“معهد واشنطن”: حرب إسرائيل و «حزب الله» حرب جواسيس

في 18 كانون الثاني/يناير، استهدفت ضربات جوية إسرائيلية موكباً لـ «حزب الله» أودت بحياة عدّة عناصر بارزة في الحزب، ووفقاً للتقارير كان من بينها جهاد مغنية، ابن القيادي الإرهابي المتوفي في «حزب الله» عماد مغنية. وبالطبع، إن مسألة ما إذا كان جهاد مغنية هو الهدف من العملية أم لا باتت موضع نقاش فعلاً، إلا أن جمع هذا النوع من المعلومات الاستخباراتية التي يمكن العمل بها وبهذه الدقة الزمنية التي كشفت أمر الموكب تقدم لمحة عن حرب الجواسيس التي يخوضها كل من إسرائيل و «حزب الله» كل يوم.

لقد طغت هذه الضربات الجوية على فصل جديد انكشف مؤخراً من هذه الحرب الاستخباراتية. فـ «حزب الله» – الجماعة التي أعلنت “النصر الإلهي” على إسرائيل في تموز/يوليو 2006 – يقر الآن بأن جواسيس العدو اخترقوا صلب أوساط صناعة القرار في الجماعة. وحتى أمين عام «حزب الله» حسن نصرالله نفسه تحدث عن هذه المسألة في مقابلة من على شاشة التلفزيون أجريت معه مؤخراً وأقر بأن “الخروقات هي جزء من الحرب بيننا وبين إسرائيل وهي جزء من خسارات المعركة، وعلينا توقع أمور من هذا القبيل”. وفي الواقع، هذا ليس سوى الفصل الأخير من سلسلة حرب الجواسيس في كتاب التجسس.

في الخامس من كانون الثاني/يناير، مدح نائب أمين عام الحزب، نعيم قاسم، إمكانيات الجماعة واصفاً إياها بـ”الكبيرة والمتطورة”، مشيراً إلى أن «حزب الله» “يتحلى بالصمود نفسه على الرغم من بعض الخروقات الكبرى”. وكانت وسائل الإعلام قد عرّفت عن الجاسوس الأخير المتهم على أنه محمد شوربا، لكن كما أشار نعيم قاسم، هذا ليس “الخرق الكبير” الأول ولن يكون الأخير على الأرجح.

تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن إسرائيل لا تتفوق دائماً في هذه الحرب الاستخباراتية. فـ «حزب الله» لا يتهاون بمسائل التجسس والاستخبارات المضادة، وذلك نتيجة تلقي عناصره التدريب من وزارة الاستخبارات والأمن الوطني الإيرانية، كما أن الحزب قد حظي بحصة من النجاحات ضدّ الأجهزة الأمنية الإسرائيلية والغربية. ففي أواخر عام 2000، أنشأ عقيد إسرائيلي متقاعد يدعى الحنان تانينباوم علاقة مهنية مشبوهة مع قيس عبيد، وهو مجرم فلسطيني لديه علاقات مع «حزب الله». وفي الواقع، كان تانينباوم قد استُدرج إلى بروكسيل أولاً، ومنها إلى الإمارات العربية المتحدة، حيث اختُطف وتم تهريبه إلى لبنان.

وقال آنذاك زعيم «حزب الله» حسن نصرالله في مؤتمر عُقد في بيروت “يسعدني أن أبلغكم” أن الحزب الآن يأسر ضابطاً في الجيش الإسرائيلي لديه علاقات مع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية تمّ القبض عليه “في إنجاز نوعي جديد، وذلك من خلال عملية أمنية معقدة”. فبالنسبة للحزب، كان اختطاف تانينباوم إنجاز استخباراتي كبير. وبعد ثلاث سنوات، تم تبادل تانينباوم وجثث ثلاثة جنود إسرائيليين مقابل 435 سجيناً في السجون الإسرائيلية.

وفي الواقع تعود قدرات «حزب الله» الاستخباراتية إلى وقت سابق من ذلك بكثير، وهي لم تستهدف الإسرائيليين فحسب بل أجهزة الاستخبارات الأمريكية أيضاً. ففي منتصف التسعينات، توجه مسؤولون من السلطات الأمريكية، الذين كانوا يحققون بخلية محلية لـ «حزب الله» في نيويورك، سرّاً إلى أمريكا الجنوبية بناءً على معلومات استخباراتية. وفور وصولهم، تلقوا تنبيهاً من المكتب الميداني في نيويورك. فقد وردت صور لوصول العملاء إلى آلة الفاكس في مكتب نيويورك. وفي الماضي القريب، في حزيران/ يونيو 2011، ادعى نصرالله أن الحزب كشف جاسوسين على الأقل من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في صفوف الجماعة. وعلق مسؤول أمريكي على ذلك آنذاك قائلاً “لا أحد يستهين بإمكانيات [«حزب الله»]”.

بيد أن سلسلة الإخفاقات التي منيت بها عمليات «حزب الله» في السنوات القليلة الماضية تشير إلى أن قدرات الحزب العملياتية السرية قد اضمحلت. وشملت هذه الأخطاء العلنية مؤامرات في أذربيجان والهند وتايلاند ومصر. وقد تم رصد عملاء الحزب من قبل السلطات المحلية في كل من أذربيجان وقبرص ونيجيريا وتايلاند وقد أدينوا حالياً كمجرمين وهم يقضون عقوباتهم في السجن. وقد أُحبطت مؤامرات أخرى لـ «حزب الله» في العام الماضي في كل من تايلاند وبيرو – وهذه ليست سوى بعض من عمليات الحزب التي أُجهضت مؤخراً. والنجاح الوحيد الذي سجله «حزب الله» هو تفجير حافلة للسياح في بورغاس في بلغاريا في عام 2012.

وفي الحقيقة، إن عمليات «حزب الله» الفاشلة لا تصل إلى أهمية الإخفاق الاستخباراتي الوحيد والأكبر في تاريخ الحزب؛ ألا وهو اغتيال عماد مغنية. وكان مغنية (الأب)، وهو رئيس الجناح الإرهابي للحزب، قد اغتيل بعبوة ناسفة انفجرت بينما كان يستقل سيارته في دمشق في شباط/فبراير 2008. ومع أن المسؤولين في «حزب الله» وإيران وصلوا في وقت لاحق إلى نتيجة أن الإسرائيليين هم المسؤولون عن التفجير، إلا أنهم لم يعرفوا في البداية على من يلقون اللوم. حتى أن ظلّ الشكوك خيم فوق حلفائهم المتقلبين، أي السوريين، وفقاً لتقرير دبلوماسي أمريكي. وفي تلك الأثناء كانت الأجهزة الأمنية السورية تتقاذف التهم فيما بينها حول الإخفاق في حماية هدف بهذه الأهمية من عملية اغتيال في عاصمتها.

وحتى بعد أن اعتَبر «حزب الله» أن إسرائيل هي المذنبة على الأرجح في تلك العملية، بقيت لدى الحزب شكوك حيال الجهة المحددة التي نفذت العملية، وربما الأهم من ذلك، حول كيفية العثور على مغنية. وخلص مسؤولو الاستخبارات المضادة في «حزب الله» إلى نظرية وهي أنه ربما أحدهم اتّبع آثار التحويلات المالية. وفي سياق تحقيق سري أجراه مكتب التحقيقات الفدرالي في الولايات المتحدة، أخبر عناصر من «حزب الله» عملاء سريين ومصادر سرية عن حملة لـ «حزب الله» بسرقة المال من حول العالم وإرساله أولاً إلى إيران ثم إلى حساب الأموال غير المشروعة التي تستخدم لأهداف إرهابية الخاص بمغنية في لبنان. وتكهّن «حزب الله» بأنه لربما أن أحدهم تقفّى آثار الأموال وتبعها إلى أن وصل إلى مغنية. ومن المؤكد أن تكهنات شبيهة ستتبع الضربات الجوية التي نفذت في 18 كانون الثاني/يناير وأودت بشخصيات رئيسية في الحزب من بينها جهاد مغنية.

بعد مرور سبع سنوات تقريباً على مقتل عماد مغنية، يقال أن محمد شوربا كان مسؤولاً رفيع المستوى في «حزب الله»، ما يجعله عنصراً فريداً عالي القيمة بالنسبة لإسرائيل. ولمّح «حزب الله» إلى أن شوربا كان المخبر الذي أبلغ إسرائيل عن عددٍ من مخططات الحزب التي أخفقت مؤخراً، مع أن نصرالله أكد للمشاهدين في مقابلته أن “المسألة مبالغ بها كثيراً”. وبغض النظر عن مدى رفع منصب شوربا في أجهزة الحزب السرية، ليس من المرجح أن تكون هذه المؤامرات وغيرها قد أجهضت بسبب مصدر استخباراتي واحد. وبالفعل، كان شوربا قد اكتشف أمره قبل وقت طويل من الضربات الجوية التي نفذت في 18 كانون الثاني/يناير.

لقد قُتل مغنية الأب في عام 2008 وقتل مغنية الابن في عام 2015، وأوقف شوربا في عام 2014. إن المعارك الفردية هي ربحٌ وخسارة، لكن حرب الجواسيس بين «حزب الله» وإسرائيل مستمرة. فالطرفان يعتبران أنهما يقاتلان من أجل البقاء، مما يعني أن حرب التجسس ستستمر على الأرجح على أوجها. وعلى حد قول كاتب روايات التجسس جون لو كاري، “البقاء على قيد الحياة… هي قدرة لامتناهية على الشك”، وما أكثر الشكوك بين إسرائيل و «حزب الله».

 —————————————–

(*)ماثيو ليفيت / معهد واشنطن