كيف يصبح تعليمنا العالي أعلى؟ / بقلم غسان سلامه

لو نظرنا في أحوال جامعاتنا العربية، لذهلنا للفورة الهائلة التي تعصف بها. ففي خلال نحو نصف قرن من الزمن، تضاعف عددها مرات عديدة بحيث لا يكاد يمر أسبوع واحد من دون أن يسمع واحدنا بمشروع جامعة جديدة هنا او هناك من بلدان العرب. هكذا نتصدى للتحدي الأول الذي يواجهنا، وهو الزيادة الهائلة في عدد طالبي التعليم العالي داخل مجتمعاتنا. والحقيقة، أننا جزء من تيار واسع. اذ يشهد العالم زيادة هائلة في عدد طلاب التعليم العالي، وهو ارتفع من 100 مليون في مطلع القرن الحالي الى 220 مليون هذا العام. ويرتفع عدد الجامعات بالتوازي مع زيادة الطلب كما في عالمنا العربي، حيث كانت الجامعات تعدّ فيه، ومنذ أقل من قرن، على أصابع اليد الواحدة، فيما بات لدينا اليوم أكثر من 500 جامعة، والمجال مفتوح لإنشاء أضعاف هذا العدد. فإن اعتبرنا ان سكان العالم العربي يقاربون سكان الولايات المتحدة برقم يزيد على 300 مليون نسمة، فإن عدد جامعاتنا لا يمثل اليوم إلا 15 في المئة من عددها في الولايات المتحدة، ما يعني نظرياً أن تزايد الجامعات العربية قد يجعل عددها يوماً سبعة اضعاف ما هي عليه اليوم. وإنْ صعُب علينا تصوّر حصول ذلك في القريب المنظور، فعلينا على الأقل أن نعترف بأن طفرة الجامعات الجديدة التي نشهدها منذ نحو عقدين ما زالت في خضمها، ما يعني إن استمرت الوتيرة على ما هي عليه، فثمة إمكانية لوجود نحو ألف جامعة عربية خلال عقد من الزمن.

لكن كل طفرة تعني في جوهرها التوالد المتسارع وربما المتسرّع، بينما تحتاج الجامعات في طبيعتها لقدر مديد من الزمن كي تتأصل وتتطور. من هنا تلمسنا لعدد من المثالب المصاحبة لأي تطور مجتمعي بالغ السرعة وغير متدرج، كمثل إنشاء الجامعات بمجرد العدوى أو التماثل السطحي او نتيجة صدور قرار سياسي فوقي بتوزيع الجامعات على عدد المحافظات او على عدد المدن الكبرى، كي لا تعتب أي منها على صاحب القرار، او جراء ولوج المتمولين الى قطاعنا بهدف توظيف فتات من الريع وصل لأيديهم. لا أعترض طبعاً على إنشاء جامعات جديدة، وارى ان عالمنا العربي يحتاج فعلا للمزيد منها. كما لا أقصد ان عراقة الجامعات ضمانة أكيدة لجودتها، وفي العالم اليوم أكثر من مثال لجامعات قديمة تسلل اليها التكلس فتدهورت سمعتها وتأخر ترتيبها. ولكني أرى ان نتمهل بعض الشيء قبل الشروع في إنشاء جامعات جديدة فلا نتوقف تماماً، لا سيما وان الحاجة ما زالت قائمة لمؤسسات جديدة، وانما ان نعطي الأولوية لمعالجة المثالب التي رافقت الطفرة الأخيرة، وأن نهتم بالتأكد من متانة الشهادات التي نسلمها، قبل أن نمنح المزيد منها وان ندخل مزيداً من التنوع في طبيعة الجامعات التي نؤسسها، بدلاً من تكرار إنشاء نموذج شبه واحد منها.

تحملني ضرورة هذه المعالجة تلقائياً للتحدي الثاني الذي يواجهنا، وهو الثورة الهائلة المتعددة الأبعاد والعظيمة النتائج، أي الثورة الرقمية التي تفجّرت منذ ربع قرن وما انفكت تتسارع وتيرتها منذ ذلك الحين. ولو شئت التبسيط، لقلت أن الأنظار كانت مركّزة خلال العقدين الأولين من هذه الثورة على منتجاتها في مجال التواصل من هواتف ذكية ونقل تلفزيوني مباشر ومراسلة الكترونية وتفاعل عبر القارات. وأصبنا جميعاً بالذهول وما زلنا أمام تواصل هو، في كل يوم يمر، أفضل وأسرع وأقل كلفة. ثم انتقل الاهتمام الى تأثير تلك الثورة على الاقتصاد، أن من خلال التجارة الإلكترونية او من خلال إعادة توزيع مراكز الإنتاج الصناعي على أصقاع الكرة الأرضية. بكلمة، بقي التعليم الجامعي الى حد كبير خارج هذه الثورة باستثناءات محدودة مثل مكننة المكتبات أو التقدم بطلبات التسجيل الكترونياً. ولكن من شأن الثورة الرقمية التي بتنا في خضمها التأثير العميق على طرق قيام الجامعات بوظيفتها، وعلى أسس إنتاج المعرفة وتعميمها كما على أولويات الجامعات الجديدة التي ستنشأ، ناهيك عن التعديل الجذري الذي تحدثه هذه الثورة في سوق العمل، مما له تداعيات كبيرة على ماهية المجالات والمواد التعليمية وبالأخص على سبل تدريسها.

ذلك أن الأثر الأوضح لهذه الثورة هو شيوع التعليم عن بُعد لاسيما من خلال الـ «إي لرنينغ» والـ «موك». وليس الـ «موك» برأيي موضة عابرة، بل بات جزءاً مهماً ومتزايداً من التعليم العالي. وقد أطلقت جامعة «يال» هذه السنة برنامجاً للدراسات الطبية بعدد الساعات ورسوم التسجيل نفسها، مع شرط التواجد الجزئي في مختبرات الجامعة. ويعني هذا أن إحدى أقدم وأبرز الجامعات في العالم قد وصلت الى حد إنتاج الأطباء من خلال تعليمهم عن بُعد.

لكن ثمة إشكاليات متأتية عن شيوع هذه التقنية، فهناك مسألة التأكد من هوية الطلاب عند إعطاء العلامات، ومسألة الحد الأدنى الضروري من تواجد الطلاب المتعلمين عن بُعد في الحرم الجامعي، ومسألة إشراك الأساتذة في العائدات المتأتية من دروسهم المسجلة، ومسألة السماح للطلاب بشراء دروس «موك» من جامعات غير تلك التي تسجلوا فيها، ناهيك عن التسرب الخطير في عدد الطلاب كما هي الحال مع «كورسيرا»، اكبر شركات الـ «موك»، ولديها 22 مليون مسجل، ولكن 5 الى 7 في المئة فقط منهم يتابعون التعلم حتى النهاية.

ورب قائل بأننا نواجه مشاكل متمادية في نوعية تعليمنا. فما لنا ولكل تلك الاختراعات الجديدة التي تزيد من التهديدات لجودة ما نقدّم؟ هكذا نصل للتحدي الثالث، وهو تحدي رفع النوعية كجهد مستدام. ندرك جميعاً المعايير القابلة للجدل التي يلجأ اليها اصحاب التصنيفات من امثال «شانغهاي» و «التايمز» وغيرها، لكن ثمة معطى بات ثابتاً أمام أعيننا، وهو غياب شبه عمومي للجامعات العربية عن المراكز الألف الأولى في كل هذه التصنيفات. لا تسمح لنا إذاً احقية انتقادنا للمعايير بتجاهل ما يعنيه ذلك الغياب عن لوائح التصنيفات العالمية، لا بالنسبة لصورة تعليمنا العالي الخارجية فحسب، بل في إشـــــــارته المضمرة لواقعــنا الجامعيـــ اولاً واساساً.

وأرى أننا انتقلنا من حقبة أولى تميّزت بمستوى عالٍ من النخبوية، كان فيها التعليم الجامعي مقاداً من نخبة المجتمع والى حد بعيد حكراً على أبناء تلك النخبة، الى حقبة ثانية فتح المجال فيها مبدئياً امام جميع شرائح المجتمع للتعلم. وكان هذا الانتقال طبيعيا الا ان نوعا من الالتباس صاحبه. ودخلنا اليوم في مرحلة جديدة ينبغي علينا فيها رفع ذلك الالتباس. فالسعي المشروع، بل والضروري، لديموقراطية التعليم، لا ينبغي خلطه مع استسهال إعطاء الشهادات لمن لا يستحقها بالضرورة، تحت شعار كسر احتكار النخبة الحاكمة لها. الالتباس هنا هو في طبيعة تلك النخبة، ويقيني ان النخبة العلمية في أي مجتمع تتكون من أفراد ليسوا أعضاء، او هم ليسوا بالضرورة أعضاء، في النخبة السياسية او الاقتصادية المهيمنة. ومن دواعي القلق خلطنا شبه التلقائي بين أنواع النخب او رفضنا في المطلق لمجرد وجود نخب في مجتمعاتنا. فالتعمّق في المعرفة والعلم والتفكر ينشئ بصورة طبيعية فئة مميزة من الناس، ينبع تميّزهم من دورهم في إنتاج المعرفة. وأرى من الديماغوجية الا نعترف بهذه السيرورة، او ألاّ نقبل بها فهي ضمانة لجودة تلك المعرفة.

لكن اعترافنا بوجود بل بضرورة نخبة معرفية متميّزة عن النخب الحاكمة في مجال المال او السياسة، يفرض بالمقابل على تلك النخبة واجبات، أهمها ان تعمل هي الأخرى لتعميق تمايزها عن النخب الأخرى بوصفها نخبة معرفية لا سلطوية، تستمدّ شرعيتها من إسهامها في صنع المعرفة، لا من وجاهة مجتمعية او من إسقاطات مالية او من محاولة توظيف موقعها المعرفي في المجال السياسي او من نجومية إعلامية مسطّحة.

واعتقد أيضاً ان الوقت قد حان لمزيد من التنويع في جامعاتنا التي تتشابه أكثر مما يقتضيه أمر رفع مستوى التعليم. لقد بات وضع بلداننا الدوني في كل هذه المجالات معروفاً وحان الوقت للخروج من التوصيف او من الانتحاب الى البحث الجدي عن مفتاح الخروج من هذه الحالة الدونية. ويقيني أن احد المفاتيح هو في إنشاء جامعات بحثية يكون البحث العلمي فيها بأهمية التعليم نفسها، إن لم يكن أكبر، ينتمي اليها الأكاديميون الذين يفضلون التركيز على البحث لا على التعليم، بينما توازيها جامعات من فئة ثانية تركز عملها على التكوين الأساسي للطالب في سنواته الجامعية الأولى، وفئة ثالثة تأخذ على عاتقها التهيئة لمهن تتطلب تعلماً جامعياً لا يشترط مستوى متقدماً من البحث. وأرى أن نشجع الجامعات القائمة على تحديد أوضح لشخصيتها وأن نطالب أصحاب كل مشروع جامعي جديد بمزيد من التحديد للفئة التي ستنتمي اليها جامعته العتيدة.
تحملنا هذه الدعوة لتنوع أوضح في هوية جامعاتنا للتحدي الرابع الذي لا يواجهنا فحسب، بل بات مثاراً للجدل العارم عبر العالم وهو: ماذا ندرّس؟ لننظر من حولنا فنلمس لمس اليد عشرات الآلاف من أبنائنا من خريجي الجامعات، بل من حملة الدكتوراه وهم في حال من البطالة او من مزاولة أعمال دون تلك التي هيأتهم الجامعة مبدئياً لممارستها.

ماذا نقول لحملة الشهادات الجامعية العاطلين عن العمل، وهم باتوا اليوم يشكلون نحو ثلث أعداد المتخرجين العرب؟ هل نقول لهم «على نفسها جنت براقش»، فأنتم اخترتم التعلم الجامعي وأنتم اخترتم مجال تخصصكم، فما لنا ولكم إنْ لم تحصلوا بعده على وظيفة؟

لا يكاد يمر يوم من دون صدور كتاب جديد او مقالة للبكاء على أطلال جامعة الأمس، التي كانت تهتم بإنتاج الفكر لا بتسهيل ممارسة مهنة. ينتقد وليام درسويتش، في كتابه الصادر حديثاً، جامعات اميركية باتت تختار اساتذتها وتحدد مرتباتهم لإسهامهم في البحوث المتقدمة، بينما تتجاهل تماماً دورهم في التدريس، ويأخذ عليها أيضاً تهميشها للدراسات الإنسانية التي غادرها اكثر من نصف مرتاديها بينما ارتفع طلاب الـ «بزنس» من 14 الى 22 في المئة من الطلاب. أما مارينا ورنر، وهي أيضاً استاذة في الآداب فقد كتبت في العدد الأخير من الـ «لندن ريفيو اوف بوكس» مقالة طويلة تبكي فيها التعليم في بريطانيا، الذي ذهب بعيداً في التحضير لمهن، ونسي تكوين الشباب ثقافياً، لدرجة أن وقت الأكاديميين الأكبر بات مخصصاً لكتابة طلبات تمويل البحث وتعبئة البيانات الضرورية لرفع تصنيف الجامعة وتحرير التقارير الاستشارية لأرباب المال والصناعة.

نحاول جميعاً وقدر إمكاننا التوفيق بين وظيفة الجامعة كمنتج للمعرفة وكناقل لها، وبين مسؤوليتنا تجاه مجتمعاتنا، ونحاول بالتالي المواءمة (وما أصعبها!) بين دورنا في بنيان الأجيال الصاعدة الثقافي، وبين تفكرنا بالبطالة التي قد تطالهم. وقد يجد المدافعون عن التعليم كمجرد وسيلة للتدريب على مهنة سنداً غير متوقع لهم عند ابن خلدون نفسه، الذي دعا للتركيز على المقصد المهني وعدم الإفاضة في تلك المواد التي لم يكن يرى فيها الا أدوات لتحصيل العلم، ولا ينبغي بالتالي أن تشكل هدفاً بذاتها «مثل العربية والمنطق وأمثالها، فلا ينبغي ان ينظر فيها الا من حيث هي آلة لذلك الغير فقط ولا يوسّع فيها الكلام ولا تفرّع المسائل لأن ذلك مخرج لها عن المقصود وصار الاشتغال بها لغواً، وربما يكون ذلك عائقاً عن تحصيل العلوم المقصودة بالذات». ويســـــأل صاحب المقدمة: «فإذا قضوا العمر في تحصيل الوسائل، فمتى يظفرون بالمقاصد؟».

ليس من سؤال أكثر إلحاحاً علينا اليوم. يدفعنا اعتبار وظيفة الجامعة الأولى في إنتاج المعرفة الى خيارات في المناهج والمواد والوسائل، تغلّب بالضرورة دراسة الفلسفة والفكر والتاريخ والعلوم الاجتماعية والإنسانية، كما تدفعنا الى تعميم التدريس من خلال الحوار المباشر بين المدرس والطالب، للتأكد من تفتح ذهنه على الفكر النقدي ومن إطلاعه الحقيقي على مختلف الدراسات التي تتناول الوجود الإنساني. بينما يدفعنا الشعور بالمسؤولية تجاه مستقبل طلابنا المهني الى التفاهم ضمنياً مع مَن قد يتيح لهم يوماً فرصة عمل حول المواد التي يراها ضرورية، وحول المهارات العملية التي يعتبرها أساسية، لتكوينهم المهني.

اما الخروج من الجدل الحاد في هذا المجال، فيكون برأيي بعدد من الإجراءات التي باتت ضرورية لاسيما في عالمنا العربي، واولاها ما ذكرته سابقاً عن تعزيز هوية الجامعات العربية كي يلمس المتقدم اليها فعلاً ما ستقدمه له، ويختار بين تلك التي تؤهله للتفكر والبحث وتلك التي تؤمن له مستقبلاً مهنياً افضل. اما الإجراء الثاني فهو في قرارنا الجماعي الصعب، انما برأيي الضروري بتغيير جذري في وتيرة التعليم الجامعي، إذ اننا نعلم جميعاً ان الفتى الحاصل لتوّه على الشهادة الثانوية وهو في السابعة عشرة او الثامنة عشرة من عمره، لا يعلم في الإجمال ماذا يريد. علينا بالتالي الاّ نرغمه على قرارات ملزمة قد يمضي عمره بالندم عليها. ويعني هذا عملياً ان نغيّر التشريعات لتبقى صلاحية الشهادة الثانوية كمعبر للجامعة قائمة لفترة طويلة، ويعني أيضاً ان نهتم بتكوين عام للطالب في سنواته الثلاث الأولى في الجامعة، فلا يختار تخصصه العلمي او المهني الا بعد انتهائها. ويعني ذلك أيضاً ان نشجع الطلاب على عدم متابعة دراساتهم الجامعية بصورة متصلة، بل أن يغادروا الجامعة بين كل مرحلة وأخرى من تحصلهم لفترة فصل او عام كامل في أنشطة أخرى تعزز بناء شخصيتهم ومعرفتهم بالعالم، وتسهّل إدراكهم لما يصبون اليه فعلاً. وأرى من الضروري نبذ النموذج الذي ورثناه عن أوروبا، لاسيما ان أوروبا نفسها في طور التخلي عنه، وهو نموذج اختيار الطالب لتخصصه يوم دخوله الجامعة والبقاء لاحقاً فيها من دون انقطاع لخمس او عشر سنوات، حتى إتمام ذاك التخصص.

تتفاقم ضائقة الجامعات بالنظر لارتفاع كلفة التعليم نفسه. والأسباب عديدة هنا منها التضخم العام في مرتبات الأكاديميين البارزين في الدول المتقدمة ومنها الطفرة غير المسبوقة في أعداد الموظفين الإداريين بحيث تجاوزت أرقامهم عدد الأكاديميين في كثير من الجامعات، ناهيك عن ارتفاع أسعار العقار والحاجة لمنشآت رياضية ولتجهيز تكنولوجي، ما ان يتم تأمينه حتى يظهر تجهيز أكثر تقدما عليه، وكلها نفقات كبيرة ومشروعة، بل في معظمها ضرورية.

وأدى تراجع الدعم الحكومي وارتفاع كلفة التعليم الى النتيجة المتوقعة التي نعرفها جميعاً، أي الزيادة الكبيرة في رسوم التسجيل. فإن توقفنا لحظة امام نموذج الولايات المتحدة، وهو الأكثر انخراطا في المنطق النيوليبرالي، لوجدنا ان تلك الرسوم قد ارتفعت اكثر من ثلاثة أضعاف ارتفاع أسعار السلع التجارية، بحيث بات العرب، حتى الموسرون منهم، يفكرون ملياً قبل ابتعاث أولادهم الى الجامعات الأميركية ان لم يحصلوا على منحة لذلك من حكوماتهم، ومعظمها عاجز عن ذلك. كيف لا وقد بات معدل الرسم السنوي في الجامعات الحكومية هناك 10 الاف دولار لأبناء الولاية، وضعفي هذا الرقم لمن هو من خارجها، بينما تجاوز معدل الرسم في الجامعات الخاصة 31 ألف دولار سنوياً، وهو رقم يلامس الخمسين او الستين الفا سنويا في الجامعات الأوسع شهرة. هكذا وصلت كلفة الشهادة الجامعية في اميركا اليوم الى أكثر من عشرة اضعاف ما كانت عليه منذ نصف قرن. وارتفع بالتالي حجم ديون الطلاب (وثلثاهم يلجأون لذلك) وبات معدل استدانة الطالب يوم تخرجه 40 ألف دولار بينما تعاظم هاجس حجم الدين الجامعي بعدما تجاوز نحو 1,2 ترليون دولار، لاسيما ان أكثر من 7 ملايين خريج أميركي هم فعلا عاجزون عن سداد الديون التي استلفوها للحصول على شهادة جامعية.

يعتبر البعض ان منطق السوق قادر بذاته على معالجة الأزمة، بمعنى ان الانتشار المتزايد في عدد الجامعات الربحية المحكومة بقانون العرض والطلب، من شأنه ان يفرض تصحيحا بنيويا على هذا الجنوح. والواقع ان معظم الجامعات التي أنشئت حديثا عندنا وفي العالم هي من هذا الصنف. وبينما ما زالت الجامعات الحكومية عندنا تستقطب الأعداد الكبرى من الطلاب، فإن التوجه العالمي هو في تزايد الجامعات الربحية وفي تعاظم اعداد مرتاديها، برغم الادعاءات التي لا تخلو من المبالغة او حتى الكذب والتي تلجأ اليها تلك الجامعات لتعظيم نوعية وجدوى شهاداتها. وأشار تقرير اميركي حديث الى ان الجامعات الربحية لا تنفق على التعليم الا 17,4 في المئة من مداخيلها السنوية، بينما توزع 20 في المئة منها كأرباح على المساهمين، وأن اكثريتها تنفق على الترويج لنفسها ضعفي ما تنفقه على التعليم.

نرى هنا المثالب بل المآزق التي يدفع اليها منطق السوق. فما موقفنا ونحن لم نصل والحمدلله الى تلك المآزق او اننا لم نصل بعد اليها؟ من غير الواقعي ابدا ان نعــود لموقف ينـــبذ منطق الســـوق بالمطلق، ويذهب للقول إن التعــــليم الجامـــعي هو بالأساس خــــدمة اجتـــماعية ينبـــغي على الدولة ان تتعهده بمفردها، لأن هذا واجبها ولأن التعلـــيم الخاص قد يذهـــب بنا الى الشطط المالي.

فالدول في مجملها باتت عاجزة عن تحـــمل كلفة هذا القطاع بمفردها، لا سيما انه كان على الحكومات ان تزيد ثلاثة أضعاف من انفـــاقها على التعــليم العالي لمجـــرد المحافظة على مستواه السابق، ونحن ندرك تماما ان أكثـــرية دولنا تلك عاجزة عن ذلك. ثم ان القطاع الخاص قد أبـــدى حسناته العديدة في التعـــليم الابتدائي والثــــانوي، ولا سبب للاعتقاد ان القطـــاع الجامـــعي سيكون عصيا عليه. انـــنا تجاوزنا حاجز استئثار الحـــكومات بالقطـــاع إذ تعددت المبادرات الأهـــلية، خيرية كانت أم ربحـــية، لإنــشاء جامعات جـــديدة. والحقيـــقة ان الفوارق بينها ما عادت واضحة تــماما، ما يشجع على القبول بالرأسمال الخاص في تمويلها.

ولكنه وفي المقابل من غير الصحي الذهاب نحو الخصخصة التامة وتحرير الدولة من واجباتها المفترضة تجاه هذا القطاع. فهناك العديد من الدول مثل سويسرا او الدنمارك او النروج، حيث الرسوم الجامعية رمزية والجامعات في أحسن احوالها. وفي الدول الأكثر تقدماً، فإن الفروقات في مستوى الدعم الحكومي هائلة من دون ان تتأثر نوعية التعليم بهذه الفروقات. وبينما تشكل نسبة الإنفاق الحكومي على التعليم العالي نحو 100 في المئة في اسكندنافيا وثمانين بالمئة في فرنسا و60 في المئة في كندا و35 في المئة في اميركا واليابان و25 في المئة في بريطانيا، وهي فروقات كبيرة جدا بين دول هي في المستوى نفسه من التقدم، يصعب على المراقب ان يجد تأثيرا كبيرا لهذه الفروقات على تصنيف هذه الدول من حيث جودة جامعاتها.

وبينما تتنوع وضعية الجامعات القانونية، فهمت الدول ان عليها ان تحول استئثارها السابق بالقطاع الى دور جديد مزدوج، فتستمر بتعهد الجامعات الرسمية من دون ان تتحمل بالضرورة كامل تمويلها، بينما تحاول تنظيم قطاع التعليم الجامعي الخاص من خلال إعطاء الرخص ومراقبة نوعيته، ومتابعة مدى احترامه لشروط إنشائه ومعاينة صلاحية الشهادات الصادرة عنه بصورة دورية. واني أرى من واجب الدولة أيضاً تعهد الجزء الأكبر من البحث العلمي في الجامعات التي تعطي الأولوية له، وفي هذا المجال، فإن تأخر الجامعات العربية خطير فعلا. كانت جامعاتنا بالأساس في أكثريتها رسمية، وبالتالي جزءا من جهاز الدولة التعليمي. اما جامعاتنا الخاصة القليلة العدد، فكانت لا تبغي الربح. ولكن العدد الأكبر من الجامعات الجديدة أسست بهدف الربح.

من هنا، فإن عجزت الدولة عن تبني القطاع بالكامل، فليس من حقـــها التخلي عن مســــؤولية تنظيمه. فمهما ادعى المنطق النيوليبرالي، فإنه يخـــطئ حيــن يزعم ان السوق قادر على إفراز ضوابطها بذاتها.

وهو يخطئ أكثر حين يزعم ان الشهادة الجامعية سلعة كغيرها. لقد واجهتنا مسألة مماثلة منذ عقد من الزمن في ماهية العمل الفــــني. وتوصلنا يومها لنتيجة ان الكـــتاب او اللوحة او الفـــيلم ثنائي الطبيعة، فهو سلعة كغيرها تباع وتشرى، لكـــنه شيء آخر أيضا لأنه ينضــــوي على مضمـــون والمضمون، يعني تعــبيرا عن هوية فردية او جماعية. كانت هذه هي الفلسفة التي بنيت عليــــها المعــاهدة الدولية عن التنوع الثقافي، التي كان لي فخر الإســــهام بصياغتها. ويقيني ان نظرة ممـــاثلة يجب ان تحكم الشهادة الجامعية، فالفـــوز بـــها يؤثر بقوة على مدخول صاحبها، ولكنها ليست سلعة عادية لأنها أيضا مضمون، والمضمون هوية.
ومسألة الهوية تستدعي سؤالا بات يوميا: بأي لغة نعلم؟ وهذا تحدي اتوقف عنده. لن يقبل عاقل بجواب على هذا السؤال مبني على اعتبارات المصلحة من دون غيرها. فالسؤال سياسي وثقافي قبل ان يكون تقنيا. لقد دفع العطش المشروع للاستقلال الثقافي الى جعل التعليم في جامعاتنا باللغة العربية وهذا امر محمود وطبيعي. لكن اكتفاءنا بهذا الجواب البدائي لم يعد اليوم كافيا لسببين على الأقل: الأول هو ضرورة اتقان طلابنا للغات الواسعة الانتشار كشرط من شروط ولوجهم لاقتصاد معولم، ما يعني انه من غير المقبول ان نحصر بعد اليوم اتقان اللغات العالمية على كليات الآداب الأجنبية، بل ان التمكن الحقيقي من لغتين أجنبيتين، ان لم يكن في مباراة الدخول للجامعة فعند التخرج منها، بات واجبا علينا إزاء طلابنا.
ثم ان رد الفعل الدفاعي بالتمسك بلغتنا القومية لا يجب ان يلهينا عن رغبة التأثير فيما حولنا. لقد تنبهت الدول الكبرى الى ان التعلم في جامعاتها من شأنه ان يضاعف من قــــوتها الناعمة في العالم. من هـــنا التنافس الهائل على استقطاب أولئك الذين سيكونون غدا نخبة البلدان الصاعدة. ولا أرى لماذا لا يدخل العالم العربي في ذاك السباق الذي يقتضي تعليما جامعيا أفضل، وانما أيــــضا تعليما بلغات غير العربية. واسمح لنفسي هنا بالإشـــــارة لتجربة حديثة في هذا الموضوع، اذ طلبت مني جامعتي انشاء كلية للشؤون الدولية. أنتم تعلــــمون ولا شك تمسك الفرنسيين بلغتـــهم الوطنية، واني احترم طبعا تمسكهم بها ولكني رأيت ان أي عامل في الشأن الدولي، عليه ان يكون متقنا للـــغة الأوسع انتشارا اليوم فوضعت شرطا للدخول هو التمكــــن الفعلي من اللغة الإنكلــــيزية، بل اخــترت ان يكون ثلـثا التعـليم بتلك اللغة.

لقد بات علينا ان نحافظ على استقلالنا الثقافي انما دون الإنغلاق عن حركة العولمة التي تضرب اليوم التعليم العالي بكل مظاهرها من انتقال للطلاب بالملايين للتعلم خارج اوطانهم الى قرار مئات الجامعات، لاسيما الغربية منها، بفتح فروع لها في الخارج، ولاسيما في بلداننا او على مقربة منها، الى نشوء سوق معولمة للأساتذة لاسيما في مجالات كالعلوم الاقتصادية والطب، الى عودة الى التعليم باللغات العالمية الواسعة الانتشار في الجامعات الوطنية. يمكننا طبعا ان نشيح النظر عن هذه الحركية المتسارعة ونقنع أنفسنا أن بإمكاننا البقاء خارجها. ولكن موقفا كهذا، الى جانب انعدام واقعيته، لا يفسر لنا الانخراط الواسع لدول صاعدة كالصين او البرازيل او الهند في حركية العولمة الجامعية ولا ينبهنا الى الفوائد التي ترتجيه دول هي ليست اقل حرصا منا على استقلالها من ذاك الإنخراط.

————————————-

(*) محاضرة ألقيت في افتتاح الدورة الثامنة والأربعين لاتحاد الجامعات العربية ـ جامعة القديس يوسف.