“شارلي إيبدو” 11 أيلول الفرنسي

محمود الاحمدية

يقول النّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم: “ألا أدُلُّكم على ما يرفع اللهُ به الدَّرجات؟” قالوا: نعم. قال: “تحْلُمُ على مَنْ جهلَ عليكَ، وتعفو عَمَّنْ ظلمَكَ، وتُعطي مَنْ حَرَمَكَ، وتصلُ مَنْ قَطَعَكَ”.

هجومٌ صاعقٌ مسلّح على صحيفة Charlie Hebdo الفرنسية، بطريقة احترافية عالية بالرغم من التهديدات التي سبقت هذا الهجوم على الصحيفة السّاخرة التي أساءت للنّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم قبل عامين… بحيث تخطّوا الحواجز الأمنية التي كانت تحرس الصحيفة ليلاً نهارًا… وكانت مجزرة قُتل فيها 12 شخصًا وجُرح ثلاثون، ومن الضحايا أربعة صحافيين من أهمّ من رسم كاريكاتور في فرنسا…

من المسلّمات أنّنا كلّنا ضدّ التسخيف والإساءة التي عبّرت بهما الصحيفة عن النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، ولكن أن يأتي الثأر بهذه الطريقة التي يتبرّأ منها دين الإسلام السّمح الداعي للعفو والتواصل والمحبّة والتعالي فوق الصغائر، فإنّه أمر غير مقبول، وإنّ الرصاصات التي انطلقت قد أساءت للإسلام قبل غيره والإسلام بريء منها. ومن سخافة القدر أنّ من بين الضحايا جزائريّين يحملان الجنسية الفرنسية اسم أحدهما (محمد)!!

وخطورة هذه العملية تتعدّى بما لا يُقاس خطورة عملية 11 أيلول ضدّ الولايات المتّحدة الأميركية، والأسباب عديدة: أوّلها أنّ الذين قاموا بهذه العملية فرنسيون ذو أصول عربية، أي أنّهم استفادوا من جنسيتهم الفرنسية علماً ومعيشةً وثقافةً وإمكانيةً لحرية التعبير وعمليّتهم الإجرامية تطرح سؤالاً خطيرًا: هي خلايا نائمة، فما هو الضمان لقيام عمليات أخرى في فرنسا وفي كل أوروبا الغربية ما داموا يحملون ثقافة القتل ضدّ حرية التعبير وثقافة قطع الرؤوس؟ وهنا تحضرني سورة المادئة القائلة: “من قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنّما قتل الناسَ جميعًا”.

 ومن بين الذين قضوا في هذه العملية كم من أبرياء سقطوا؟؟ هل نحن حقيقةً نطبّق تعاليم الإسلام؟؟ ولن أخوضَ في الأبعاد السياسية للعملية ومن هو المستفيد منها ولكن باختصار شديد أقول إنّ المستفيدين منها ثلاثة: إسرائيل وبعض الأنظمة الدكتاتورية العربية واليمين المتطرّف في فرنسا!!! جاء في سورة الأحقاف: “ريحٌ فيها عذابٌ أليمٌ، تُدمّرُ كلَّ شيء بأمر ربِّها فأصبحوا لا يُرى إلاّ ساكنهم، كذاك نجزي القدم المجرمين”… في 11 أيلول كان هجوم إرهابي خارجي على رمز أميركي بالبعدين الاقتصادي والعسكري والأبراج والبنتاجون، بينما هنا الهجوم على صحيفة، أي الهجوم على حريّة التعبير ممّا يجعل المفارقة كبيرة وكميات الجهل أكبر…

أمّا العنصر الثاني فيكمن في مفارقة غريبة أيضًا: قبل العملية بأسبوعين اعترفت فرنسا بدولة فلسطين وكانت الدولة الثانية بعد السويد ممّا جعل نتانياهو يفقد صوابه ويتوجّه بكلمات نابية ضدّ فرنسا، وجاء هذا الهجوم المجرم وكأنّه يعاقب فرنسا على مواقفها… والأخطر أنّه قبل يوم واحد فقط كان الرئيس هولاند، وفي مؤتمر صحافي، يقدّم فعل الندامة على عدم ضرب النظام السوري عسكريًّا واعتبر ذلك خطأً تاريخيًّا بمجاراة الولايات المتّحدة التي كان موقفها مع أوباما ولايزال رماديًّا مائعًا غير حاسم ومتناقض مع نفسه في كل خطوة، وخاصّةً قصّة داعش. وهذا حديث آخر لا مكان حاليًّا للغوص فيه، ولكن باختصار: أميركا مع كل ما يخدم العدو الإسرائيلي وعملاءه على مستوى العالم العربي كلّه وداعش الخادم غير المباشر لهذه السياسة بتشكيل بديل للنظامين العراقي والسوري يجسّد خدمةً مباشرةً لهذين النظامين وبطريقة مفضوحة نتاج عبقرية أميركية شرّيرة ومخرجها الأكبر ناتانياهو الذي يفتّش عمّا يخدم استقرار إسرائيل حدودًا وواقعًا… فأتت هذه العملية تتويجًا للمستفيدين، أنا أقول المستفيدين وليس المخطّطين أو الفاعلين وذلك ملك للقضاء الفرنسي…

والعنصر الثالث الأخطر أنّ هذه العملية دخلت بتفاعلاتها إلى قلب كل بيت من بيوت الملايين الخمسة الفرنسيين ذات الأصول العربية بشكل عام والمغاربية بشكل خاص!! وكذلك ملايين العرب المتجنّسين في أوروبا كلّها ونحن نعلم مدى الترابط الأوروبي وتعاضد الدول الأوروبية وتعاونها على كل صغيرة وكبيرة… وحسنًا فعلت المؤسسات الإسلامية في فرنسا حين علا صوتها استنكارًا وشجبًا وانتقادًا حادًّا لهذه العملية مباشرةً وعبر كل الإعلام الأوروبي والفرنسي خاصّةً ممّا ساعد في تعرية المجاهدين وفي ترميم اللّحمة بين صفوف الشعب الفرنسي. والرئيس هولاند اليوم سيسير على رأس التظاهرة المليونية وعنوانها: وحدة الفرنسيين!! فلن يحلم أحد بجعلها صراع أديان في فرنسا!!

أين نحن من مقارعة الفكر بالفكر والقلم بالقلم والرأي بالرأي…؟؟ أين مجدُ أمّةٍ كان فيها عمر المختار وجمال عبد الناصر وكمال جنبلاط وغيرهم من فئات المتنوّرين العرب نضالاً وفكرًا ووعيًا وثقافةً؟؟! ما الذي يفرّق هؤلاء عن قاطعي الرؤوس في سوريا والعراق؟ ما الذي يفرّقهم عن الذين سبوا النساء والأزيديات؟ هي سلسلة جرائم لا تمتّ للإسلام بصلة حاول البعض حصرها بأنّهم مجموعة شباب متحمّسين ويجب دراسة سيكولوجية تربيتهم والظلم الذي وقع عليهم! وهذا الكلام على أحقيته، توقيته جريمة حقيقية بحقّ الحضارة والفكر ومجاراة الأمم في تطوّرها!! كم نحن بشوق لأصوات متنوّرة، والنموذج الأبرز السيسي الذي دعا إلى الاعتدال الإسلامي ومراجعة هذا الفكر فلسفةً وتطبيقًا…

كم كان رائعًا مونتسكيو الفرنسي عندما قال: “إنّني أخالفك الرأي، ولكنّني مستعدّ للدفاع حتّى الموت عن حقّك في إبدائه”. أين نحن من ذلك الإبداع الحضاري… منظر تلك الطفلة الفرنسية التي سألها محامٍ فرنسي من المؤكَّد ذات أصول يهودية: بماذا تشعرين بعد هذه المجزرة؟؟ قالت ببراءة تحمل كل بذور الخطر: Oh! Les musulmans!! يا ذوي العقول الفارغة لن أقولَ لكم إلاّ: طبّقوا تعاليم النبي محمّد صلّى الله عليه وسلّم وكفى!

 

اقرأ أيضاً بقلم محمود الاحمدية

لبنان لن يموت

أكون حيث يكون الحق ولا أبالي

لماذا هذا السقوط العربي المريع؟!

جشع بلا حدود وضمائر ميتة في بلد ينهار!

جاهلية سياسية… بل أكثر!

معرض فندق صوفر الكبير والتاريخ والذاكرة

قال لي: عندما تهاجم الفساد ابتسم بألم!!

إذا أجمع الناس على مديحك سوف أطردك!!

التاريخ لا يرحم… يجب إعادة كتابته

ما هو دوري كوزير جديد؟

مشروع كمّ الأفواه تدمير للبنان الرسالة

الجامعتان اليسوعية والأميركية تنسحبان: التعليم العالي في خطر

السويداء في عين العاصفة

تقريران رسميان متناقضان عن تلوث بحر لبنان

في ذكراها الـ 74 اسمهان: قصصٌ خالدة

طبيعة بلا حدود ربع قرن من النضال البيئي

فريد الأطرش وشوبرت والفن العالمي الخالد

يوم البيئة العالمي: التغلب على تلويث البلاستيك

قطعة الماس في جبل من الزجاج

مسيرة منتدى أصدقاء فريد الأطرش تشع في دار الأوبرا في القاهرة