لبنان وتحولات القرن

د.قصي الحسين

قبل خمسين عاما كان لبنان عروس البلدان. كانت مدنه على ساحل المتوسط، يغسلها الموج كل يوم بزنابقه البيضاء. وكانت طرابلس وجبيل وبيروت وصيدا وصور، تفوح منهاالروائح والعطور،لمسافات طويلة. وكانت السيارات لاتنقطع عن الذهاب إليها لا في الليل ولا في النهار. وكان الناس يشعرون بالأمان، وهم يتنقلون بين الربوع اللبنانية، وكأنهم أفراد أسرة واحدة. وكانت الطريق إلى الجبل والجنوب والبقاع وعكار لاتهدأ. فالنشاطات التجارية والسياحية بين اللبنانيين في الداخل في إزدياد مستمر.وهي على مدار السنة لا تعرف الهدوء. وكان أهل الجبل والمناطق الداخلية، لاينقطعون عن النزول إلى الساحل، لافي الصيف ولا في الشتاء. حيث تحل الحياة المدنية بأبها صورها، في المدن الساحلية المتلألئة بأنوار العلم والمعرفة. وحيث تعيش الحياة السياسية، وتنمو وتزدهر.

وكانت تتبلور من الإختلاط اليومي، بين أهل الساحل وأهل الجبل، صور التعايش الوطني وصور الحياة الوطنية، مما كان ينبيء بتشكل الهوية الوطنية وتبلور معانيها القومية، وصعود نجم لبنان بين جميع الأوطان، في الجوار الأقليمي، بلدا تاريخيا، قوي الأركان متماسك الكيان،عربي الوجه واللغة واللسان، لاتهزه العواصف، ولاتزعزعه ا لأنواء والرياح، مهما إشتدت عليه، ومهما بغى الباغون، ومهما قال فيه القائلون. وكان يسطر له في ذلك أهل التاريخ، المقولات العراض، في وحدة أبنائه وتماسكهم وتعاضدهم، خصوصا في أوقات الأزمات، وفي زمن الحروب وتبلور الكيانات.

وفي منتصف القرن الماضي، بدت الكيانات الوطنية، تأخذ طريقها إلى التشكل، خصوصا في المنطقة العربية. فبدا لبنان أكثرها جاهزية على الصعيد الوطني والقومي. وبرزت لدى جميع أبنائه هواجس السيادة والحرية والإستقلال،مثل الرياح العا تية تأخذ في طريقها كل من يقف في وجهها. فتبارت القيادات المدنية والروحية،في التعبير عن رأيها، بالدعوة إلى الحرية والإستقلال، ومناشدة دول العالم: العربية منها والأجنبية،للوقوف إلى جانب أبنائه في طلبهم الواحد الموحد، وهوإنهاء الإنتداب الفرنسي عليه وأي إنتداب آخر غيره يحل محله، وإعلان الإستقلال كوطن حر سيد مستقل،فلا يكون في المستقبل،ممرا أو مقرا للمعتدين، على الكيان اللبناني، او على أي وطن عربي آخرلأي سبب كان.

وبعد مرور قرن على الهزات والزلازل السياسية والدولية، والتي أولدت لبنان وطنا وكيانا وسلطات تشريعية وتنفيذية قائمة فيه،متمتعا بما كان الآبا ء ينشدون له من حرية وسيادة وإستقلال،نرى البلد الذي حلمنا به،في حدوده وفي كيانه وفي حريته وإستقلاله، إنما يعود إلى منعطف دولي خطر.بل هو شديد الخطورة،إلى حد تهديده بالأسس والمبادىء التي تمس كيانه والتي نادى بها أبناؤه واستشهدوا من أجلها، بل إلى المربع الأخطر التي طالما تضعه فيها السياسات الدولية، لتحل أزماتها على حسابه لاعلى حسابها، باعتباره الحلقة الأضعف في المنطقة العربية والجوار الإقليمي. فهل من يقرأ من اللبنانيين اليوم في الأفق تحولات القرن.

إن لبنان اليوم، حيثما أودعه الآباء المؤسسون في نفوس أبنائهم اللبنانيين، وفي المحافل العربية والدولية،وآخرها مؤتمر الطائف، وتقاليد الحكومات والإنتخابات والتشريعات والسلطات،التي أخذ بها البنانيون في أزماتهم التي عصفت بهم في مطلع القرن الحالي والألفية الثالثة؛ لهو مدعو للإتعاظ مما جرى و يجري في الجوار العربي والإقليمي. وعلى مسؤوليه وقياديه وأحزابه وجميع طوائفه ومكوناته أن يبادر: رسميا وشعبيا لقراءة التحولات السياسية والعسكرية الجارية أمام أبصار االعالم وأنظاره، وان يبادر فورا لدعوةجميع القياديين لموقف موحد، كما فعل المؤسسون،من الإجماع الوطني، على وحدة لبنان وإستقلاله أرضا وشعبا ومؤسسات، والمسارعة إلى تطبيق الطائف بكل بنوده. وحسنا فعل قياديو المستقبل وحزب الله؛ ولكن العظة في إستكمال خطة التحاور الوطني لدى الجميع والوصول إلى الخواتيم الناجعة.