الثمن العربي للسياسات الأميركية

غازي العريضي (الاتحاد الاماراتية)

لا يكفي الواقع الكارثي الذي تعيشه غزة بعد حرب إسرائيل عليها في يوليو الماضي والدعم الأميركي لها. لا تكفي التقارير الواردة من هناك حول الجوع والفقر والتشرد والخراب وانسداد الأفق أمام الفلسطينيين الذين تكتب روايات عن معاناتهم ومآسيهم تولّد في نفوس أجيال الكراهية والحقد والغضب ضد الإسرائيليين ومن يؤيدهم، وتبقي أبواب الحرب مفتوحة وعوامل تنامي حالات التطرف وامتداد «الإرهاب» قوية ومبررة. لا يكفي كل ذلك، حتى يصدر في هذا التوقيت قرار« قضائي» أميركي يلزم السلطة الفلسطينية بدفع تعويضات لعائلات أميركية تضرّر أبناؤها من عمليات نفذتها المقاومة ضد الاحتلال! قيمة التعويضات تقارب الـ 350 مليون دولار، وقد تصل إلى المليار دولار! السلطة محاصرة. إسرائيل لا تحوّل لها الأموال المستحقة من الضرائب. السلطة مفلسة، وعليها أن تدفع مليار دولار. ستكون سلطة مرهونة! وإنْ استمر الحال على ما هو عليه ستكون فلسطين مرهونة بمصيرها للإسرائيلي والأميركي. فماذا ينتظر العالم من الفلسطينيين، الذين عندما ذهبوا إلى محكمة الجنايات الدولية لمقاضاة إسرائيل على جرائمها المستمرة ضدهم، هددتهم الإدارة الأميركية بقطع المساعدات عنهم، بالتلازم مع التهديد الإسرائيلي بفعل كل شيء ضدهم؟ إسرائيل شددت إجراءاتها أكثر وأميركا نفذت بسرعة! ممنوع مقاضاة إسرائيل. ممنوع محاكمة إرهابييها وعسكرها النظامي، الذي قتل أميركيين ولم نشهد محاكم أميركية تؤكد حقهم، وتلزم إسرائيل بالتعويض عليهم وأبرز الضحايا «راشيل كوري» الشهيرة التي سحلتها الدبابات الإسرائيلية لأنها شاركت في نشاط عنوانه «السلام في فلسطين». أكرر القول دائماً: الفلسطيني المقبول هو الفلسطيني المقتول. وكل أميركي يدافع عن السلام مصيره السحل. والمحاكم الأميركية لا ترى إلا بعين الإرهاب الإسرائيلي!

القرار الأميركي اليوم، ولو قيل إنه قضائي، هو سياسي بامتياز، سيؤثر معنوياً وسياسياً على الفلسطينيين المصابين بخيبة أمل وصدمة، ويعيشون في الأساس حالة قلق بعد سقوط كل الوعود باعادة إعمار غزة، وفك الحصار عنهم. والقرار سيؤثر على أهم المصارف الفلسطينية «البنك العربي» الذي ينتظر قراراً بحقه في يوليو المقبل بحجة أنه يدعم الإرهاب – تحويلات إلى «حماس» – كما أن القرار رسالة واضحة للسلطة لمنعها من استكمال خطواتها في محكمة الجنايات الدولية التي توجهت إليها إسرائيل بدعاوى ضد الفلسطينيين لأنهم قتلوا أبرياء. العصابة الحاكمة في إسرائيل برئاسة نتنياهو تلقت القرار بفرح كبير. وشددت على ضرورة متابعة هذا المسار لمعاقبة «الإرهابيين»! واعتبر عدد من أركانها أن القرار يشكل مستنداً قانونياً يعزز وجهة نظرها ويدعم خطوات نتنياهو السياسية ويؤكد أن الإرهاب على أرض فلسطين يستهدف الجميع، وأن ما تقوم به العصابات الإسرائيلية يشكل دفاعاً عن السلام والاستقرار في المنطقة والعالم!

في هذا التوقيت تنظم إدارة أوباما مؤتمرات في واشنطن لمواجهة «داعش» والإرهاب في المنطقة، وتحاول التأكيد على أن المعركة ليست مع الإسلام بل مع منظمات تستغل الإسلام لتعميم الإرهاب. وأكد أوباما نفسه أن المواجهة لا تتم بالقضاء على عناصر بشرية فقط، فالمطلوب مواجهة سياسية وإعلامية وما شابه! ترى هل السياسة المعتمدة حيال الفلسطينيين وحقهم في الحياة على أرضهم وإقامة دولتهم المستقلة عليها تشكل قاعدة لمواجهة الإرهاب أم أنها تولّد التطرف، وتوسّع دائرة العنف وعدم الاستقرار وقد يستغلها كثيرون لتنفيذ عمليات قد يصنفها البعض في خانة الإرهاب؟ وهل يمكن الاكتفاء بالادعاء بأن الإدارة الأميركية هي على خلاف مع نتنياهو، وتحاول إسقاطه في الانتخابات المقبلة والاكتفاء بذلك، لإقناع الفلسطينيين والعرب والمسلمين بسلامة السياسة الأميركية وضرورة الشراكة للانخراط في مواجهة الإرهاب معاً، في وقت ومهما بلغ الخلاف حدةً بين أوباما ونتنياهو تبقى أميركا منحازة إلى الخيارات الإسرائيلية في واقع الحال وتغطيها ولو من باب الأمر الواقع لأسباب كثيرة؟ وفي هذا السياق، فإن الذين يعارضون نتنياهو لا يقلّون تشدداً عنه في رفض إعادة إعمار غزة قبل تجريد أهلها من السلاح! فما الفرق بينهم ما دام الهدف واحداً ولا حل عادلاً يعطي أملاً للفلسطينيين؟

لن يكون هناك أمن واستقرار في المنطقة، ولن يكون عمل جدي لمواجهة الإرهاب واستئصال أسبابه إذا لم تتكرس العدالة الدولية على أرض فلسطين. وإذا لم ينل الشعب الفلسطيني حقه على أرضه. ومهما تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية، التي تتقدم عليها قضايا اليمن وليبيا والعراق وسوريا والبحرين ومصر، وغيرها وغيرها، فإن هذه القضية تبقى الأساس وحلّها يبقى العنصر الأول الضامن للاستقرار، وأبرز عامل من عوامل مواجهة موجات التطرف في المنطقة. وعامل الوقت أساسي في هذا المجال.

كان الفلسطينيون لا يزالون ينتظرون حقهم، والتعويض على الكوارث التي حلّت بهم، فإذا بالإسرائيلي يكرّس سياسة القبول بالفلسطيني المقتول فقط، وإذا بالأميركي يتخلى عن حق عائلة الأميركي المقتول المسحول بالدبابات الإسرائيلية ليكافئ الإرهاب الإسرائيلي ويعاقب الفلسطيني الضحية!

بين «قضاء» أميركا و«قدرها»، ينمو في فضاء المنطقة وعلى أرضها كل أشكال الإرهاب والعرب يدفعون الثمن.