صورة إيران في المنطقة تتغيّـر!

د.بهاء أبو كروم (الحياة)

تتجه الأنظار إلى المفاوضات الإيرانية مع الغرب والصفقة المتوقع إنجازها مع إدارة أوباما، فحيث تتعدد وتتجمع أوراق إيران في المنطقة تصبح الظروف أكثر نضوجاً أمام التسوية وتحصيل المكاسب، هذا من ناحية الاعتقاد الإيراني اعتماداً على القدرة والإمكانيات التي أتاحت لهم التوسع بهذا القدر، وهذا ما يتيح لهم أيضاً الاعتقاد بإمكانية البحث عن تسوية دسمة تأتي على غرار اتفاقية يالطا التي أعادت تقاسم النفوذ في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، إذ استطاع ستالين ترجمة إنجازاته العسكرية إلى وقائع دائمة والحيازة على المناطق التي وصل إليها الجيش الأحمر من خلال تكريسها بمعاهدة دولية.

وما يساعد على ذلك أن في جعبة إيران تسليفها انسحاباً هادئاً للأميركيين من العراق وتعاوناً كبيراً معهم في أفغانستان ومحاربة «التطرف» السني على امتداد ساحات المنطقة.

أخطر ما في الاستراتيجية الأميركية لمقاتلة داعش أنها تفتقد إلى التدخل البري لقوى التحالف وتبحث عمّن يقوم بهذه المهمة بالوكالة، وهذا ما يفتح الباب أمام تنافس القوى الإقليمية على ذلك، إيران من جهة، وتركيا من جهة ثانية، أما إسرائيل فتنتظر أن يأتي دورها في مرحلة لاحقة. هذا عدا عن أن ذلك فتح أيضاً شهيّة الحوثيين في اليمن وقادهم إلى الانقلاب على الدولة بحجة محاربة القاعدة، وعزز مبررات حزب الله للتدخل في سورية، وأعطى نظام الأسد جرعة تفاؤل بحجز مقعد له في هذا الاصطفاف.

وربما من زاوية التنافس هذه تندلع معركة الجنوب السوري التي بادرت إليها إيران وميليشياتها بذريعة توحيد ساحات المواجهة الممتدة من غزة إلى لبنان والجولان، فعادت إلى خطاب المقاومة في مواجهة إسرائيل، الأمر الذي يرتفع منسوبه مع ارتفاع وتيرة التدخل والسيطرة في البلاد العربية.

وإذا ما التزمت الإدارة الأميركية بمقولة «الصبر الاستراتيجي» التي أوضحتها في وثيقة «استراتيجية الأمن القومي»، إذ ذاك تصبح الأبواب مشرعة أمام قتال الإيرانيين العلني في ساحات الشرق الأوسط على اختلافها.

لكن مَن قال إن ذلك لا يأتي في إطار رؤية أميركية تستثمر القوة الإيرانية في سياساتها بعيدة المدى؟ فعلى رغم انعكاس سياسة الولايات المتحدة سلباً على حلفائها التقليديين، من الواضح أن المطلوب من إيران أميركياً يتوقف على مسألتين: الأولى انتقال استراتيجي لإيران دولياً يصب في خانة الأميركيين في صراعهم المستقبلي مع روسيا والصين ويساعد في انتقالهم الهادئ إلى المحيط الهادىء، حتى لو تعارض مع مصالح حلفائهم إقليمياً، والثاني إشغال العالم السني في صراع شرق أوسطي مستدام، تكون إحدى نتائجه استنزاف الطرفين.

فبعد سنوات على مساعدة إيران الولايات المتحدة تأمين خروجها من العراق تنقلب الأدوار وتصبح إيران بحاجة إلى مَن يساعدها على رسم استراتيجية الخروج والبحث عن ترجمات لنفوذها، وهي تضع كل رهانها على رئيس الولايات المتحدة ليحسم صراعاته الداخلية ويقدم لها اتفاقاً مقبولاً يحافظ على النظام ويُبقي على شيء من صورة الثورة التي قامت على المظلومية ونصرة فلسطين. ترجمات قد تكون أقرب إلى الخيال منها إلى عالم عربي يستطيعون قيادته والسيطرة على مقدراته بالطريقة التي أدار بها الاتحاد السوفياتي شرق أوروبا.

أما القتال الإيراني مباشرة في الساحات العربية فتطور ينم عن خسارة إيران لقدرة وكلائها في الإمساك بساحاتهم، وبالتالي فالحفاظ على المكتسبات التي وضعت سورية والعراق ولبنان في دائرة القرار الإيراني باتت تستوجب حضورهم المباشر. وعلى مستوى آخر فقدرة إيران على ترجمة نفوذها الذي راكمته في المواثيق والشرائع والدساتير الوطنية للدول توقفت عند حد الممانعة الواضحة للاعتراف بدورها الإقليمي عبر السياقات المحلية خاصة بعدما حُرم الحوثيون في اليمن من ترجمة إنجازاتهم العسكرية وبناء نظام سياسي يتبع إيران، وتوقف العملية السياسية في لبنان عند حدود التوازن بين القوى المحلية، واندلاع الثورة في سورية وثباتها على رغم كل التواطؤ الذي يجري حولها، وفشل السياسة الإيرانية في العراق وتوريطه بحروب مذهبية.

طبعاً إذا أرادت إيران استتباب الأمر لها في تلك الدول، فالتفاهم مع أوباما يصبح الخيار الوحيد المتبقي!

الأمر بالنسبة للإيرانيين يتعلق بنشوة الاستحواذ على جغرافيا جديدة في سياق الصراعات التاريخية مع العرب والأتراك، ربما تضاف إلى ذلك أعداد من عواصم وشواطئ وبحار ومعابر تسقط في الفوضى وتضاف إلى خطب قادة الحرس الثوري لرعايا الإمبراطورية. وهذا بلا شك من علامات القوة المتنامية لإيران، إنما في المقابل فالأمر لا يزال مقروناً بالانكشاف السياسي والفوضى ووضع الطوائف في مواجهة بعضها البعض والاستنزاف وتقديم الأكلاف الباهظة، وهنا يكمن التحدي الحقيقي.

فأخطاء نوري المالكي في العراق قد تكون نقطة في بحر ما يحصل اليوم من تحولات ديموغرافية وتطهيرات عرقية تحت أنظار التحالف الدولي. أما الوعود التي أطلقتها الولايات المتحدة تسويقاً لحيدر العبادي فهي تتبدّد كلما أوغلت إيران والميليشيات الشيعية في عمق المناطق السنية. رواية التغيير في العراق تأتي استكمالاً لرواية التغيير في إيران مع انتخاب الرئيس حسن روحاني الذي يعجز عن تحرير أقطاب المعارضة من سجنهم والذي لم يشهد نقيضه، الحرس الثوري، تمدداً بهذا الحجم حتى في أوج سلطة سلفه أحمدي نجاد. روايتان سوّقتهما الولايات المتحدة لدى العرب أتاحتا لإيران الخروج من حدودها والتورط في حروب استنزاف، في لحظة تأزم ملحوظ لاقتصادها الذي وضع كل بيضه في سلة الرهان على رفع العقوبات حصراً.

قتال الإيرانيين بمواجهة الثورة السورية في شكل مباشر ليس له ما يبرره، ولا شك في أنه الخطأ المميت الذي وقعت به إيران التي من المفترض أنها اختبرت معنى الثورة ومشروعيتها وقدرتها على مواجهة التحديات، وهذا القتال لا شك أنه يضاعف قوة الثورة السورية ويكرس الحاجة إليها في إطار التوازن الذي يعتمد الآليات ذاتها ويستعمل اللغة ذاتها التي استعملتها أدوات إيران، إضافة إلى أنه يضعها في خانة المظلومية التي شرّعت لإيران ثورتها في 1979، وجذبت نحوها القوى الاجتماعية المهمّشة في العالم العربي. فالثورة السورية هي الرافعة التي يُعوّل عليها لإعادة تصويب التوجهات السياسية في المنطقة على المدى البعيد، وهذا الشعور العام يتكون بفعل السياسة الإيرانية ووقوفها في الجانب الخطأ في المعادلة السورية.