حماية تعددية النسيج العربي من الصهينة

د. أنطوان مسرةّ (المستقبل)

انتشرت عالميًا وعربيًا من خلال وسائل اعلام وجامعات ومُثقفين ينجرفون في سجالات رائجة في سوق الفكر عبارات حول الاسلام «السياسي» والاسلاميين والاسلام المتطرف والتطرف الاسلامي والاسلاموفوبيا والتعصب…، بينما النسيج التعددي الديني والمذهبي في المجتمعات العربية مُهدد من خلال تنظيمات وايديولوجيات تناقض التراث العربي والاسلامي طيلة قرون.

هذه التنظيمات، وما يرافقها من تنظيرات فقهية شكلاً، هي الصهينة بالذات. ما هي الصهيونية؟ انها الترادف بين مساحة جغرافية ودين محدد. أدخلت الصهيونية الى المنطقة العربية عاملاً متفجرًا وهو هذا الترادف الذي لم تعرفه المجتمعات العربية في تاريخها.

فلسفة الشريعة الاسلامية بالذات، خلافًا للتراث الحقوقي الغربي القديم، أساسها الاقرار بتعددية المنظومة الحقوقية في المجتمع الواحد في بعض الشؤون الدينية والثقافية. سعت الحروب المتعددة الجنسيات في لبنان في السنوات 1975-1990 الى فرز مناطق وطوائف في لبنان بوسائل قصرية في مجتمع حيث المجموعات الدينية متوزعة مناطقيًا واحيانًا متوازنة عدديًا. تجاه استحالة هذا الفرز جزريًا تمتد المساعي في المجتمعات العربية الاخرى.

عندما يأتي طالب لاعداد رسالة او اطروحة ويقترح عليَّ موضوع الاسلام «السياسي» والاسلاميين والتطرف الاسلامي… ارفض الولوج في هذه القضايا وادخال جماعات منحرفة الى كبرى جامعات العالم. تدخل هذه الجماعات من خلال اهتمام الجامعات والاعلام في المجال العام وتتحول الى مرجعية في النقاش العام ويتوفر لها الانتشار والدعاية، في حين ان قوى اخرى فاعلة في المجتمع لا تستأثر بالاهتمام.

يبحث اعلاميون عن الاثارة ويعملون على اساس مفهوم آني قديم للحدث ولا يسعون الى استكشاف الحدث المؤسسي الذي يُغيّر في عمق المجتمع. تبعهم منذ سنوات باحثون تُهمهم المواضيع المثيرة اكثر مما تهمهم الاصالة والتغيير الاجتماعي.

لا يوجد اسلام «سياسي» (السياسة في الاسلام موضوع آخر) ولا يوجد تطرف «اسلامي» ولا إسلام «متطرف» ولا اسلام آخر «معتدل»! يوجد تعددية في الاسلام «المسلم». التعددية في الاسلام موضوع آخر جدير بالاهتمام.

يوجد اليوم متصهينون عربًا. الحاجة الى تسمية الظواهر باسمائها ومواجهة صهينة المنطقة العربية من خلال تضافر جهود دينية وجامعية واعلامية وبحثية وعمل مشترك للقيادات العربية الدينية والمدنية.

قد تتصهين المنطقة العربية في زمن حيث تعاني الايديولوجية الصهيونية أعمق مأزق لها في اسرائيل بالذات وفي المساعي المضنية والأليمة للحلول السلمية الشاملة. هل بعض الفقهاء واعون لهذا المسار ام تروق لهم «قوة» الصهينة فيمتثلون بهذه القوة التي هي الفشل الذريع ونقد لأممية الايمان؟

يقول محمد حسنين هيكل عن التحول في النسيج الاجتماعي العربي: «لي ملاحظة تتعلق بمسيحيي الشرق. هناك ظاهرة هجرة بينهم، يصعب تحويل الانظار عنها او إغفال امرها او تجاهل اسبابها، حتى وان كانت الاسباب نفسية، تتصل بالمناخ السائد، اكثر مما تتصل بالحقائق الواقعة فيه. أشعر ان المشهد العربي كله سوف يختلف، انسانيًا وحضاريًا، وسوف يصبح، على وجه التأكيد، اكثر فقرًا واقل ثراء، لو ان ما يجري الآن من هجرة مسيحيي الشرق، تُرك امره للتجاهل او التغافل، او للمخاوف، حتى وان لم يكن لها اساس. اي خسارة لو احس مسيحيو الشرق، بحق او بغير حق، انه لا مستقبل لهم او لأولادهم فيه، ثم بقي الاسلام وحيدًا في المشرق، لا يؤنس وحدته غير وجود اليهودية الصهيونية، بالتحديد، امامه في اسرائيل» (محمد حسنين هيكل، عام من الازمات، 2000-2001، القاهرة، 2002، ص 52).

ديبلوماسية أديان مخيفة وأديان خائفة

ما هو منبع الخوف الذي امتد عربيًا وعالميًا من أديان مخيفة (اسلاميين، تطرف اسلامي، اصولية…) وأديان أخرى أصبحت خائفة من اسلام واسلاميين ومتطرفين…؟ منبع الخوف هذا هو أنظمة استبدادية عربية عممّت الوهم عالميًا انها هي الضامنة لعدم وصول متطرفين الى الحكم وان بديلها هو التطرف والارهاب!

استوعب مسيحيون عربًا ايديولوجية الحماية من التطرف فأصبحوا خائفين من البديل وينظّرون خوفهم بتصريحات ومقولات وسلوكيات تتناقض مع التراث المسيحي العربي في نشر الديمقراطية والحريات وحقوق الانسان. عمّمت أنظمة سلطوية في المنطقة العربية مقولة خدّرت بها شعوبها وشعوب العالم وغلّفتها بظواهر احترام التعددية الدينية! انها مقولة الخوف والتخويف من الاسلام ومن تيارات اسلامية واسلاميين…! استوعب مسيحيون عربًا تمامًا هذه الايديولوجيا التخويفية وهضموها ونشروها في حياتهم اليومية فانتقلوا من مسيحية الأصالة والنهضة العربية الى مسيحية خائفة وذميّة وداعمة لأنظمة قمعية.

وظهر نتيجة ذلك سياسيون مخادعون ومُحترفون في التلاعب بالغرائز لاستغلال مسيحيين خائفين وربطهم في تحالفات داخلية واقليمية خارج المسار التاريخي الطبيعي للبنان ولكل المنطقة العربية. وصمت مسلمون مُستنيرون أو تواطئواا مع أنظمة قمعية تهدد الناس بالخطر «الاسلامي» البديل!

لا نبحث هنا في السياسة حسب سجالات سائدة، بل في الايمان والاديان ورسالتها ودورها في ارساء السلام الاجتماعي والعلاقات بين الناس وفي ضرورة احياء التراث العربي في ادارة التعددية الدينية والثقافية. أي انحطاط وصلت اليه ذهنيات عربية ومجتمعات غربية مسماة راقية في تحويل الله والايمان والأديان الى منبع خوف وتخويف! أنظمة سلطوية مُتخصصة في مخادعة الناس وتدعي حماية الناس من بعض التوجهات الدينية المتواطئة أو الخائفة من الأديان هي التي استدرجت الناس الى ذلك. ما هذا الدين الذي يخيف الناس ويُستغل من سلطات قمعية لتخويف الناس وادعاء الحماية؟ ومن هم هؤلاء المسيحيون الخائفون من الاسلام؟ لم يخطئ كارل ماركس في قوله ان الدين أفيون الشعوب الا في عدم تركيزه على من يُوزع هذا الأفيون لتخدير الناس وحملهم على الطاعة لطغاة يدّعون الحماية. من يحمينا من حماتنا؟

تعددية النسيج الديني والثقافي العربي

كيف يحافظ العرب على تعددية نسيجهم الديني والثقافي في عالم تجتاحه تيارات تعصب وانغلاق؟ حماية تعددية هذا النسيج هي لصالح الجميع، مسلمين ومسيحيين…، فلا يصاب العرب بعدوى صهينة سعت وتسعى الى الترادف بين مساحة جغرافية وهوية دينية. لا يعني ذلك دور المسيحيين العرب المسيحيين فقط، بل كل المسلمين الذين قد يفتقرون الى غنى تراثهم في ادارة التعددية الدينية والثقافية.

في البدء بين الدين والسلطة مُخادعة وتلاعب وتكاذب مُضمر وفاضح في آن. بشأن نص الإنجيل حول التمييز (ولا نقول الفصل) بين الديني والدنيوي ان الذين يذكرون قول المسيح: «اعطوا لقيصر ما لقيصر ولله ما لله» يغفلون مقدمة النص التي هي أساس المعضلة. جاء في المقدمة:

«ان الفريسيين ارسلوا اليه جواسيس يُراؤون أنهم صدّيقون لكي يأخذوه بكلمة فيسلموه الى سلطة الوالي فسألوه قائلين: «يا معلم أيجوز لنا ان ندفع الجزية لقيصر أم لا؟ واذ أدرك مكرهم قال لهم: اروني دينارًا. لمن هذه الصورة؟ وهذه الكتابة؟ قالوا: لقيصر. قال لهم: ردّوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله. فلم يستطيعوا أن يأخذوا عليه شيئًا في هذا الكلام أمام الشعب، بل دُهشوا من جوابه ولزموا الصمت» (لوقا، 20، 20-26، متى 22، 15-22، مرقص 12، 13-17).

لم يأتِ الفريسيّون للاستعلام حول مسألة وضعية في الفلسفة السياسية او الحق العام. هذا المنحى لا يهمّهم بتاتًا. جاؤوا من جهات استخباراتية لاستغلال المحمول النزاعي في السياسة لغاية مختلفة عن الخطاب المعلن. ليس في النص لا فصل ولا تمييز بالمعنى المتداول، بل استغلال الدين لأهداف سلطوية.

تراث دستوري عربي قابل للتطوير

ما هو الاسلام المسلم؟ كيف نحمي النسيج التعددي العربي من الصهينة؟ ربما بعد انهيار أنظمة تسلط التي هي الشر المطلق انتهى التخويف من الاسلاميين. تطرح اليوم مشيَخة الازهر شؤونًا جديدة. يتوجب على المرجعيات الدينية، مسيحية واسلامية، ان تحسم موقفها بمنتهى الصراحة والوضوح، مع تحديد الأطر الحقوقية للحريات الدينية. يقتضي استخلاص القيم المفتاحية وتحديد تراتبية القيم في الاسلام وأولوياتها (الرحمة، التقوى، العدل، لا اكراه في الدين…) والحاجة أيضًا الى لاهوت تحرر مسيحي عربي ومقاومة تفريغ المنطقة من تنوعها. ويتطلب الربيع الديني خطابًا بدون مواربة او التباس او ضبابية او نفاق، اي خطاب واضح لا يخشى خسارة فئة.

يتمظهر الافتقار الى نظرية عامة في مؤلفات في القانون الدستوري حيث مُؤلفون، عندما يتطرّقون الى بعض المواد في الدستور اللبناني وفي دساتير عربية عامة حول ادارة التعددية الدينية والثقافية يُسارعون في ادراج الموضوع في اطار مصطلح «الطائفية» وايديولوجيات الرجعية والتقدمية حول أشكال ادارة التنوع الديني والثقافي.

ضَرَبت الأنظمة العربية بدرجات متفاوتة التقاليد الدستورية في الفدرالية الشخصية (أنظمة الملل، حرية التعليم للمؤسسات الدينية، ضمان المشاركة في الحياة العامة…) بحجة تحقيق الاندماج، او بالاحرى «الانصهار» أي بقوة الحديد والنار. وترافقت الايديولوجيات الإندماجية القسرية عربيًا مع ذهنية الاستيلاء على الارض بين مجموعات دينية وتقاسم السلطة جغرافيًا ومذهبيًا بشكل يتخطى مُجرد التنافس الانتخابي النيابي والبلدي. أدى ضرب التقاليد الدستورية العربية بعد عهود ما سُميّ التحرر الى تفكيك مساعي الوحدة والى تأزيم العلاقات بين الشعوب.

أستهجَن باحثون بالمطلق، بسبب اغتراب ثقافي، بعض أشكال إدارة التنوع على اسس شخصية من دون دراسة آليات الضبط الحقوقية الضرورية لهذا النوع من المنظومات. ان الادارة الذاتية الحصرية، في بعض الانظمة في العالم (الهند، أفريقيا الجنوبية، نيجيريا، بلجيكا، لبنان…) يجب ان تتضمن في سبيل انتظامها خمسة شروط على الاقل:

– ان تكون محددة لبعض القضايا.

– ان تتولى هيئات مركزية ضبط المعايير بشأنها. يُذكر في حالة لبنان دور محكمة التمييز في قضايا الاحوال الشخصية والدور الناظم لوزارة التربية والتعليم العالي.

– ضرورة توافر مخرج out) (opting بحيث لا يجوز إرغام شخص على الانتماء الى مجموعة او طائفة.

– أطُر لامركزية ادارية فاعلة في سبيل تسريع عملية التقرير التي قد تتعطل بسبب تجميع القضايا داخل السلطة المركزية وادخالها في صراع على النفوذ.

– ثقافة المجال العام العابر للطوائف (transcommunautaire) للحؤول دون الانغلاق.

مع انهيار الحدود، بفعل عولمة وسائل التواصل وحرية انتقال الاشخاص والسكّان، تُطرح بصورة مُتزايدة مُشكلة حماية الحقوق الثقافية على الصعيدين الجغرافي والشخصي. يقتضي، بالنسبة للمجتمعات المتنوعة البنية، البحث في كيفية توطيد فدرلة تنسجم مع المبادئ الانسانية وحقوق الانسان، ولا تكون حصيلة هندسة شعوب جراحية في تهجير أو ابادة أو تطهير اثني او اندماج قسري. ان اشكالية ربط الهوية بالجغرافيا وإن تبدو طبيعية في ايديولوجية الدولةالامة فانها قد تكون انتحارية ودموية، بخاصة في زمن التواصل ضمن مجالات مُتحركة مادية ورمزية وحيث التباينات الدينية او الثقافية هي غالبًا غير متمركزة في مجال جغرافي مُحدد.

ماذا فعل العرب بعد العهود التي سُميت سابقًا تحررًا بتراثهم الدستوري طيلة اكثر من اربعة قرون؟ تَخَلُّوا بالمطلق عن بعض تنظيمات الماضي من دون السعي الى عصرنة هذه التنظيمات. واعتمدوا سياقات ايديولوجية في التحديث من دون استيعاب موجباته. انه مأزق بعض الفكر العربي وبعض الفكر التوحيدي العربي.
————————————-
(*) عضو المجلس الدستوري، وكرسي اليونسكو للاديان المقارنة والحوار في جامعة القديس يوسف.

النص هو موجز مداخلة في المؤتمر السنوي الدولي التاسع لمركز كربلاء للدراسات والبحوث، محور «العلاقات المسيحية الاسلامية»، الكربلاء (العراق)، 9/1/2015.