مع إريك رولو اليهودي المصري الفرنسي الصحافي الكبير الذي غادرنا

أحمد منصور

لقد غادرنا الصحافي الفرنسيّ الكبير “المدرسة الذي إنتمى للإنسان أينما كان فغطّى بهِ كلَّ إنتمائاتهِ. عاشَ جهادهُ الأكبر بغسل ما ورثهُ بالمعرفة التي إكتسبها بالمعاينة بمعاناتهِ المتنوعة المتباعدة المتلاقية بينَ المسافات نحو الهدف الأسمى صورة الله على الأرض.

إننّا في هذا المقال أمام ظاهرة غير عاديّة أمام صحافي أنموذجي تجلّى فسطع في “اللوموند” “العالم” جريدة الوطن في فرنسا وفرنسا في العالم. أرادها الجنرال ديغول المحرّر والرؤيوي بعد الحرب العالميّة الثانية صوت عودة فرنسا القديمة العظيمة من تحت الرّماد والخراب والدّمار إلى شعب الثورة في بلاد الغال وإلى العالم أجمع من خلال أهمّ صحيفة لا في فرنسا فحسب لا بل في أوروبا.

هذا الصحافي المدرسة الفريدة في نوعها ليس إلاّ إريك رولو (إيلي رفول سابقاً عندما كان في مصر) وهذا ما تفنّنن فيه ” أبناء عمومتنا ” اليهود ففرنسوا أسماءهم وأتقنوا لغة فيكتور هيجو.

إريك (إيلي) وُلدَ في القاهرة (أبوه من أصل حلبيّ) عام 1926 ودرس الحقوق فيها كما مارس الصّحافة في يوميّة ” إيجابشين غازيت “ الناطقة بالأنكليزيّة بعد أن رفض جميع الإغراءات في المجالات الأخرى.

هاجر إلى فرنسا عام 1950 فعمل (وهو الفرنكوفوني) في وكالة الصحافة الفرنسيّة ومن ثمّ التحق بالجريدة العظيمة “اللوموند” فشرّعها على الشرق الأوسط وإفريقيا خلال ثلاثة عقود من الخمسينات إلى أوائل الثمانينات من القرن الماضي فكان كما وصفه صديقه الدائم جان غيراس “شمس اللوموند التي لا تغرب أبداً”.

ذهب منتشياً إلى وطنه الثاني الفرنسي دون أن ينسى وطنه الأول مصر التي اضطرّ لمغادرتها ولكن ليعود إليها عودة الفينيق فكان يرصد ويستشرف أحداثها ليكون السبّاق في نشر الحدث قبل سواه بشكلٍ مؤكدّ … مما أعطى أهميةً لا حدَّ لها لجريدته في المنطقة العربية والشرق الأوسط وإفريقيا والعالم أجمع وهذا ما لفت إنتباه عملاق العرب آنذاك القائد جمال عبد الناصر فكان كلاهما يريدان النّفاذ في مخططاته وأهدافه ليدخل في الآخر “فلوموند” باريس أقرب بكثير إلى القاهرة من “نيويورك تايمز” نيويورك… وهذا ما كان في مصلحة الإثنين صادراً عن إعجاب وتقدير متبادل بين الإثنين.

لقد حرره عمله الصحافي الإبداعي من يهوديته الموروثة إلى حـدٍّ كبير ورأى نفسه يعمل ضمن دائرة الإنسان والقيم فلو ذهب لأسرائيل واستقرّ بها ومارس الصحافة لكان دوره محدوداً ومغموراً كالسّمكة في بركة صغيرة موحلة خانقة. فهو لم يسقط في المستنقع كالكثيرين من اليهود الذين بلعتهم إسرائيل فحوالي ثلثي اليهود سيّما الأقوياء والأذكياء والأغنياء ما زالوا في القارات الأخرى وإن لم يتخلّوا بشكل أو آخر عن إسرائيل ولكن من بعيد.

إريك بنى علاقات كثيرة مع عدّة زعماء كمصطفى البرزاني الكردي وذهب إلى إيران الشاه الذي سمّاه “الوجه الواحد للعملة” وغطّى انقلاب تركيا 12 أيلول 1960 ووصل إلى الكونغو البلجيكي سابقاً وعاين عن كثب إغتيال القائد باتريس لومومبا بطل الاستقلال في 17 كانون الثاني 1961.

كيف دخل إريك المنطقة من عبد الناصر القاهرة بابها العريض ؟

لقد شهد العالم العربي أحداثاً تاريخية من وحدة مصر وسوريا عام 1958 وإنقلاب العراق وأحداث لبنان وتغيير النظام في اليمن والحرب الأهلية التي تلت ذلك.

إريك رولو الذي أراد أن يكون دائماً شاهداً على الحدث أخذ يتالّم فلم يعد يكفيه رصد الأحداث عن طريق الإذاعات وسواها من الوسائل فهو يكتب عن منطقة يهوديّته تقف حاجزاً أمام الدّخول إليها ومن هنا حالفه القدر من جديد فاستقبل دعوة من عبد الناصر شخصيّاً لمقابلته في القاهرة في بداية صيف عام 1963 وهكذا فتح الزعيم العربي مصراعي المنطقة انطلاقاً من القاهرة إلى الصحفيّ المقيّد كيف لا ؟ إنّه عود إلى بدء من وطنه الصحفي إلى وطنه الطفولي.

وما زال القدر حليفه فكان في القاهرة إبّان حرب النكسة 1967 وخلال الحرب الأردنية الفلسطينية في عمان 1970 وليلة وفاة عبد الناصر 28/9/1970 في أرض الكنانة.

لقد كان إريك دائماً الضيف الاستثنائي في الفنادق الكبرى فكان المسؤولون لا يبخلون عليه بالمعلومات الهامة الموثوقة.

لقد قابله الكثير من قادة إسرائيل ولم يرض مقابلته البعض “وقـد اعتبره الكثيرون” خائنـاً “عميـلاً مصرياً”  “وعدواً يعيشُ فيهِ كره الذّات”.

صديقهُ اليهودي المحامي المصري كانَ مَثَلَهُ الإنساني الأعلى إذ رفضَ مغادرة مصر حتّى مماته ناقشاً على ضريحهِ: “أنا أسود عندما يُضطهد السود

أنا يهودي عندما يُضطهد اليهود

أنا فلسطيني عندما يُضطهد الفلسطينيون”

بالإختصار هو إنسانٌ إنسانٌ قبل وبعد كل شيء.

جارى إريك صديقهُ المصري صاحب هذه الكلمات بقولهِ عندما كانَ في الإجتماع الأول لسفراء فرنسا في العالم بباريس، وذلك عندما وصلَ دورهُ ليقدم نفسه: فقال: الأسم: إريك رولو. البلد: “اللوموند” يقصد العالم بالعربية. إنهُ جوابٌ تلقائيٌ رائع عندما يتماهى الإنسان مع عملهِ ترجمانَ رؤياه في هذا العالم يقصد عالمنا بقاراتهِ الخمس.

موقف رولو من إنتمائهِ العَرَضي اليهودي ومن قضية فلسطين

أحبَّ رولو أن يزور البيت الذي شهد ولادتهُ في مصر الجديدة. قرعَ الجرس فلقي أستقبالاً لطيفاً من ساكنيه. روى لهم حكايتهُ فإذا هم فلسطينيون ينفجرون من الضحك وعلى أثر ذلك ربطتهُ بهم صداقة وكأنهُ جارهم.

هكذا نرى هذا الصحافي معنياً بالواقع أكثرَ من أي مواطن في الغرب. فلذلك كانَ يتمنّى من كلّ قلبهِ تعايشاً بين اليهود والفلسطينيين مبنياً على إنشاء دولةٍ فلسطينية إيماناً منه بأنها ستوفّر الأمن بالمنطقة. وهذا ما دفعهُ لتجاوز دورهِ الصحافي إلى الدبلوماسي ساعياً غلى تحقيق زيارة ناحوم غولدمان رئيس المؤتمر اليهودي العالمي إلى القاهرة للقاء عبد الناصر ووضع مشروع حلّ للصراع العربي الإسرائيلي ولكنَّ مشروعهُ في النهايةِ لم يحالفهُ الحظ فإسرائيل لا تريد السلام.

إسرائيل في الثابت والمتحرك مع الفلسطينيين والعرب

ما تتميز بهِ الطبقة السياسية في إسرائيل هو الذكاء غير العادي والمكر غير العادي القائمان على القوة الأقوى في المنطقة على جيرانها العرب. فسياستها لها وجهان الظاهر والباطن ولأن تلاقى الباطن والظاهر إضطراراً عابراً في تعبيرٍ واحد فما ذلكَ إلاّ للتمويه وكسب الوقت وخداع العالم. يصحُ في وصفها: ” الذي رأى رجلاً يذبحُ دجاجة فصرخ متأثراً: أنظروا دموعَ هذا الرجل كيف تتدافعُ على وجنتيه؟ فأجابهُ آخر شاهداً على المشهد ولكنكَ لا ترى ما تفعلُ يداه”.

وهذا ما يذكّرني بصورةٍ للجزار شارون في مجلة التايم الأميركية يحتضنُ بحنانٍ غامر كالطفلِ كلباً صغيراً …. فسبحان الله !…

شارون هذا الذي يعبّر بمنتهى الهمجية عما يريده. بينما الآخرون بعضهم يتصرفون بمنتهى الدبلوماسية والإحتيال.

قد يكون شارون الأكثر إجراماً وإرهاباً في تاريخ إسرائيل وهو الذي لا يريد الدخول في محادثات سلام مع الفلسطينيين طالما أستمر “الإرهاب”. وهكذا نراهُ يجلب الماء إلى طاحونة جورج بوش الإبن ويزداد التحالف قوةً بين الأثنين.

لقد ترجّاهُ عرفات بعدم إقتحام المسجد الأقصى مع جنوده فأبى فكانت الإنتفاضة الفلسطينية الثانية التي كلّفت الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي الكثير من الخراب وإزهاق الأرواح.

ومن هذه الزاوية رفض على الفور العرض التاريخي الذي وافقت عليه الدول العربية قاطبةً عام 2002 الذي ينّص على تطبيع كلّ العلاقات مع إسرائيل شرط أن تبرم الأخيرة إتفاقَ سلامٍ مع الفلسطينيين. وقد كشفَ ونستون تشرشل الثالث حفيد تشرشل رئيس وزراء بريطانيا المشهور بأن شارون قد اسرَّ لهُ بقولهِ: ” الفلسطينيون سنصنع منهم شطيرةً. إذ سنُدْخِلَ فيما بينهم مجموعةً من المستعمرات وسلسلةً من المستوطنات من جانبٍ آخر في الضفةِ الغربية بحيث لا يقدر أحد على تفكيكها لا الأمم المتحدة ولا الولايات المتحدة”. يُعقّب رولو قائلاً: والحقيقة أن السابقين عليه والتالين لهُ على رأس الحكومة لم يصنعوا سوى ذلك وهذا ما يذكّرنا بشبيهِ نتنياهو بعدَ موافقة أكثر من 130 دولة على فلسطين كدولةٍ عضو مراقب بإشادة حوالي أربعة آلآف وحدة سكنية لعزل القدس نهائيّاً عن الضفة الغربية ومنعها لأن تكون عاصمة الدولة الفلسطينية. ولتبلّطْ الأمم المتحدة ومجلس الأمن البحر….. فالولايات المتحدة حقّها الفيتوي في الجيب. كأن شيئاً لم يكن. ناهيكَ عن مئات الآلاف في مستوطنات الضفة الغربية والجولان. وإن لا فلتجعجع الولايات المتحدة والأمم المتحدة وبظهرهم مؤتمر القمة الإسلامي والجامعة العربية … (يا جبل ما يهزّك ريح).

image

فأسطورة ” المحارب ” ” بطل السلام ” ترويجٌ له لا يثير إلاّ السخرية والإشمئزاز. فهو نعتَ عرفات ورابين بالمجرمين بعدَ إبرام إتفاقيّة أوسلو وليس من المستغرب أن تساهم حملتهُ في إغتيال الأخير، كما انهُ ليسَ مستبعداً عن تصفية ياسر عرفات عن طريق التسميم أو ما شابه.

كما أنّه قلّما كان يكترث للقوانين الدّولية فيما يتعلق بالحروب وحقوق الجندي فهو لم يقتل أسيراً بمكان لأنه ما قبض على أيّ منهم. (شارون بحكم الميت سريرياً منذُ عدة سنوات كأنّهُ يقضي مؤبداً عقاباً على الآف الأرواح التي هدرها منذُ الخمسينات حتى آخر سنوات حكمهِ الوحشي). لقد كان شارون يتصرف كملك مستبد يفعل ما يشاء ويتجاهل رئيس الوزراء ويغيّر ويبدّل في الخطط ولا يهتم بعدد الضحايا حتى في صفوف جنودهِ.

الرأي العام الإسرائيلي كان معهُ في الخمسينات لأنّهُ يعبر عن أعماقهِ جهراً أما الآخرون فسرّاً وتمويهاً، إلاّ أنَّ الوضع قد تغيرَ في حرب الأيام الستة وصبرا وشاتيلا والجنوب اللبناني وبيروت. ربما لأنّهُ كان يعميه إيمانهُ بإسرائيل الكبرى فيبيح لهُ كلَّ شيءٍ في نظرهِ كما أنَّ تاريخ الرجل أخلاقيّاً لم يكن ناصعاً. أما بخصوص المال فكان يُعتبر أغنى رئيس وزراء عرفتهُ إسرائيل لأنّهُ أشترى مزرعةً بمليون ونصف المليون من الدولارات التي أقامها على أطلال بلدةٍ فلسطينية دمرها الجيش الإسرائيلي ناهيكَ عن أعتياده العيش ببذخ صارخ.

على الصعيد العسكري كانَ زملاؤه بشكلٍ عام يحتقرونه لصلافتهِ وتجبّرهِ وسطحيّتهِ في الثقافة العسكرية، فَنَعَتَهُ رئيس الأركان السابق المتميز والذي كانَ يقدرهُ الجميع بأنّهُ ” رجل بلا ضمير أو مبادىء” بينما الجنرال وايزمان الشهير شبههُ بحمض الكبريت الذي يبدأُ أولاً بإحراق الإناء الذي يحتويهِ قبلَ أن يذيبهُ وينسكب. وهذا ما فعلهُ برئيس وزراءه بيغن فقزّمهُ وقضى عليهِ.

كان يقول: ” يعودُ الفضلُ إليَّ في تغيير مسار المواجهة لصالحنا على نحوٍ حاسم فعمليّتي هي الأروع والأبدع على مستوى الحربِ كلّها “. والواقع أن ذلك كان تبجحاً، فالقيادةُ هي التي كانت قد رسمت بإحكام تلكَ الخطّة وما كان فيها سوى المنفّذ.

إريك رولو ومتابعتهُ الحصيفة للسياسة الأمريكية في المنطقة

من خلال متابعتنا للسياسة الأمريكية نرى بشكلٍ عام كيف يسيطر عليها اللوبي الصهيوني فهو يركّز سلطتهُ على الرئيس الأمريكي. فوزارة الخارجية الأمريكية عادةً تضع مصلحة الولايات المتحدة فوق كلِّ اعتبار. فلذلك كان الأيسر على اللوبي حصر العلاقة بالرأس الأمريكي مباشرةً فهو الذي بشكلٍ عام يعطيه الفرصة لتبوّؤ الرئاسة نظراً لنفوذهِ المالي والإعلامي وأصواتهِ التي تؤثر بميزان القوى، ولئن فازَ المرشح غير المرغوب فسرعان ما يحتويه اللوبي بأحابيلهِ الذكية وضغوطاتهِ فلا يستطيع أن يقف بوجه اللوبي، وهناكَ وجهٌ آخر للديمقراطية ألا وهي إنتخاب أعضاء الكونغرس ومن النادر أن يكون الرئيس والكونغرس بأكثريتهِ من حزبٍ واحد سيما إذا نجحَ الرئيس في دورةٍ ثانية تخوّلهُ تجسيد رؤاه وتحقيق ما لم يستطع أو يجرؤ على تحقيقه في الدورة الأولى، فإختراق أحد المجلسين من اللوبي ضروري للحدّ من حرية الرئيس. والرئيس الذي شذَّ عن القاعدة هو الجنرال أيزنهاور في موقفهِ من حرب السويس 1956 في مصر. ورؤساء أمريكا بالمفارقة لا يغدون احراراً في تصريحاتهم وتفكيرهم إلاّ بعدَ أن تنتهي مدّة رئاستهم. وفي هذا السياق وفي حال بروز رئيس أمريكا معتدل لا يأخذ بعين الإعتبار مصالح إسرائيل فهناكَ وسائل عبقرية لتنحيتهِ أو إضعافهِ أو إزالتهِ من الساحة وما أكثر الأمثلة!.

نظراً لإستفادتهِ من سابقيه تعهدَ الرئيس نيكسون سرّاً بأن لا يكلّفَ أيّ يهودي بملفٍّ يتعلق بإسرائيل إلاّ َأنَّ هذا ما منعهُ أن يقدّمَ في خمس سنوات إلى إسرائيل مساعدةً متعددة الأشكال لا سيما مالياً وعسكرياً بصورةٍ تفوق بمراحل المساعدات المقدمة من قبل أسلافهِ مجتمعين. رغم ذلك أجبروه أن يستقيل قبل أن يكملَ ولايتهُ الثانية والقاعدةُ غير المكتوبة بين الرؤساء هو التنافس على مساعدة وتأييد وطلب ودْ إسرائيل فالآتي يجب ان يتجاوز الراحل كي يستكفي شرهم ويظل حتى نهاية مدته.

قال نيكسون: ” تؤثر إسرائيل على قراراتنا بما تمارسهُ من ضغوطٍ كبيرةٍ ومستمرةٍ ليست بالضغوط الخفية أو الحذرة لكنها تسهمُ في تشكيل سياستنا الداخلية. إنَّ إسرائيل تخدم رغمَ كلّ شيء مصالح واشنطن “.

يعلق إريك رولو على ذلك بأنَّ نيكسون لم يكن مجافياً للصواب في ذلك. إنها برأيي عظمة إريك رولو في تعبيريتهِ الدبلوماسية.

نكسون بين روجرز وزير خارجيتهِ وكسنجر مستشارهِ للأمن القومي

كلّ رئيس أمريكي كان يحلم بحلّ معضلة الصراع الإسرائيلي العربي من إيزنهاور إلى كينيدي إلى نكسون إلى كارتر إلى كلنتون – إلى أوباما مروراً بالبوشين الأب والأبن والنتيجة دائماً الفشل لأنَّ إسرائيل لا تريد الحلّ لا تريد السلام فهي دولةٌ قائمةٌ على العدوان. إنها ثكنةٌ عسكرية أقوى من جيرانها مجتمعين بالأضافة إلى القدرة النووية التي تعتمدُ على ما لا يقل عن مئتي رأسٍ نووي.

إنَّ منطق وجودها هو التوسع والتوسع دائماً فلو دخلت في الحلّ السلمي ستتتحجم ويصبح لديها حدود وتخسر مساعدات أمريكا والدول الأخرى والديسبورا اليهودية. إنها ستغدو كما تنبأ ديغول كالسيل الذي ستبتلعهُ الصحراء العربية في النهاية، ومحيطها العربي سينمو بطبيعة الحال لكي يتجسد قوةً عظمى من جديد تتوفر لها جميع المعطيات البشرية والطبيعية والمعادنية والإستراتيجية. وقد أصبحت إسرائيل عبئاً على الجميع سيما بعدما زال الإتحاد السوفياتي والحرب البباردة.

فلذلك استخدم نكسون روجرز وزير خارجيتهِ لإيجاد الحلّ الذي استعصى على الجميع. فأوشك روجرز على النجاح ” فَدَوْبَلَ ” عليه كسنجر وزير الأمن القومي اليهودي الداهية الذي تجاوز الجميع وأخذَ يلعب بزعماء المنطقة من السادات إلى حافظ أسد…. بإستثناء بيغن الوحيد الذي لم تنطلِ عليه ألاعيبه، فاخترعَ سياسة الخطوة خطوة والدبلوماسية المكوكية وخدعة مؤتمر مدريد باستعراض المتعارضين الذين جمعهم في صالةٍ واحدة ووضع المؤتمر فيما بعد في البراد. وأصبح كيسنجر العزيز: “Dear Henry  ” عند السادات الذي كان يصفهُ بالمهرج بالماضي والعميل للنازية فأصبح الفيلسوف والعميق والنبي وهرم السلام. وكذلك عرفَ كيفَ يخدع ثعلب المنطقة وأسدها آنذاك بأفانينهِ المتنوعة .. وإسرائيل في الوقت نفسهِ تبني مستعمرات أينما استطاعت وهي لا تخشى احداً فأمريكا ظهرها. (آخر تصويت في مجلس الأمن بأستنكار مشاريع إسرائيل الإستطانية في القدس الشرقية والضفة الغربية كان بالإجماع 14/15 الذي ضربهُ الفيتو الأمريكي).

الزمن يمرّ والضفة الغربية تزخرُ بما لا يقل عن نصف مليون مستوطن إسرائيلي وتستطيع حتى معارضة الرئيس الأمريكي في عقر داره إذا ما حاول أن يفرض عليها ما لا تريده. والجولان بالآلاف من المستوطنين. وستة آلاف وحدة سكنية ستقام في القدس الشرقية لتبترها نهائياً عن الضفة الغربية والتي لا ترد كعاصمة للدولة الفلسطينية سوى على الورق الذي سرعانَ ما يُرمى في سلال المهملات.

سطحية زعماء العرب وخبث أمريكا وإسرائيل

في مذكرات إريك رولو تتضحُ سذاجة الزعماء العرب الأذكياء الأقوياء على شعوبهم والضعفاء أمام ساسة الغرب وخاصة الأمريكيين. فالسادات يذهب إلى الكنيست الإسرائيلي ويقتنع بفتح قناة السويس والملك حسين يذهب قبل حرب أكتوبر 1973 بأسبوعين سراً إلى غولدامايير وأسحق رابين محذراً من الهجوم المصري السوري. والغريب كيفَ تناسى كاتبنا الحرب المصريّة الليبيّة بقيادة السادات والقذافي اللذين عرفا نهايتهما فيما بعد بالرصاص في بلديهما. والزعماء العرب عام 2002 يعرضون إقامة علاقات كاملة مع إسرائيل شرط ان تجد حلاّ للقضية الفلسطينية. ولم تضع إسرائيل دقيقة للرد عليهم… فهي كانت تنادي بالسلام عندما كانت تعرف بأن العرب سيرفضونه وما كان ذلك إلاّ لخداع الرأي العام العالمي.

والذي يطيّر العقل هو المديح المزدوج من جانب إسرائيل ومصر حيال المستشار اشرف مروان صهر عبد الناصر الذي انتحر أو استنحروه في لندن.

إريك رولو وفرنسوا ميتران

 في أوئل الثمانينات يستدعي الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران كاتبنا ليعيّنهُ سفيراً لفرنسا في الخارج وتعاقب على أكثر من سفارة فرنسيّة في الخارج….

فميتران – عن قصد أو عن غير قصد – قد قضى عليه كصحافيّ ألمعيّ. لقد أعترفَ رولو بانّهُ وقِّع في فخّ المنصب فأصبح له قارىء الرئيس ميتران وربما قارىء آخر فلذلك انحصرت الشمس لتنصب في قمقم يُطلَّ برأسهِ من وقتٍ إلى آخر في قصر الأليزيه الرئاسي ويقفل عليه واضعاً إياه في درج… أو في خزانةٍ.

والصحافة – كما نعلم جميعاً – هي ممارسة الحرية العاقلة المسؤولة على الورق امام السلطة والقوة ويوم الحشر المتجدّد يوم القرّاء بمئات الآلاف الذين يدفعون إلى الملكوت او الهلكوت…

كلمـة أخيـرة

إنّي لا تجمعني بإريك رولو في باريس سوى مقابلة أو أثنتين بشكلٍ عَرَضيّ ناقشته فيها فكان بمثابة الغدير الذي يستقبل الضياء والمياه من حيث أتت هادئاً مبتسماً مجيباً بمنتهى الرّواق والصّوت الهادىء… لا يتوخّى فرض رأيه ووجهة نظره عليك… ولكنّه متشوّق إلى كل جديدٍ وطريف.

إنّه صحافي ميداني صيّاد أخبار ومواقف وأسرارٍ يسابق الحدث على قدميه الطائرتين وليس على كرسيٍّ ملتّهُ وملّها ومكتبٍ تعبَ من الإنكباب والإرتكاء عليه ” كجبابرة ” الصحافة عندنا.

إنّهُ بتحليلهِ المبني على الإحاطةِ بالحدث وبجذورهِ وحركيتهِ يصل إلى نتيجةٍ دامغة وهي أنَّ الذي ربحَ في حرب اكتوبر 1973 لا المصريون ولا الإسرائيليون بل الأمريكيون اللذين حجّموا أوروبا وخنقوها وفتحوا خزائنهم أمام دولارات الخليج التي تضاعفت ملياراتها عشر مرّات وازدهر الإقتصاد الأمريكي أيما إزدهار على حساب العالم كلّه إذ هي لا تستورد سوى 3% من النفط الخليجي فقط.

وانا برأيي قد يكون الرئيس نكسون هو مهندس تلك الحرب لكسر الجمود في الشرق الأدنى وتحجيم إسرائيل الـ 1967 وإعادة شيءٍ من الكرامة وما تيسر من الأرض للعرب لكي يدخل التاريخ من مصراعيه في ولايتهِ الثانية، ولكن عيون اللوبي اليهودي لا تنام فالشيطانُ يدخلُ من التفاصيل ومن الفسوخ في أي بناء وما أكثرها في أمريكا.

هناك أسرارٌ تنامُ في توابيت أصحابها ولا يعرفها إلا اصحابها والله. ومهما كان العقل قويّاً واسعاً رؤيوياً فإنّهُ يقف عاجزاً بكل إنكسار أمام الإحتمالات والإحتمالات فقط.

إريك رولو صحافيٍّ عملاق بحاجةٍ إلى قرائته ” عمالقة الصحافة ” عندنا قبل أقزامهم وما أكثرهم.

————————————————————–

* مدير مكتبة الأمير شكيب أرسلان الدولية في مدينة الشويفات