اللبنانيون متمسكون بالدولة رغم كل الخلافات

د. ناصر زيدان (الانباء الكويتية)

الارتجاجات غير الطبيعية التي تُصيب لبنان من جراء الأزمات الداخلية المُتراكمة، ومن انعكاسات الأوضاع غير الطبيعية والمتوترة في محيطه، لم تؤسس لمقاربات جديدة يمكن أن تلغي العقد الاجتماعي الذي بُنيت مداميكه في العام 1920 واستُكملت في العام 1943، وتمَّ ترميمها في إتفاق الطائف في العام 1989 – وبصرف النظر عن الشكوك في مدى مُلاءمة الصيغة اللبنانية الحالية لمعايير القوانيين الدولية، ولإخلال هذه الصيغة بمبدأ المساواة من خلال اعتمادها على الطائفية السياسية، التي تحمل شيئاً من التمييز بين المواطنين – لكن هذه الصيغة تبقى أفضل المُمكن لتأمين الإستقرار لدولة فيها تنوعٌ غريب عجيب من القوى السياسية والطائفية، ولكل منها ارتباطاته ومرجعياته في الخارج.

بالرغم من كل الشوائب التي تُحيط بالوضع اللبناني، يبقى لبنان بلد التسويات، ومُبتكر المُعالجات، ويحمل في كنفهِ خلطةٌ مُتميزة، تجمع بين الرُقي الحضاري الذي يستند إلى الاعراف والقوانيين، وبين العشائرية والعصبية التي تحمل في طياتها بعضاً من الفوضى التي تبعث على التشتُّت وتُهدِدُ بالانحلال.

صُودِف أن أكون أحد المُشاركين في طاولة حوار جمعت كوكبة من الشخصيات اللبنانية من مختلف الاتجاهات السياسية والدينية والاجتماعية وأساتذة في علم السياسة والقانون، انعقدت بشكل مُغلق في كلية الطب في الجامعة اليسوعية في بيروت الأسبوع الماضي، وكان عنوان الحوار “مستقبل لبنان في ظلِّ الاخطار المُحيطة به”.

النقاش الذي دار بين الحاضرين- ومنهم نواب وقيادات حزبية- تناول قضايا جوهرية، غالباً ما تراعي وسائل الاعلام عدم التطرُّق اليها في العلن، فرغم كل شيء ما زال اللبنانيون يراعون بعضهم البعض في مسائل حساسة، كما أن لكل من مكونات المُجتمع اللبناني خصائص، عادةً ما لا يبوُح أفراد إحدى هذه المجموعات بخصائصهم الاجتماعية والدينية والسياسية امام افراد من المجموعات الأُخرى، إلا أن سرية المداولات التي جرت على الطاولة المذكورة بعيداً عن وسائل الاعلام، سمحت لبعض المُشاركين التحدُّث بأكثر مما يُسمح به في النقاشات العلنية.

مما لا شك فيه أن الاختلافات السياسية بين اللبنانيين واسعة جداً، وقد توضَّحت مُعطيات مُخيفة عن توقعات مُستقبلية لا تبعثُ على الاطمئنان، خصوصاً منها الحديث عن الانشطار الواسع بين شرائح البيئة الاسلامية، أو ما يُطلق عليه (الصراع السني- الشيعي) فقوى اساسية من مُمثلي الحراك المُعلن من الفريقين، ينسبون مثلا: كل دور يقوم به حزب الله- لا سيما في سوريا- إلى كل الشيعة، وفي الجهة المُقابلة يتم الصاق كل أفعال المنظمات التكفيرية المُتطرفة- مثل داعش وغيرها- إلى كل السُنَّة، وهذا بالتأكيد تشخيصٌ غير واقعي، وغير صحيح، ولكن عدم صحته لا يخفي بالضرورة ارتداداته، وكونه سبب رئيسي للتوتر القائم بين الفريقين.

أما على الضفة المسيحية، فإن المخاوف المُستقبلية، تتزايد بشكلٍ واضح، من جراء الاستهدافات الوجودية لهؤلاء في العراق وسوريا وليبيا، ومن جراء الفراغ في سدة رئاسة الجمهورية في لبنان للشهر التاسع على التوالي، والرئاسة اللبنانية بالنسبة للمسيحيين لها رمزيتها الكيانية، كما لها صلاحياتها الضامنة من أي تجاوزات.

بصرف النظر عن بعض الصراخ الذي قد يتجاوز حدود الاختلافات الديمقراطية في الرأي، برزت مجموعة من المُحددات التي تبعث على التفاؤل، ولها دلالاتها الواسعة، ويمكن أن تكون خميرة في وعاء تُعجَنُ فيه وليمةُ المُستقبل، تحمل بذور وحدةٍ أكثر مما تحمل بذور تفرقة، بالرغم من الصورة المُخيفة التي تظهر على شاشة المشهد.

اولاً: كل الاطراف السياسية اللبنانية، ومعهم ممثلي المجتمع المدني والأكاديمي، مُقتنعون بالابقاء على العقد الاجتماعي القائم بين اللبنانيين، والذي ينتجُ عنه سلطة سياسية، فيها من المؤسسات المدنية والقضائية والعسكرية والمالية، ما يُحافظ على حياة المواطنين واستقرارهم ومُستقبلهم، وكل الأطراف والقوى مُتفقة على أنه لا يوجد أي بديل عن هذه المُشتركات، والدولة الموحدة – على هشاشتها – تبقى ضرورةٌ وطنية جامعة، وتفكيكها يُصيب البلاد بفوضى واضطراب لا يمكن لأحد تحمُّل نتائجه، حتى أولئك الذين يشعرون بفائض من القوة.

ثانياً: هناك قناعة عند كل أطراف العقد اللبناني، أنه لا يمكن لأي جهة حزبية، أو طائفية، إرساء مُقاربة سياسية وقانونية قابلة للحياة، مهما كان حجمها السياسي، او العسكري، والتعاون مع المكونات الأخرى ضرورة لا يمكن تجاوزها، مهما بلغ حجم الاختلاف. وما ينطبق على الخصوصية اللبنانية بفسيفسائها المُربِك، لا يتشابه مع اي كيانٍ آخر في المنطقة، اذا لم نقُل في العالم. فلبنان أكبر من بلد، إنه رسالة، وفقاً لتعبير الارشاد الرسولي.

مجموعة الاختلافات العميقة بين اللبنانيين على القضايا الداخلية الحساسة، ومنها الاخفاق في انتخاب رئيس جديد للجمهورية وعدم التمكُّن من إجراء إنتخابات نيابية، كما التباينات الواسعة حول ما يحصل في المنطقة- خصوصاً في سوريا والعراق- كل ذلك يعطي الاهمية لما يجري من حوارات داخلية بين قوى لا يمكن لها ان تتفق على خطٍ سياسيٍ بيانيٍ واحدا، خصوصاً حزب الله وتيار المُستقبل، والتيار الوطني الحر والقوات اللبنانية، ولكن هذه الحوارات تؤكِّد ان اللبنانيين متمسكون بوحدة الدولة ومؤسساتها، وليس لهم خيارٌ آخر غير ذلك رغم اتساع الخلافات، والحوار له دلالات ساهمت في خفظ التوتر، بصرف النظر عن النتائج.

اقرأ أيضاً بقلم د. ناصر زيدان (الانباء الكويتية)

إخفاق في معالجة زحمة السير

الانتخابات والمحاذير المخيفة

الخلافات العلنية والتفاهمات السرية

انتخابات لإثبات الوجود السياسي

الانتخابات تفرق شمل الحلفاء

هل انتهت الأزمة السياسية بين التيار و«أمل» مع انتهاء الهيجان السياسي؟

كيف أطاح قانون الانتخاب الجديد بالتحالفات التقليدية؟

إعادة الحياة إلى وسط بيروت قرار في منتهى الأهمية

عن ذكرى استشهاد محمد شطح «رمز الحوار»

دوافع بيان مجلس الأمن؟

لا مستقبل للسلاح غير الشرعي

هل شملت التسوية الجديدة كل أطراف العقد الحكومي؟

مساكنة حكومية إلى ما بعد الانتخابات

عن شروط الاستقرار في لبنان

القطاع الزراعي اللبناني على شفير الانهيار

لملمة الوحدة الوطنية

ما أسباب مخاوف بري على «الطائف»؟

زيارة الحريري إلى موسكو بين الواقع والمُرتجى

المجلس الدستوري يربك القوى السياسية

الجيش اللبناني ومواجهة المستقبل