«تصفية» الديموقراطية اللبنانية!

عزت صافي (الحياة)

أصعب من أي زمن مضى يستعيد اللبنانيون مسيرة وطنهم على الورق، وعلى الأرض فيجدون أنفسهم في هذه المرحلة أبعد ما يكونون عن الأمل بدولة تليق بهذا العصر.

فبعد عام 1970 ودّع لبنان ديموقراطيته. في ذلك العام انتخب مجلس النواب رئيساً للجمهورية بفارق صوت واحد كان صوت الرئيس الفائز سليمان فرنجية. بعد ذلك الانتخاب راحت الديموقراطية اللبنانية تتلاشى، ومجلس النواب أخذ يتدرب على نظام «مجلس الشعب»، ولبنان بدأ يتدرب على سماع اسمه الجديد «القُطر الشقيق».

ثم كان على «القُطر الشقيق» الصغير أن يستقبل فصائل الثورة الفلسطينية، بكل قياداتها وكادراتها وأسلحتها وعتادها وهي تعبر «القُطر الشقيق» الكبير (سورية) آتية من أغوار الأردن، تاركة خلفها الأهل المقاومين الصابرين في الأراضي المحتلة.

عام 1973، لم يكن للبنان نصيب من النصر على إسرائيل في حرب تشرين الأول (أكتوبر). لكن، كان عليه أن يتحمل قسطاً كبيراً من أعباء ما بعد ذلك النصر الذي أحرزه الجيشان المصري والسوري على جبهتي سيناء والجولان.

ثم، لم يطل الوقت أكثر من سنتين لتُفتح جبهة «عين الرمانة» على أبواب بيروت. ومن يومها لم تتوقف الحرب إلا لفترات بين هدنة وهدنة، وبين تسوية وتسوية، وبين اتفاق واتفاق، وصولاً إلى «اتفاق الطائف» عام 1989.

خلال كل تلك المراحل الصعبة صمد لبنان، وصمدت ديموقراطيته، على علاتها، ولكن بكلفة عالية تفوق طاقته بكثير.

هل لنا أن نستعيد عناوين بعض المآسي التي رافقت الرئاسات اللبنانية بعد عام 1973؟

* سليمان فرنجية غادر القصر الجمهوري في بعبدا تحت القصف بالمدافع والصواريخ إلى مقر موقت في «ذوق مكايل».

* الياس سركيس انتخب رئيساً في «فيلا» خاصة مستأجرة لمجلس النواب المهجّر عام 1976، ثمّ أقسم اليمين في فندق سياحي على مدخل شتورة في الطريق إلى دمشق، وبعده عاد إلى قصر بعبدا ليغادره تحت الحراب الإسرائيلية التي طوّقت القصر عام 1982.

* بشير الجميل انتخب رئيساً في ثكنة للجيش اللبناني قرب بيروت، ثم قُتل بعد أيام قليلة بانفجار غامض في مركز تابع لحزبه (الكتائب) قبل أسبوعين من موعد تسلّم الرئاسة.

* أمين الجميل انتخب خلفاً لشقيقه بشير في الثكنة العسكرية عينها، لكنه في نهاية ولايته لم يكن مجلس النواب قد تمكّن من انتخاب رئيس جديد للجمهورية، فأصدر الجميل قبل دقائق من منتصف ليل 22 – 23 أيلول (سبتمبر) 1988 مرسوماً بتعيين العماد ميشال عون رئيساً لحكومة من ستة وزراء، ثمّ ترك له قصر الرئاسة وغادر ليتحول لبنان دولة بحكومتين، ولا رئيس للجمهورية. ومنذ ذلك التاريخ اعتبر العماد عون أنه صاحب الحق الأول بمقعد الرئاسة وكأنه سُلب منه، وهو حتى اليوم غير مستعد للتخلّي عنه.

* رينيه معوّض انتخب رئيساً في مطار «القليعات» العسكري في شمال لبنان تحت مراقبة القوات السورية، ثم قُتل بانفجار غامض يوم الاحتفال بعيد الاستقلال في شارع مكتظ بالسيارات والناس في قلب بيروت.

* الياس الهراوي انتخب في «فندق شتورة»، ثمّ تقبّل التهاني في مقر إقامته الأول في ثكنة «أبلح» العسكرية تحت حماية القوات السورية.

* إميل لحّود انتخب ومدّد ولايته ثلاث سنوات بقرار من النظام السوري.

* ميشال سليمان انتخب، ورفض تمديد ولايته، وترك قصر بعبدا فارغاً، ولا يزال القصر كما تركه قبل عشرة أشهر.

اليوم، بعد خمس وأربعين سنة على ذلك المسار الرئاسي المأسوي الطويل الذي أخذ في طريقه كوكبة من الشهداء اللبنانيين الكبار، في القيادة الشعبية، وفي السياسة، والنيابة والاقتصاد، والإعلام، والثقافة، والدين، يقف لبنان على عتبة التحول نحو المجهول.

ويمضي لبنان في هذا المسار، وهو ليس بعيداً من ذلك «الطوز» الربيعي الأحمر المستمر عاصفاً في الكيانات العربية، تلك التي كانت ترفع فوق بواباتها الشعارات الهادرة: عروبة. حرية. اشتراكية…

وإن كان لبنان، ولا يزال، ملتقى لرافعي تلك الشعارات خارج أقطارها، فهذا هو دوره وواجبه، بل قدره. لكنه لم يعد الآن مثالاً لأجيال عربية كانت تتعلّم في جامعاته، وتقرأ صحافته، وتسمع محاضراته، وتناقش ثقافته وسياسته، وتسهر في أنديته، وتشرب قهوته، ثمّ تمشي في تظاهراته، وترفع أصواتها أعلى، فأعلى، حتى لتظن أن أهلها، هناك، يسمعونها.

لقد تبدّل لبنان ذاك الذي كان. همدت عاصمته بيروت. شحّت أنوارها، فصل ربيعها لم يعد يزهر، وفصل صيفها لم يعد يثمر، وإن أثمر يسقط قبل أوانه، أما شتاؤها فقارس لغياب الدفء. وأما خريفها فإنه الفصل الدائم على مدار السنة.

مع ذلك فإن لبنان لا يزال وطناً وكياناً، حتى لو لم يبق منه سوى الاسم، والأرض والمدن، والقرى، والبيوت، وما بقي من الغابات على القمم والسفوح حول الجبال، وما بقي من اللبنانيين الصامدين، الممانعين، برضاهم، أو بإيمانهم، أو باستحالة رغباتهم وطموحاتهم.

… أما الجمهورية، وأما الدولة، وأما الحرية، وأما الشرعية، والدستور، والإدارة، والقوانين، وأما الذمة، والقضاء بالعدل والنزاهة والشجاعة، فتلك أمور صارت خارج البحث. وقد دُعي مجلس النواب عشرين مرة حتى الآن لانتخاب رئيس، وفي كل مرة لا يكتمل النصاب، كما لو أن النواب مدعوون إلى حضور ندوة لا تعنيهم، وهم الآن مدعوون إلى الجلسة الواحدة والعشرين في نيسان (أبريل) الآتي.

هناك صورة مرسومة لرئيس الجمهورية المفروض، ولا ينقصها إلا كتابة اسمه الذي بات معلناً. وهو الجنرال ميشال عون. ولو تمّ التوافق عليه قبل عشرة أشهر لكان للبنان اليوم رئيس جمهورية، وما دام التوافق مفقوداً فلا رئيس. هذا ما يردّده ويؤكّده حلفاء الجنرال.

مقاطعة. ممانعة. مخالفة للدستور؟… ليسمّها المعترضون ما يشاؤون. الجنرال صاحب حق. وصاحب قرار، ولن يعود عنه. تنازل مرتين، كما يقول، عن الرئاسة، وليس مستعداً للتنازل مرة ثالثة. فليحلّها من عندهم الحل.

الواقع، أن الحل، كما هو معروف، عند الحليف الأول للعماد عون: «حزب الله»، والحزب يعلن بصراحة: نحن مع تكريس منصب رئاسة الجمهورية للطائفة المارونية، ومن حقنا أن نؤيد من نراه أهلاً للرئاسة.

والواقع أيضاً أن أحداً لم يعترض أو يناقش هذا الحق. لكن هناك من يسأل: هل من حق «حزب الله»، أو أي حزب آخر، أو أي كتلة، أو جهة، أن تمنع اكتمال النصاب الدستوري لانتخاب رئيس جمهورية جديد؟

أيضاً، بصراحة وبوضوح تام، يعلن نائب الأمين العام لـ «حزب الله» الشيخ نعيم قاسم: «الذي يريد الحل عليه أن يبحث عن الموضوع داخلياً، ويمكن أن يكون هناك رئيس يوم الغد، وتسير المؤسسات في شكل طبيعي إذا انتخبوا العماد ميشال عون الذي هو الجدير والمؤهل، وهو موجود وحاضر…».

وإلّا؟ الجواب أيضاً واضح وحاسم: «الانتظار سيطول لسنة أو سنتين، أو أكثر…».

إذاً… لا فائدة من الغرق أو التيه في تحليل السياسات الخارجية والاستراتيجيات التي يعتمدها أي حزب، أو تنظيم في لبنان. فالقرار صدر: الجنرال عون هو رئيس الجمهورية. وغير الجنرال عون لا رئيس… أي لا جمهورية.

هكذا يُختصر وطن وشعب برجل. فلا حساب لأحد من أهل السياسة والمسؤولية الموارنة وسواهم من سائر اللبنانيين، ومن جميع الطوائف والمذاهب. ولا حساب للبنانيين المنتشرين في جميع أنحاء العالم وبينهم من لا يزال يتابع أحوال وطنه الحاضن من بقي من أهله؟

هكذا، كما يبدو، فإن كل الرهانات على حل أو انفراج باتت ساقطة. ثمّة واقع ثابت يتمثل بقوة داخلية مجهّزة ومدعومة بكل متطلبات الصمود والغلبة هي التي تمسك بأي قرار يتعلق بمستقبل لبنان. وبمعنى آخر، فإن قضية لبنان باتت أصغر بكثير من أن تكون ذات حساب كبير في معادلات مستقبل المنطقة.

هكذا، تتأكد أكثر فأكثر صحّة العبارة التي تتكرّر منذ زمن طويل في لبنان: «إنها مرحلة مصيرية». ويبدو أن تلك المرحلة المصيرية هي بالذات هذه المرحلة التي يمرّ فيها لبنان. فكل ما حوله ينهار ويتدمر. وليس بعيداً منه تتهاوى أنظمة، وتتصدّع كيانات، وتنقسم شعوب على بعضها، وتتناحر، فيما تتسلّط عليها جيوش «نظامية» رديفة لقوى تخرج من ظلمات الكهوف لتفرض سلطانها بقطع الأعناق وحرق الأجساد وسبي النساء.

ومع ذلك يبقى لبنان شاهداً، مسربلاً، مكربجاً بالفراغ، والثرثرة، والبلادة وابتكار الطرائف، وآخرها اقتراح إجراء مباراة تلفزيونية لملء وظيفة «رئيس قوي»!

هي محنة جمهورية كانت، على علاتها، نجمة الديموقراطية في عالم عربي ثابت على أنظمته. والآن تدخل هذه الجمهورية معركة مصيرها، وهي مرحلة التصفية، وقد تكون في الشوط الأخير، إذ ليس في الداخل اللبناني ما يبشّر باتفاق أو توافق، وليس في الأفق الإقليمي والدولي ما يوحي بالاهتمام الذي يرقى إلى درجة قرار يحمي تلك «الأعجوبة اللبنانية» من الانهيار.

اقرأ أيضاً بقلم عزت صافي (الحياة)

العهد اللبناني «الجديد» لم يبدأ بعد

«حماس» × «فتح» = إسرائيل «فتح» + «حماس» = فلسطين

وثيقة برنامج رئاسي لبناني للاطلاع

جمهورية سوريّة ديموقراطية تولد في الخارج

لبنان «الطائف» على شبر ماء

فلسطين الثالثة في عالم عربي آخر

هـل أخطأ سعد الحريري؟

الديموقراطية على الطريقة اللبنانية

«حماس» ترمي نكبة غزة في ساحة رام الله والمهمة الأولى إعادة الإعمار

رؤساء الجمهورية اللبنانية وعلاقاتهم بفرنسا منذ الاستقلال

بوتين «القيصر» غير المتوّج على … سورية!

لبنان: لكل عاصمة وَفدٌ … و «دولة» وخطاب!

ما بين جمهورية ماكرون وجمهورية ديغول

هل بدأ ترسيم سورية «المفيدة لإسرائيل» ؟

صيف لبنان من دون عرب… ووعود السياسيين المتوارثة لا تتحقق

أي دور لإيران في المنطقة بعد تغيّـر كل شيء في سورية ؟

كمال جنبلاط مُستعاداً في مئويته

الجزائري حين يكون ناخباً فرنسياً

ترامب على أبواب القدس وعباس على باب البيت الأبيض!

سبعون سنة تحت الحكم العسكري: أي معجزة يمكن أن تنقذ سورية؟