أمي… الحلم الذي رحل من دنيانا إلى الأبد

محمود الاحمدية

“الأم شمعة مقدسة تضيء ليل الحياة بتواضع ورقة وفائدة (غاندي)

بين شارون وصوفر والأشرفية وعاليه وبيروت مسافات زمنية تبقى في الذاكرة… طريق ظلّلها الورد والياسمين أيام الفرح وإقتحمها الشوك والبؤس أيام الحزن…

بالذات عام 1952 تركنا قريتنا متوجهين إلى الأشرفية حيث راهبات الفرنسيسكان… وكان والدي طموحا” خدم في سلك الدرك في بداية عمره…. وتفتح على آفاق جديده خارج جو القرية المغلق…فكانت بداية مشوار العمر….أمي ذلك الملاك الذي إحتضن العائلة بأهداب العيون… أمي رفيقة الرحلة والأمل المستحيل والحضن الدافئ…. في كل لحظة وفي كل دقيقة طيفها يرافقني وأصاب بالدوار عندما أتذكر دموعها التي كانت تذرفها بصمت حتى لا تجرح أحدا… ودائماً كانت تستعمل كلمتين: “الله بيهوّنا” وأيام الشدائد “الرضا والتسليم”…

عندما أتأمّل البحر بكبره أتذكّر قلب أمي… وعندما أرنو إلى الأفق البعيد أتخيل يدا الرحمة والحنان تعانقان الغيم والريح… يدا أمي… كبرنا ورحلة العمر نقلتنا إلى عاليه وبالذات إلى الجامعة الوطنية مدرسة الكبير مارون عبود… وكبرت المسؤوليات المادية ولن أنسى ما حييت قول والدي عندما أصبح موظفا له اهميته في إحدى الشّركات كل الناس تفرح عندما يأتي آخر الشهر باستثنائي أنا معاشي 2000 ل.ل.  ومتطلبات المصاريف والديون 2500 ل.ل. معادلة صعبة بحاجة لهمم كبيرة لحلّها… أتكلم عن عام 1963 حيث كان ثمن الطابق الحجري عشرة آلاف ليرة ومعاش المهندس ستماية ليرة لبنانية…

كانت أمي المحيط المتلقف بحنان ومحبّة وسعة فكر لكل سواقي وأنهار البؤس… إبتسامتها وجَلَدُها وقوة شكيمتها كانت تحوّل الخوف الساكن في داخلنا إلى أنوار فرح تتلألأ… وهذا ليس بنوستالجيا ولا بهداية اللحظة.

أمي لن أنسى ما حييت عندما كنا في عاليه وعندما كان الثلج يسقط مدرارا في الخارج كنت تخيّطين ثيابنا على ماكينة “السنجر” ما غيرها التي ورثتيها من زواجكم مثل كلّ زيجات تلك الأيام…. وأتذكر أنه وفي عز دين البرد والزمهرير كنا نلبس “البنطال القصير” فيسألونك أليس حراما والأولاد بيبردوا كنت ترددين… هني بيحبوا الرياضة.

أذكر لحظات سكنت كلّ ذرّة وكل مسام الجسد، عندما فاجأتك تترنّمين بأغنية حزينة والدموع تنهمر مدرارا سألتك وألف سؤال تتزاحم على شفتي: أمي! شو بكي؟؟ شو الموضوع، فكان جوابك: اللي بيخلق وهو طفل وبيتيتّم وبيفقد أمه، كيف بدّو يكون حظو بهالدني… بس الله كبير… قلتيها بإيمان وبدون تردّد.. وامتزجت دموعك مع إبتسامة وكأنها جاءت من وراء الغيم… بربكم اي وجه يمتزج فيه وعبره الدمع بالابتسامة غير وجه الام ووجه أمي..

 أمي عند الفجر وكل فجر أتأمّل واتذكّر الحنان والعطف يتجسّدان الأفق البعيد وكأن يديك احتضنت كلّ ايتام العالم!! أمي عند العاصفة ومع صوت الريح أتذكر الدمع والصوت الجميل الحزين الذي كان يكمل سمفونية الطبيعة بلمسات ملائكية..

أمي في عيد ميلادك لي رجاء وحيد: كوني معنا ولو من بعيد حتى تتفتّت صخور الحزن وتندلع افراح الدنيا فنشعر باندهاش اللحظة.. اندهاش اللحظة هذه الكلمة التي ضاعت في غياهب المادة والطمع والاحقاد.. أمي كوني معنا حتى لا نشعر بتعاسة الغربة مع الذات.. أمي يا كلّ دموع الدنيا…يا كل ابتسامات الدنيا… كوني معنا ولو من بعيد وكما تعودناك، حتى نشعر بالأمان..

 أمي أضع بجانب رفاتك وردة ودمعتين: وردة تختصر كل عواطف الدنيا تنسكب شلالا” يغمرك.. ودمعتين: إحداها على ذلك الراحل الكبير أبي وأخرى هي ملكك من إبن أحبك حتى العبادة يا أعز الناس..

اقرأ أيضاً بقلم محمود الاحمدية

لبنان لن يموت

أكون حيث يكون الحق ولا أبالي

لماذا هذا السقوط العربي المريع؟!

جشع بلا حدود وضمائر ميتة في بلد ينهار!

جاهلية سياسية… بل أكثر!

معرض فندق صوفر الكبير والتاريخ والذاكرة

قال لي: عندما تهاجم الفساد ابتسم بألم!!

إذا أجمع الناس على مديحك سوف أطردك!!

التاريخ لا يرحم… يجب إعادة كتابته

ما هو دوري كوزير جديد؟

مشروع كمّ الأفواه تدمير للبنان الرسالة

الجامعتان اليسوعية والأميركية تنسحبان: التعليم العالي في خطر

السويداء في عين العاصفة

تقريران رسميان متناقضان عن تلوث بحر لبنان

في ذكراها الـ 74 اسمهان: قصصٌ خالدة

طبيعة بلا حدود ربع قرن من النضال البيئي

فريد الأطرش وشوبرت والفن العالمي الخالد

يوم البيئة العالمي: التغلب على تلويث البلاستيك

قطعة الماس في جبل من الزجاج

مسيرة منتدى أصدقاء فريد الأطرش تشع في دار الأوبرا في القاهرة