بصمات الملك عبد الله في لبنان لا يمحوها الموت

د. ناصر زيدان (الانباء الكويتية)

أحدثت وفاة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز دوياً هائلاً في الأوساط السياسية والشعبية اللبنانية، وإستفاق الوطن المُكبَّل بالازمات على الخبر المُحزن الذي إنتشر في كل أرجاء البلاد، وتحوَّل حديثاً على كُل شفةٍ ولسان، ذلك أن المكانة المُتقدمة التي حظيَ بها الراحل الكبير، أنتجت فروقاتٍ هائلة في الحياة اللبنانية، ورسمت بصماتٍ ناصعة على صفحات التاريخ اللبناني الحديث، لا يمحوها الموت.

تذكر القيادات السياسية اللبنانية – لا سيما التي تربطها علاقات تاريخية مع المملكة العربية السعودية – العاطفة التي كان يكنُّها عبدالله تجاه لبنان، وهو إختار منذ ستينات القرن الماضي منزلاً للإصطياف في ربوع جبال وطن الارز، وكان مواكباً للمأساة التي عاشها لبنان في سنوات الحرب الأهلية المشؤومة، قبل أن يتبوَّأ المسؤوليات المُتقدمة في قيادة المملكة. فهو الذي غيَّر نظرة الخليج العربي برمته إلى الحركة الوطنية اللبنانية، من خلال صداقته المُتميزة مع رئيسها الراحل كمال جنبلاط. ولعلَّ متابعته الدائمة للتحضير لإتفاق الطائف الذي أنهى الحرب بين اللبنانيين في العام 1989، خير دليلٍ على ذلك الاهتمام في مراحله الأولية، لا سيما تكليفه بموافقة الملك السابق فهد بن عبد العزيز لرجل الأعمال اللبناني في حينها – رئيس الحكومة لاحقاً – الشهيد رفيق الحريري بتوفير كل مقومات نجاح المؤتمر لدى المسؤولين السوريين واللبنانيين.

أما المبادرة العربية للسلام التي أطلقها عبدالله من قمة بيروت عندما كان ولياً للعهد في آذار/ مارس 2002، فقد أعادت لبنان إلى خريطة التداول على المستوى الدولي، بعد سنوات الحرب والدمار العجاف التي مرَّ بها، وأعطت المكانة اللبنانية حقها بعد التضحيات الجسام التي قدمها اللبنانيون من أجل القضية المركزية فلسطين، وفي مواجهة العدوان الاسرائيلي على مدى سنوات عديدة. وعادت بيروت من خلال المبادرة الشجاعة للملك عبدالله إلى وهجها كمركز ثقلٍ في معادلة الحرب وفي مسيرةِ السلام.

واللبنانيون يقفون بإحترامٍ كبير أمام الشهامة العربية المُتسامحة للراحل الكبير، عندما تجاوز تجريحات وشتائم الرئيس السوري بشار الاسد في خطاب 15آب/ اغسطس 2006، بعد توقُّف العدوان الاسرائيلي على لبنان – وكان لعبدالله دوراً اساسياً في وقف هذا العدوان عن طريق الضغط الدولي على إسرائيل – فقدَّم للبنان هبة بقيمة 500 مليون دولار لإعادة إعمار ما هدمه العدوان، ووضع مليار دولار كوديعة في مصرف لبنان، تُعزز الثقة بالاقتصاد اللبناني الذي كاد أن ينهار من جراء الأزمة، بينما إكتفى غيره بإلقاء الخطب الشعبوية الفارغة.

وعندما بادر الرئيس الفرنسي الاسبق جاك شيراك – برغبةً من الرئيس الراحل رفيق الحريري – الدعوة إلى مؤتمر اصدقاء لبنان في باريس في كانون الثاني/يناير 2007، كان الملك عبدالله أول المُتحمسين للفكرة، وقد أعلن وزير خارجيته سعود الفيصل، الذي حضر المؤتمر، عن تبرع المملكة العربية السعودية بمبلغ 500 مليون دولار.

وصورة الراحل الكبير مع الرئيس السوري بشار الأسد يهبطان من الطائرة في مطار بيروت في 8/10/2009 ، شكَّلت قمة في التسامح والمسؤولية، عندما قرر تدعيم الإستقرار اللبناني الذي تعرَّض لتهديدٍ خطير في أيار/مايو من العام 2008. وأرسى في هذه الزيارة مصالحة تاريخية كان يحتاجها لبنان، بعد أن تجاوزت التدخلات السورية في شؤونه كل الحدود.

ولعلَّ مواقف الملك الراحل الاخيرة إلى جانب لبنان، كانت تنمُّ عن شجاعة وإخلاص وتضحية، لا تمحوها الايام، ولا يقدر على تغييبها الموت. إن المواقف المسؤولة التي صدرت على المملكة العربية السعودية في السنتين الماضيتين، كانت العامل الأساسي الذي جنَّب لبنان الوقوع في حرب أهلية مُدمرة، لا سيما بين المُسلمين بعضهم مع البعض الآخر، بينما تعاطى الآخرون بإستهتارٍ ، وعدم مسؤولية تجاه هذه الأخطار. فمساندة المملكة العربية السعودية للجيش اللبناني في إجراءاته التي قام بها في صيدا ضد تمرُّد الشيخ أحمد الأسير، ومعاركه مع المُتطرفين الإسلاميين في عرسال، وخطته الحاسمة التي جنَّبت مدينة طرابلس الفتنة المُؤكدة، كانت بمثابة النجدة لغريقٍ يتخبط بين الأمواج العاتية.

أمَّا خطة دعم وتسليح الجيش اللبناني التي أعلن عنها الراحل الكبير، بقيمة 3 مليارات دولار أميركي في العام الماضي، والتي أصبحت قيد التنفيذ – بعد توقيع الجانب الفرنسي على عقود تصدير الأسلحة إلى لبنان الشهر الماضي – فهي عطاءٌ له أبعاد مادية ومعنوية كبيرة، في الوقت الذي يتعرض فيه الجيش إلى تهجماتٍ غير مسؤولة من بعض المتطرفين على خلفية إجراءاته الأخيرة المتوازنة التي إتخذها في طرابلس وعرسال. والدعم السعودي للجيش مكَّنه من ضبط السيارات المُفخخة، وكشف عوامل التفجير، وأبعد الفتنة التي كادت أن تقع بين السنة والشيعة في لبنان، من جراء مواقف بعض المُتطرفين من الجانبين. وقد إستتبع الملك الراحل عطاءاته السابقة بمكرمة جديدة حملها الرئيس سعد الحريري في الصيف الماضي، وهي عبارة عن مليار دولار، ثمن معدات وتجهيزات للقوى الأمنية اللبنانية.

رحيل خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبد العزيز، خسارةٌ لا تعوض على لبنان واللبنانيين، ومكرماته بصمات لا يمحيها الموت الحق. ولكن اللبنانيين جميعاً لديهم الامل بأن يستمر الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده الجديد الأمير مقرن بن عبد العزيز على ذات المسيرة من التضحية والعطاء، وتاريخهما يشهد على دورهما المُنتظر.

اقرأ أيضاً بقلم د. ناصر زيدان (الانباء الكويتية)

إخفاق في معالجة زحمة السير

الانتخابات والمحاذير المخيفة

الخلافات العلنية والتفاهمات السرية

انتخابات لإثبات الوجود السياسي

الانتخابات تفرق شمل الحلفاء

هل انتهت الأزمة السياسية بين التيار و«أمل» مع انتهاء الهيجان السياسي؟

كيف أطاح قانون الانتخاب الجديد بالتحالفات التقليدية؟

إعادة الحياة إلى وسط بيروت قرار في منتهى الأهمية

عن ذكرى استشهاد محمد شطح «رمز الحوار»

دوافع بيان مجلس الأمن؟

لا مستقبل للسلاح غير الشرعي

هل شملت التسوية الجديدة كل أطراف العقد الحكومي؟

مساكنة حكومية إلى ما بعد الانتخابات

عن شروط الاستقرار في لبنان

القطاع الزراعي اللبناني على شفير الانهيار

لملمة الوحدة الوطنية

ما أسباب مخاوف بري على «الطائف»؟

زيارة الحريري إلى موسكو بين الواقع والمُرتجى

المجلس الدستوري يربك القوى السياسية

الجيش اللبناني ومواجهة المستقبل