الشرق المضني وروسيا المُتعَبَة

سمير عطاالله (النهار)

من أجل أن يٌكمل جورج أورويل روايته الكالحة 1984، ذهب العام 1946 إلى جزيرة صخرية على أطراف اسكوتلندا، على طرف العالم، ليتفرغ إلى ما أصبح في ما بعد أهم عمل أدبي حول الديكتاتورية. اتخذ لنفسه منزلاً يبعد نحو 50 كلم عن أقرب دكان، هو الدكان الوحيد على الجزيرة. ومَن يعرف شيئاً من اسكوتلندا المأهولة، له أن يتخيّل الأجزاء النائية منها، وأن يتصوّر لجاجة الريح وأصوات الأشباح في الليل، كتلك التي كان يتصوّرها السندباد، بشراً وعمالقة وطيوراً جامبو.

توفي أورويل العام 1950 قبل ثلاثة عقود من الموعد الذي حدّده لوقوع العالم تحت سطوة الاستبداد والإرهاب والرعب. سوف ينتشر “الشقيق الأكبر” في كل الأمم، وفيما كان بطل أورويل، وينستون سميث، يخضع لجولة أخرى من التعذيب، قال له جلاّده يصف الزمن المقبل، “تخيَّل جزمة تدوس وجهاً بشرياً – إلى الأبد”. رأى أورويل أن العالم الجديد الخاضع للجزمة سوف يقوم على صراع بين ثلاث قوى. لعله أخطأ في الحسابات، فقد حوِّل العالم في ما بعد إلى صراع بين دولتين كبريَيْن خلال مرحلة طويلة جداً عرفناها بالحرب الباردة، ولست أدري ماذا سوف يُطلق عليها الآن وقد بدأت تعود إلينا من الدولتين نفسيهما.

التقيت في لندن قبل فترة صحافياً من دول البلطيق، حيث زرع الروس، كما فعلوا في آسيا السوفياتية وغيرها، أعداداً كبيرة منهم تؤدّي، عند الحاجة، دور الشقيق الأكبر، أي ضابط الخضوع ومراقب النفوس. سألته عما إذا كان هناك خوف في جمهوريات البلطيق الجميلة، من أن يقع لهم ما وقع لأوكرانيا، كان جوابه أنه “ما دام العالم مركَّباً على إرادة فرد واحد، ومزاج فرد واحد، واعتلال فرد واحد، أو صحته، فإن الخوف قائم في الجمهوريات كما في غيرها. قال، تعوّدنا من تبلّدنا أن الصغار يدفعون دائماً ثمن الصراع بين الكبار. وقال، التقدّم والترقّي والتطوّر لا تعني شيئاً إذا خطر للفرد أن يدعو الناس إلى الاجتياح والغزو. لقد سار الفرنسيون خلف نابوليون إلى روسيا، مع أنهم من أرقى الشعوب. وسار نحوها الألمان خلف هتلر، بعدما كانوا قد بلغوا أرقى المراتب الصناعية. والروس يسيرون خلف بوتين اليوم في الاتجاه المعاكس، لأنهم يرون فيه ثأراً لسقوط الاتحاد السوفياتي، وانفصال معظم الجمهوريات، وفقدان الدور الموازي، أو الثاني، في العالم. والمؤسف أن الرجل سوف يبحث عن انتصارات وهمية في الخارج، ويكرّر الحماقات والمآسي التي ارتكبها الغربيون والشرقيون على السواء”.

أراقب صوَر جون كيري في نشرات الأخبار وأتساءل ما هي الطاقة البشرية عند هذا الرجل. منذ أشهر طويلة وهو يطير من مكان إلى مكان، وقلّما يعود إلى واشنطن إلى فطور أو عشاء. فقد نقل الخارجية الأميركية معه عبر الأطلسي، إلى مدن ومناطق تستقبله بالترحاب وتودّعه بالحرائق. وعودة الصراع بين الدولتين على هذا النحو، يبدو مركزها، مرة أخرى، هذا الشرق المضني. في المرحلة السابقة كانت فلسطين هي عنوان النزاع، وكان الاتحاد السوفياتي يلعب دور الضامن للمشاعر العربية، ولو أنه – وسلاحه – لم يستطع أن يضمن لها انتصاراً عسكرياً واحداً. أما الآن، فإن روسيا تبدو كأنها في المرتبة الثانية بعد إيران من الحلف القائم ضد واشنطن. كما تبدو بعيدة من القضايا القومية التي طالما رفعت شعارها أيام السوفيات، والمسائل الاجتماعية، أو الطبقات البائسة، لكي تؤيّد قضايا بلا محتوى إيديولوجي، ولو أنها تهدّد سلامة منطقة واسعة. استشاط بوتين غضباً عندما رأى أن كل الوجود الروسي الماضي قد انحسر حتى مرفأ طرطوس. وازداد توتّره بسبب الحوار الغربي – الإيراني، الذي قد يؤدّي، في نهاية المطاف، إلى علاقة ما، بين إيران والشيطان الأكبر. وإذا ما حصل ذلك، قد يكون أفدح بكثير من الطعنة التي وجّهها ريتشارد نيكسون وهنري كيسينجر إلى موسكو عندما ظهرا فجأة في بكين لتناول الشاي بالياسمين مع ماو تسي تونغ ومترجمته المفضّلة، التي قامتها ومقاييسها أكبر من المقاييس الصينية المعهودة. لن يتحمّل فلاديمير بوتين مثل هذه النكسة. لأنه خارج ما تحقّق من تقدُّم داخل روسيا بعد الانهيار السوفياتي، لم يستطع حتى الآن أن يكون شريكاَ موازياً للقطب الآخر، في ما عدا الدور السلبي، أي استخدام الفيتو في الأمم المتحدة واستخدام التعطيل في جنيف. وترك سوريا تنحدر أكثر فأكثر نحو الشرذمة. لم يكن مطلوباً، منذ أربع سنوات حتى اليوم، أن يتخلّى بوتين عن النظام، أو عن مواقعه، أو عن حسابات روسيا في ما بقي لها من هذا الشرق، لكن الحرص على سوريا والمصالح الروسية كان يقتضي، منذ البداية، عدم السماح بأن تتحوّل سوريا إلى حلبة دموية بلا نهاية. ومن ثم إلى مسرح للرعب العالمي، وقد فقدت، هي والعراق، الكثير من الأرض والكثير من السيادة والكثير من الاستقلال.

يشبه الدور الروسي في السياسة الدولية حالياً، دور “الثلث المعطِّل” في لبنان. وقد أدّى هذا إلى شيء واحد فقط، هو الشلل في الدولة تحت مسمَّيات ودعاوى كثيرة. لقد ظهر “الثلث المعطل” في أحوج الأوقات الوطنية، إلى ثلث بنّاء ومجموعة متجانسة وجماعة قادرة على التوافق في العمل ضمن الخلاف في الرأي. لا يمكن الدول والأمم والأسرة الدولية أن تقوم على الشعور بالدونية أو مشاعر الثأر. فعندما التقى الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية ضد الفاشية والنازية، كانا يشبهان بعضهما بعضاً إلى حد بعيد. دولتان تحدّرتا من ثورة وطنية، وكلتاهما عبرت الحدود الواسعة فيما كانت الأولى تشكل أكبر دولة في العالم، والثانية تحتل المرتبة الرابعة، وكلتاهما دخلت الحرب نتيجة لهجوم مباغت: الغزو الألماني للاتحاد السوفياتي، والهجوم الياباني ضد بيرل هاربر. غير أنه ما أن التقتا للاحتفال بالنصر على ركام برلين، حتى سار كلٍ منهما في طريق مضاد، واحد يرفع المنجل والمطرقة، وواحد نجوم الولايات التي يتألف منها أكبر نظام رأسمالي.

دفعت شعوب كثيرة ثمن المطحنة المتوحشة: الدور الأميركي في الهند الصينية، والدور السوفياتي في أوروبا الشرقية، والشعب الفلسطيني، وشعوب أميركا اللاتينية وأفريقيا. كانت الحرب الباردة بؤساً حاراً في كل مكان. ربحتها الولايات المتحدة بسبب قدرة النظام الاقتصادي على أعباء الحرب والتسلّح. وعندما جاء باراك أوباما، وجد أن جورج دبليو بوش قد ترك له دولة مُفلسة إلى سنوات طويلة. غير أن النظام الاقتصادي تدخّل مرة أخرى، في حين أن مرتبة روسيا ارتجّت مرة أخرى مع هبوط النفط، وعادت دولة مشتبَهة القوة والحجم.

خلال الحرب العالمية الثانية ساعدت واشنطن جميع حلفائها وأعانتهم على النهوض من الركام، فيما لم تقدر موسكوعلى تجاوز الوعود الاشتراكية الجذابة في عالم مليء بالبؤس والهزائم والرعب. وتجد روسيا اليوم نفسها، تقريباً، في الحالة ذاتها. حليفتها إيران تعاني سقوط النفط وأنياب العقوبات، وحليفتها دمشق تعاني هبوط كل شيء، ولا تجد سوى الصرّافين اللبنانيين تحمِّلهم سقوط الليرة، وكأننا في الستينات، ولسنا في أربع سنوات من الدمار والحرب.
ماذا تستطيع روسيا أن تفعله؟ لا شيء أكثر مما فعله السوفيات: السلاح والخطاب. وسوف يزيد هذا العجز توتّر فلاديمير بوتين والشماتة الأميركية، وتشفّي الأوروبيين، شركائه الأساسيين في الاقتصاد، الذين فوجئوا باجتياح القرم وتفجير أوكرانيا. وفقدت روسيا “درّة التاج” في عودة كوبا إلى الحوار مع واشنطن. ولم يعترض فيديل كاسترو على الحدث المُهين، بل اكتفى بتغريدة رومانسية تشبه خُطبه الجميلة في سييرا نيفادا قبيل النزول إلى هافانا. وجاء “الحوار”، أو سقوط جدار كوبا، بعد وفاة هوغو تشافيز الذي كان يتولّى إحياء الكاستروية في القارة الجنوبية، مزوّداً خيرات النفط الفنزويلي التي وزّعها على الفقراء. وليس في يد أحد أن الاشتراكية العادلة هُزمت أمام الرأسمالية الطاحنة. ولم تعش إلا في الدول الاسكندينافية، حيث ازدهرت بازدهار الإنسان والرقيّ وإبعاد الاستبداد والتكبّر. لذلك، لا يعرف أحد منا اسم مسؤول اسكندينافي واحد، بينما سنظلّ نردّد اسم فلاديمير بوتين ربما “إلى الأبد”. على أقل تقدير.

كما فعل كاسترو في هافانا، فعل المرشد الأعلى في طهران: لم يبارك، بصراحة، الاتفاق المنتظَر مع أميركا، لكنه رفع عنه اللعنة. وللعداء لغته، كما للانفراجات لغتها. وكان ديغول أول من استخدم تعبير “الانفراج” في السياسة الدولية “Détente” بدل “السياسة الواقعية” التي استخدمها الألمان الغربيون في مصالحاتهم. ورأينا المستشار فيلي برانت، صاحب المصطلح، يركع معتذراً في فرصوفيا، التي دمّرها الألمان وحرَثها السوفيات. يعيد بوتين، وريث شعار “الشعوب المحبة للسلام”، الحرب إلى أطراف اوروبا التي تريد أن تنسى ألف عام من الموت والمجازر والتوحّش والرماد، انتصاراً لرئيس اوكراني يحمل أفسد واوقح ملفات المافيا وجنون الفرد. وتلوح عن بعيد حرب شبيهة بحروب البلقان. وهنا، في الشرق المضني، يظلّ فلايمير فلاديميرويفيتش خارج التحالف الدولي ضد الإرهاب، مكتفياً من القوة السوفياتية في سوريا بالسماح للطائرات الحليفة بالتحليق والقصف. يزور تركيا ويزور مصر مؤكّداً أنه ليس ضد الإسلام المعتدل، وهي زيارات تفيد مصر وتركيا أكثر مما تفيده. التوتّر وسياسة التوتّر، عالياً كان أم غير عالٍ، لا يشكّل “سياسة دولة”. رجل الدولة يدخل التاريخ من باب نزع فتائل النزاعات.