ولا على الخاطر؟

لماذا لا نُعرّب الحرب في العراق وسوريا وليبيا؟

إنَّ الغربيّ لا يتدخل ويفقد أبناءه لسواد أعيننا بلْ إنّهُ يتناول ثمناً باهظاً لذلك بطريقةٍ أو بأخرى. بعدَ أن طردناه بقوّة السلاح من أقطارنا ها نحن نتوسّله العودة إليها. إنّهُ منطقٌ في منتهى الخطورة والإستسلام والإرتهان سيجثمُ عبرَ عقودٍ بلْ قرونٍ قادمة. كي نتجنب هذه ِالمهاوي الكارثية لماذا لا تتشكّل كحدٍ أدنى جبهة من مصر والسعودية والسودان ومن يستطيع من دول الخليج وسواها. أضف إلى ذلكَ إعطاء الفرصة إلى متطوعين من العالم العربي. إنَّ ذلكَ يستلزمُ خلق مجلس إنقاذ وميثاق ٍمشترك غايتهُ أولاً تخليص أقطارنا من الأشداق التي تتقاذفها وتتربّصُ بها. على ضوء النتائج ننتقل إلى مستوى آخر من التعاون. إنَّ العرب مغيّبون عن ساحتهم التي يتحرك عليها فقط أقوياء الجوار وأقوياء ما وراء البحار.

العرب الذين أسسوا “الجامعة العربية” قبل “جمعية الأمم المتحدة” كما تعاقدوا على “الدفاع العربي المشترك” و”السوق العربية المشتركة” لا تنقصهم الأدمغة بلْ الإرادة والإستجابة للمسؤولية.

إنّهم مهدّدون خاصةً في السودان ومصر بالعطش والجوع بعدَ إنجاز الحبشة ” لسدّ النهضة ” التي أنجزت قسماً هامّاً منه ولن يوقفها عندَ حدّها سوى ردّ الفعل المصري السوداني العسكري الرّادع.

إنَّ الأدمغةَ العربية المتناثرة في العالم أجمع لقادرةٌ – فيما إذا استُخْدمت – على خلق قوة ٍلا يستهان بها في المنطقة. فلماذا نستمر في تجاهل هذا الرأسمال الذي يوازي تريليونات من الدولارات الموظّفة في أمريكا والغرب.

في تقديراتٍ حديثة: سوريا بحاجةٍ إلى 365 مليار دولار كي تعود كما كانت. والعراق كم سيكلّف وكذلك ليبيا والصومال ألخ… معنى ذلك – بعدَ إنتهاء الحرب – ستصبح المنطقة ورشات عمل للشركات الأمريكية والغربية. والمواد الأوليّة عندنا ستصبح رهينة. وهكذا سينبعثُ الإقتصاد الأمريكي من جديد، وتخفّ ديون أكبر دولة مدينة في العالم لتعود في تشديد قبضتها على العالم.

إنَّ رهابة المصير تستصرخ ما تبقى من الهمم العربية وأصحاب الضمائر أن يدافعوا عن مواطىء أقدامهم وكراماتهم وإلاّ سيعودونَ على جبهاتهم نحو العبودية.

فلنبدأ إذاً من الصفر ديمقراطيين وغير ديمقراطيين للحفاظ على ما تبقى: مأساة الأسكندرون ليست بعيدة وكذلك ضياع عربستان وفلسطين وجنوب السودان.

فقط البداية في التنسيق، والتجربةُ كفيلةٌ بإستيلاد الخطط القادمة. لماذا لا يخلقونَ صناعة عسكرية مقرّها في مصر (ومراكز أبحاث رديفة) تشتري منها الجيوش العربية وهكذا يتوحّد السلاح العربيّ.

لماذا لا يخلقون جيشاً عربيّاً تحتَ قيادة الجامعة العربية؟ لماذا لا يترجمون السوق العربية المشتركة على الأرض والدفاع العربيّ المشترك.

إنَّ نظرية كونداليزا رايس: ” الفوضى الخلاّقة ” التي طرحتها عام 2005 هي في أحلى حالتها: مجتمعات عربية تتمزّق في ما بينها. دول تزول دول تقوم. دول تستغيث مستعمرها السابق. فوضى هدّامة بالنسبة لأبنائها وخلاّقة بالنسبة للدول الأخرى. لأنَّ دمارنا يعني عمارهم وفقرنا غناهم. إنَّ الدمّار يصول ويجول في المجتمعات العربية والإسلامية وكأنّنا لا نُحِسْ ولا نشعُر ولا نرى أنَّ الأرض بدأت تنخسفُ من تحتِ أقدامنا.

إنَّ الرّد على الفوضى التي تعني التدمير والتبوير يتجسّد بالتوحّد المتصاعد المرصوص حفاظاً على الأرض والشعب والرّد على الخلاّقة خلاّقة الفرص والغنى والأزدهار على ظهر تهنيدنا الأحمر لن يكون سوى بالوعي للحفاظ على الأجيال والثروات والتراث.

إنَّ المرحلةَ تستوجب الأنتقال من عالم الجاه والغرائز إلى عالم العقول المسئول.

قالت غولدا مائير بعدَ أنْ أحرقوا المسجد الأقصى: ” لم أنم طيلة الليل خوفاً من طوفان الجماهير العربية حولنا للقضاء علينا ولكن عندما طلعَ الصباح ولم يظهر أي شيء أيقنت أنَّ الأمّة العربية نائمةٌ فنمت “.

————————————

(*) ملاحظة: المقال كُتِبَ قبلَ عاصفة الحزم بأيام