الإنفلاش السياسي والاختناق السياسي

د. ناصر زيدان

عندما تَكبُرُ دودة الحرير تخرج من خطيرة رفاقها وتبدأ بصناعة بيتٍ يحميها، وهي لا تعرف ان هذا البيت “الشرنقة” يخنقها، وتموت فيه لأنها تفتقد الى الضوء والهواء في الوقت الذي تكتمل فيه جدران الشرنقة وتنعزل عن العالم الخارجي.

ربما اختناق دودة الحرير سرٌ من اسرار الخالق، ولكنه في الوقت ذاته عبرةٌ يمكن الاستفادة منها في واقع الحال، او على المستوى السياسي، وفي العلاقات بين المجموعات والدول. ذلك ان الاعتبارات التي تؤدي الى العزلة لمجموعات، او لدول، تؤدي الى الموت البطيء، لا سيما عندما تكون هذه المجموعات، او الدول، تشعر بأن حجمها كَبُرَ، وهي بحاجةٍ لبناء جدران يحميها من مؤثرات العوامل الخارجية، مما قد يؤدي الى بداية النهاية.

في التاريخ البعيد والقريب الكثير من الامثال والعبر، يمكن ان تُوضع في خانة الانفلاش السياسي ومن ثمَّ الاختناق السياسي الذي ادى الى موت العديد من الدول، او الاحزاب. فتجربة ادولف هتلر الانعزالية في المانيا بين العام 1933 والعام 1953، قضت عليه ودمَّرت البلاد، والحقت اضراراً لا تُحصى بحق البشرية. اما المُكابرة العقائدية الحديدية التي بناها جوزيف ستالين في الاتحاد السوفياتي السابق، فقد دمَّرت ذاتها، بالرغم من تسجيلها لإنجازات هامة، في المُقدمة منها المُساهمة الفاعلة في القضاء على المُغامرة الفاشية لهتلر.

امَّا الصهيونية فمهما علا شأن غطرستها المالية والعسكرية، ومهما توسَّعت حلقة تأثيرها على دوائر القرار في الدول الكُبرى- خصوصاً على السياسة الخارجية للولايات المُتحدة الاميركية – فهي حالة انعزالية عنصرية فريدة، مُقفلة على ذاتها عقائدياً وسياسياً، وربما تكون اليوم في الزمن الذي وصل حجم تأثيرها الى اقصاه، وبالتالي قد تكون على مشارف صناعة الشرنقة لحماية نفسها في “اسرائيل” والتي حُكماً ستؤدي الى موتها اختناقاً، لأن التاريخ يُعيدُ نفسه، والعدوان والغرور مهبطٌ لكلِ من ارتضاه سبيلاً. والامثلة تكثُر حول حالات المبالغة السياسية والاعتداد بالذات القومية، او الوطنية، او العرقية، او الدينية، والنتيجة كانت واحدة. لكل بداية نهاية، وكل صعودٍ سريع يقابله هبوطٌ سريع.

المبالغات السياسية، او الاندفاعات العسكرية، لدول، او ميليشات، في المنطقة العربية، يمكن وضعها في ذات الخانة من التهوُّر الذي سيؤدي حُكماً الى نهايات تدميرية، تطال هذه الدول والميليشيات بالدرجة الاولى.

فداعش بالغت في ممارسة الارهاب، وارتكبت الفظائع بحق الافراد والمجموعات، ودَّمرت شواهد تاريخ جزء من منطقة هامة من العالم – عنيتُ بلاد مابين النهرين – وهي لم تراع المشاعر القومية والدينية للمحيط وللسكان المتواجدين في مناطق نفوذها، وهي إذَّاك امام مصيرٍ مشابهٍ للتجارب التي سبقتها، وبالتالي فموتها المُحتَّم قريبٌ لا محالة.

والميليشيات التي كبَّرت من حجمِ دورها، وتجاوزت حدود بلدانها، وهي تشعُر انها اقوى من الدول، ارى انها تسيرُ على طريقٍ سيؤدي الى الهاوية، وبالتالي الى الاختناق السياسي، او الموت العسكري.

يمكن تسجيل ملاحظات مُتعدِدة في خانة ممارسات جماعة “انصار الله” الحوثية في اليمن، وعند ميليشيات ” ابو فضل العباس” العراقية، وغيرهم. ذلك ان اندفاعة هذه المجموعات الى القيام بمهامٍ يتجاوز حجمها، فيه شيءٌ من التهوُّر الذي يصنعُ الاختناق، او الموت في نهاية المطاف، ولن تنفعهم الدولة الاقليمية الكبرى التي تقف وراءهم، لأن هذه الدولة ذاتها معرَّضة للأختناق اذا ما استمرَّت في طريق المكابرة السياسية، والانفلاش العسكري الواسع الذي وصل الى حد المسّ بالجيوبوليتيك القائم منذ زمنٍ طويل في المنطقة، وخصوصا في اليمن.

لا يمكن تغيير واقع الامور في العراق، وفقاً لما يرى بعض المغامرين، والتعاون الذي حصل في مواجهة “داعش” لا يجوز اجهاضه بمجموعة من التصريحات الغريبة التي تًعبر عن شيء من الغرور السياسي، ليس له مكان في الحسابات المنطقية، او الواقعية للدول، او لمقاربات القانون الدولي الذي لا يمكن مسحه بالسهولة التي يتصورها البعض.

اما في سوريا، فهل يمكن تصور استقرار معادلات فيها من الهيمنة والاستفراد، اكثر مما كان عليه الوضع قبل 11مارس/آذار 2011، مع تدخلاتٍ خارجية لميليشيات ليست سورية. فتلك مقاربة لا يمكن ان تعيش، وهي تصنع نهايتها بأيديها، وبإمكان هذه المُقاربة ان تُطيلُ عمر سيناريو القتل القائم، ولكنها لا يمكن ان تصنع الاستقرار.

اما اعتبار امن لبنان من امن ايران، وفقاً لتصريح وزير التقافة الايراني علي جنتي، فهو انفلاش سياسي لا يمكن تبريره، ذلك ان الود مفقود الى حدودٍ بعيدة بين مرجعية جنتي، وبين شرائح واسعة من اللبنانيين. وبدل ان يقرِّب التصريح المسافات بين البلدين، فقد ساهم بتوسيعها.
وقد بلغ الانفلاش السياسي في اليمن حدوداً تجاوزت كل التوقعات، ووضع قوى متعددة في المنطقة، اضافة الى اغلبية الشعب اليمني امام مأزق لا يمكن السكوت امامه، وقد تندرج البلاد الى منزلقاتٍ خطيرة، ولن تكون نهايتها في صالح المُغامرين.

الانفلاش السياسي مقاربة خطيرة، مصيرها حُكماً الاختناق.

اقرأ أيضاً بقلم د. ناصر زيدان

قبل أن يسقط الهيكل

عن الصراعات المُخيفة بين سواحل البحر الاسود وشواطىء البحر المتوسط الشرقية

تحوُّل كبير في السياسة الصينية نحو الشرق الاوسط

مصاعب سياسية وإقتصادية تواجه روسيا

مؤشرات على إندفاعة جديدة لجامعة الدول العربية

كلفة اقتصادية خيالية لإسقاط “السوخوي” الروسية من قبل المقاتلات التركية

تحديات التنمية العربية لما بعد العام 2015

هل تُهدِّد الاضطرابات الأمنية التغلغُل الصيني الواسع في أفريقيا؟

الحكومة الأفغانية عالقة بين طالبان وداعش والافيون والسياسة الاميركية

التواطؤ الأميركي وإنتفاضة القُدس الثالثة

تغييرات كبيرة في نسق العلاقات الدولية على وقع المآسي الانسانية

عن مخاطر الحسابات الروسية الجديدة في سوريا!

عودة هادي إلى عدن وتقلُّص الإنفلاش الإيراني

تحولات كبيرة في الموقف الروسي تجاه الأزمة السورية

معالم تراجع في أخلاقيات النظام الدولي!

هل يلاحق القضاء البريطاني نتنياهو اثناء زيارته الى لندن؟

عن المسؤولية الجنائية لقادة العدو الإسرائيلي في إحراق الطفل دواشنة

ايران: مصلحة الدولة ومصلحة النظام

عن تآمر “إسرائيل” والنظام السوري على العرب الدروز!

سِباق بين عصا البشير والمحكمة الدولية من جنوب افريقيا الى السودان