إذا كان لا يكذب ولا يسرق فماذا سيعمل إذا عاد إلى لبنان؟

احمد منصور

(إلى الرئيس وليد جنبلاط)

الجوابُ هذا كانَ لأحد الزعماء الأشّد ذكاءً في لبنان على سؤال سيدةٍ فاضلة: لماذا لا يستقدم زوجها الجامعيّ الأستاذ في أوروبا إلى لبنان سيما وقد كَبُرَ ابنهما وابنتهما، وتخشى أن تبلع الأرض الواطئةُ ماءها وماء غيرها.

الحوارُ هذا جرى بين أمومة السيدة وأبوّة الزعيم….. لقد أصابت السيدة في توجهها ليقينها أن لا عملَ في لبنان دونَ واسـطة، فالشهادات وأصحابها في هذا البلد لا تعني شيئاً أمام الأمـاكن القليلة المشغولة سـلفاً بإستمرار ( خاصةً من فئاتٍ معينة ). وياما عادَ الكثيرون من المهجر إلى الوطن ليقيموا فيه من جديد ويتوظفوا فهشّلوهم من البلد إلى الأبد.

الزعيم في هذا الصدد يعرف دونَ شك الأستاذ الأب ويحبهُ ويقدّره، ولكنهُ يعرف في الوقت ذاته أن ما وفّرتهُ أوروبا لهُ ولعائلته وابنيه لا يمكن أن يوفّرهُ لهُ لبنان، فسيصدم من الواقع اللبناني الذي قد يفرض عليه العودة إلى من حيثُ أتى بعدَ أن يكون قد غادرَ بيته وعملهُ ليبدأ من الصفر من جديد بعدَ أن قطعَ العمر أطوله. فلذلك لا يريد أن يتحمّل الزعيم المسؤولية. وإذاما أصرَّ الأستاذ على العودة فالمسؤوليةُ ستكون مسؤوليتهُ فحسب. إنَّ الحسّ الإنساني في الزعيم طغى على الحسّ السياسي لأنّهُ كانَ في حالةِ صفاء وشفافية وحقيقة.

في هذا الوطن يتغنّى الجميع بالحقيقة وحـب الحقيقة والتفتيش عنها كل ما دقّ الكـوز بالجرة، والحقيقةُ كقصيدة “اليتيمة” التي ما عرفَ أحدٌ شاعرها، علماً ان أرحام معظمنا اوكارُ أكاذيب دبابير تئزُّ ليلاً نهاراً ولا تعرفُ الهدوء ولا القرار. فالكلُّ يخدع الكل عبرَ الحروب شبه المتواصلة، والهجرة في جميع أركان الأرض، واتساع وتاثير الإعلام بجميع أشكاله المرئية والصوتية والمقروءة، والحركةُ الدائمة بين الريف والعاصمة. فلذلكَ أصبحَ لبنان كلهُ بيروتَ كبرى بل دائرةً واحدة، فانعدمت القرية والبساطة، وأصبحَ الكذب والبلف ملح الجميع الذي لا ينضب.

إنَّ ما يثير التساؤل عندما نرى عدد المصلّين في أماكن العبادة هو عدم تأثير ما يسمعون في سلوكهم من خطب وقراءات تزلزل الجبال في إيقاعاتها وعدم استيعاب معاني صلواتهم.

كل تلكَ البلاغات تنزلق على الآذان كما تنزلق المياه على الحصى… لكأنَّ هذا الأدمان السلبي على النفاق تملّكَ في العقول والقلوب فأصبحَ الفالج الذي لا يعالج، وأمست الرذيلةُ كالقلعة التي لا تُحاصَر.

في بلدنا أصبحَ الكذبُ كالنَفَس وإذاما مواطنٌ تكلّم بصدق عدّوه ساذجاً مسكيناً مكشوفاً يسهلُ خداعهُ والضحك عليه. فالكذب مادّة تفوّق، وبئسَ من لا يكذب لأنَّ حياتهُ لن تكون يسيرة.

قامت إحدى الصحف العربية الواسعة الانتشار منذُ سنوات باستطلاع حول الكذب في لبنان فوجدت أن الحدَّ الأدنى في اليوم للفرد لا يقلُّ عن ثلاث كذبات.

شيءٌ آخر عندما يتكلم اللبناني بصدق يشعر بالحزن والضعف والانكسار لأنّهُ في دوّامة الكذب العام الذي لا يهدأ ولا ينام.

وأنا على صعيدٍ شخصيّ عمّدوني – بعدَ غيابي اربعين سنة – بالكذب حالما وطأت قدماي مطار بيروت ولا أريد أن أدخل بالتفاصيل ووعدتُ أن أكذب إذا ما سُئلت لحماية الكذابين، والحمد لله للقَدَر الذي نجّاني من هذا الإمتحان غير المرغوب فيه.

لقد رأيتُ زميلاً شاحباً مضعضعاً (كان يحضّر دكتوراه في باريس) فسألتهُ ما الأمر؟ اجابني: تعرف أن منحتي لا تكفي، فبدأتُ العمل في وكالةٍ عقارية أرسلتني لأخذ معلومات عن شقةٍ للبيع. سألتني صاحبتها: هل انا الذي سيشتري؟ أجبت: بالإيجاب ولم أنم ولم يهنأ لي عيش منذُ ذلكَ الوقت. قلتُ لهُ مطبطباً على ظهره: اطمئن ستتعوّد ولن تعود إلى ما كنتَ عليه يا صديقي وسترى. مرّت اسابيع تقاطعنا فحياني ضاحكاً: يا أستاذ تحققت نبؤتك فأصبح الكذب نَفَسَنا اليوميّ.

إذا ما صعدنا في عمارةٍ عالية وتأملنا واجهات العمارات وذيولها في بيروت نرى البريق طبعاً في الواجهة والوسخ والغبار والحزن في الظهور. إنها تُشكّلُ إنعكاساً حقيقياً لطبيعة اللبناني ” من برّا رخام ومن جوّا وخام “. شيءٌ آخر. لو يدخل زبائن المطاعم (مع بعض الإستثناءات) من مطابخها فلا أظن أن زبوناً سيدخل إليها، كما أن نوعاً آخراً من الكذب أخطر وهو التمثيل الإنتخابي الذي يعتبرونهُ شَرْع الأمّة أو الوطن، وذلك عندما نرى أن المنتَخَبين من طبقة الملياردارية الذين يمثلون في الغالب ملايين الفقراء والعاطلين عن العمل فكيفَ ينتخب المسروق السارق والمقتول القاتل في معظم الأحيان؟. وكيفَ يكون أغنى مجلس لشعبٍ من أفقر الشعوب؟.

إنَّ هذا الوضع نتيجةٌ لنظام ٍبناهُ تراكم السنين والقرون والأحداث السياسية والمراحل من إقطاعية إلى عائلية إلى حزبية إلى حروبٍ أهلية يدخل فيها الحابل بالنابل والعجيب بالغريب… فتغرق البلد في الإمتحانات الكبرى في محن كانتخاب رئيس الجمهورية أو رئيس وزراء أو رئيس مجلس نيابي في أوضاع تستمر طويلاً وتعرّض فيه مصالح البلاد والعباد إلى أشد الأخطار.

إنَّ التوظيف يرتدي رداء التزوير، فعديم الكفاءة يتولّى وظيفة بحكم إنتمائه الطائفي وصاحب الكفاءة يظلُّ خارج اللعبة نظراً لإشباع الأماكن المخصصة. وهناك الكذب من نوع الولاء فالولاء يشفع بتعيين المحازبين والأنصار، ولا أهمية لمستوى الجدارة. والولاء في نظري اكبرُ بلاءٍ في هذا الوطن. ولن تقوم قائمة لهذا البلد طالما لا يكون الممتَحَن متطابقاً مع المستوى المطلوب لوظيفتهِ. ناهيكَ عن الأنواع الأخرى للكذب والسرقة والقمار والدعارة والتصويت المدفوع.

كذلكَ الرشوة التي هي من أخطر أنواع الكذب والسرقة، والتزوير في العملات والمعاملات ودفع الناس إلى توقيع أشياء أو عقود لا يفهمونها الفهم الكافي، ويستفيقون في الوقت غير المناسب فيكون الذي ضرب ضرب والذي هرب هرب. كذلك إذا ما استعبدَ المال القضاء فأصبحَ العدل في مهب الثعابين الخضراء وإيقاع السبائك الصفراء وبيع الأدوية التي انتهت مدتها وذلك بتغيير التاريخ الملصق عليها… يقول البعض إنّهُ الغش وأقولُ بدوري إنّهُ من أخطر وأمسخ أنواع السرقات. كذلك بيع اللحم الميت الذي لا ندري من أينَ جيء بهِ كلحمٍ حي برأيي إنّه جرائم ضدّ الإنسانيّة… القائمةُ طويلة في الزّمن النَّحْس الذي نعيشُ فيه حيثُ كل شيءٍ انمسخ مما أخصبَ أشر الأمراض كالسرطان والسّكّري وما شابه.

إنَّ ما يدعونهُ العبقرية اللبنانية (أو فنّ الوصول بمختلف الأشكال والألوان إلى الغاية المتوخاة وفي أسرع وقت ممكن) تعدّْ من أخطر الآفات التي تنخر هذا الوطن. كذلك هنالك نوع من التزوير الرهيب الخطير الذي تشهده أحياناً بعض الجامعات ألا وهو تزوير الأطروحات فينال الدكتوراه ولقب الدكتور من لا يكتب والدكتور الحقيقي هو المُشتَرى المُزوَّرُ عملهُ وعرقهُ ليتبختر المشتري كالطاووس في الجامعات والمراكز الوظائفية العالية. وهذا ما حصل في مصر مثلاً عندما ناقشَ أحد المرشحين الدكتوراه التي كتبها جامعي فقير لقاء ثمن زهيد فتبارى المحلّفون بالإطراءات على إنجاز هذا العمل الرائع المتميّز مما دفع الكاتب المسكين إلى عجزهِ عن إيقاف دموعهِ المتلاحقة متوجهاً إلى ” الترعة ” التي رمى نفسهُ فيها ليرتاح مرّةً واحدةً من عالم الغش والكذب والنفاق والفقر الذي يعيشُ فيه.