لبنان الطائف في زمن الحريري وبيروت أيام ابرهيم باشا

أنطوان قربان (النهار)

الطائف… وما بعد؟ البعض يعتبره هزيمة للمسيحيين والبعض الآخر يعتبره بمثابة هيمنة للمسلمين السنّة على حساب الطوائف الأخرى وخصوصاً الشيعة. منهم مَن يطلب تطبيقه بكامله، ومنهم مَن يتمنى استبداله بصيغة أخرى. منهم مَن يصرّح بأنه لا يريد ربط توزيع المراكز والديموغرافيا، والآخر يحلم بتوزيع صحيح يعكس أعداد الشعوب اللبنانية. لأن هناك شعوباً في الوطن الواحد.

هناك مَن يشيطن الطائفية ويجعلها علّة العلل في عدم بلوغ الصيغة اللبنانية شواطئ الأمان الدائم. وهناك مَن يتمسك بالطائفية باسم الواقعية العملانية واحترام تراث الجماعات الدينية والمذهبية. هناك مَن يسكر بترداد عبارة “لبنان الرسالة” ويفهمها أنها تكرّس التوازنات الطائفية وتضمن له امتيازاته التي يعتبرها حقوقاً له. وهناك آخرون يفهمون الرسالة كنموذج عيش موجّه للعالم الذي يتخبّط في صراعات الهويات الدينية والجماعية.

هناك مَن يعتبر المناصفة غير المشروطة بالعدد كأنها استسلام أو تنازل مُذلّ. وثمة مَن يرى فيها انتهازية مفرحة. كثير من المثقفين يرى في الطائف اعادة صياغة لميثاق 1943 أو لتسوية شكيب أفندي سنة 1844 التي نظّمت القائمقاميتين. هناك أيضاً مَن يرى في الطائف صدى تاريخياً لنظام متصرفية جبل لبنان، وكأن لبنان محكوم عليه منذ نحو قرنين بأن يتخبّط في ذهنية التسوية الدائمة بين شعوب أو قبائل متصارعة تعجز عن الإبداع والابتكار لخلق صيغة جديدة للعيش معاً بطمأنينة، فتجد نفسها مجبرة لاجترار الحلول نفسها دائماً وإعادة صوغ الماضي.

أسئلة جوهرية
ولكن هناك أسئلة جوهرية تستحق أن تُطرح. هل الطائف ليس حقاً إلا تسوية مرحلية من التسويات اللبنانية؟ أم أنه يحمل في طياته شيئاً جديداً يسهّل العبور نحو بناء دولة غير مرتهنة للاعتبارات الطائفية وثقلها الديموغرافي؟

هناك شقّان للإجابة؛ الأول تاريخي والثاني ثقافي. إن أردنا أن نقيّم جذور الطائف التاريخية فمن الأرجح أن نجد فيه صدى لإجراءات إبرهيم باشا في مدينة بيروت أيام الحكم المصري (1831 – 1840) أي قبل تسوية شكيب أفندي التي أوقفت الحرب الأهلية الأولى في الجبل، بنحو عشر سنين تقريباً. عندما حاول والي مصر محمد علي باشا إقامة حكم مستقل وتوسيع رقعة نفوذه إلى الحجاز وبلاد الشام أرسل ابنه إبرهيم باشا لاحتلال هذه البلاد. وساعده في ذلك الأمير بشير الشهابي الثاني، كما أنّه اتكل على وقوف فرنسا إلى جانبه ضد روسيا وبريطانيا حليفتي السلطان العثماني في تلك الفترة. هكذا استولى المصريون على عكا ودمشق وطرابلس وحمص. اما بيروت فدخلها ابرهيم باشا في العام 1831 وألغى بعد دخوله جميع التقسيمات الإدارية في بلاد الشام وجعل من مدينة أنطاكيا مقرّه الرئيسي. وعيّن من ثمّ حكاماً أولياء له على المدن والمناطق الخاضعة لنفوذه. ثم عيّن إبرهيم باشا متسلّمين من قبله على المدن الساحلية، مثل بيروت وصور وصيدا وطرابلس. وفي العام 1832 فوّض إلى الأمير بشير الشهابي الثاني إدارة هذه المدن فولّى عليها متسلّمين وارسل ابنه الأمير ملحم حيدر متسلّماً على بيروت التي ظلّت تابعة للأمير بشير شكلياً ولكن بمراقبة ممثل لإبرهيم باشا. وقد عيّن هذا الأخير في العام 1833 أحد ضبّاط بحريّته محمود نامي بك محافظاً على بيروت حتى العام 1840. من اللافت أن المحافظ هذا كان رجلاً مثقفاً، إذ تخصّص بالرياضيات في فرنسا. وقد انعكس مستواه الثقافي الواسع على إدارة شؤون بيروت وتسيير أمورها. وهذه كانت الشرارة التي سمحت لبيروت بأن تخطو خطوتها

الأولى في سبيل نموّها وازدهارها ورقيّها الحديث. وكان محمد علي باشا وابنه ابرهيم باشا وممثله في بيروت محمود نامي بك من الذين تأثّروا إلى حد بعيد بثقافة الاستنارة الغربية وآمنوا بالحداثة وبأفكارها الجديدة. سجّل التاريخ إنجازات عدّة لصالح تلك الفترة القصيرة، ومنها مرفأ بيروت وديوان الصحة وديوان التجارة. واللافت أنّه على الرغم من سلطة محمد علي وابرهيم باشا ومحمود نامي بك المطلقة، أصرّ هؤلاء على أن تضمّ هذه المجالس أعضاء من سكان بيروت للتباحث معهم في جميع الأعمال قبل اتخاذ القرارات. الأكثر دهشة لنا هو قرار إنشاء مجلس شورى بيروت كما يروي الأستاذ هيّام ملاًط في دراسته الأخيرة بالفرنسية عن تطوّر تراث الحريات والديموقراطية في لبنان(1). ففي العام 1833 اتخذ إبرهيم باشا قراراً مفصلياً بإنشاء مجلس شورى مؤلف من اثني عشر عضواً من سكان المدينة لمعاونة المحافظ والمتسلّم. أكثر من ذلك، أصرّ الحاكم المصري على أن يتألف هذا المجلس مناصفةً من ستة أعضاء من المسلمين وستة من المسيحيين وذلك من دون أي اعتبار للوزن الديموغرافي لكل جماعة. وقد نظّم محمود نامي بك بدقة متناهية كيفية عمل هذا المجلس واجتماعاته وتدوين محاضره وحفظها في السجلات المختصة وذلك بشكل علمي وعصري. ويخبرنا هيام ملاط كيف أنه كان محظوراً على المتسلّم أو المحافظ اتخاذ أي قرار من دون استشارة هذه الهيئة وفقاً للأصول. وبرز اسم السيد عبد الفتاح آغا حمادة الملقب بالسيد فتيحة، كأحد معاوني محمود نامي بك المميزين.

هكذا كانت الحال في بيروت في العام 1833 أي قبل نحو قرن ونصف قرن من اتفاق الطائف واعادة اعمار لبنان بدءاً بمدينة بيروت وفق خطة المرحوم رفيق الحريري الذي كان يتمتّع برؤية واضحة لمفهوم المدينة تشبه في مكان ما رؤية ابرهيم باشا ومحمود نامي بك. كان في إمكان المصريين أن يمارسوا سلطانهم بشكل تعسفي لكن ثقافتهم ورؤيتهم جعلتهم يتخذون تدابير كهذه. مبدأ المناصفة في تركيبة مجلس شورى بيروت، لم يأت كتسوية لإنهاء صراع قبلي، مثل تدبير شكيب أفندي. بل كان محض تجسيد لثقافة مستنيرة وإرادة حديثة تعترف بواقع اجتماعي متنوّع وتحاوره وتتشاور مع مكوّناته في الشأن العام من أجل المصلحة المشتركة.

فاذا أردنا أن نحدد جذوراً تاريخية لذهنية الطائف ومبدأ المناصفة لوجدناها في مجلس شورى بيروت هذا، وليس كصدى لنظام شكيب أفندي أو لنظام المتصرفية أو غيرها من التسويات بين المكوّنات اللبنانية الجماعية. على الرغم من أنّ الطائف كرّس موقتا تقليد التوزيع الطائفي في المادة 95 من الدستور، إلاّ أنّ جوهره يعود إلى حداثة تدابير ابرهيم باشا المستنيرة.

اما من الناحية الثقافية فهناك اعتبارات أنتروبولوجيّة في غاية الأهمية لم يتوقف عندها المسيحيون كفاية لأنهم عاشوا الطائف كهزيمة في بادئ الأمر. ففي نظر الكثير منهم، جرّهم هذا الاتفاق إلى تنازلات كبيرة انتزعت منهم امتيازات في ما يتعلّق بصلاحية رئيس الجمهورية خصوصاً. رفضت شريحة كبيرة من المسيحيين هذا الاتفاق من منطلق طائفي ومذهبي خوفاً على حصصها في قرص الجبنة إذا صحّ التعبير. علينا أن نتذكر أن الكيانات المسيحية لم تطمئن إلى مصيرها كمجموعة، إلا بفضل التنظيمات العثمانية في العام 1839 التي أعقبتها إصلاحات العام 1856 والتي منحت كل كيان كنسي صفة الملّة وأعطته الشخصية المعنوية في النظام العام العثماني. ولم يلغ الانتداب الفرنسي هذا النظام فبقي على حاله حتى اليوم.

هذا يفسّر الصعوبة التي تواجه المسيحيين أمام التحولات الكبيرة الحاصلة في الشرق العربي، كأنهم لا يريدون الخروج من كنف الملّة الذي يطمئنهم. هذا ما يعبّرون عنه بالشعور بالخوف وبالكلام عن حماية سلطان ما، حتى لو كان ديكتاتوراً وطاغية كما هو حاصل اليوم مع رئيس النظام البعثي في دمشق. لذلك لم ينتبه المسيحيّون إلى النقلة النوعية التي يحققها الطائف، إذ يخرجهم من تصنيف الملّة كفئة داخلية في دار الإسلام ويعترف بهم كجماعة قائمة بذاتها لا تحتاج أن تكون في ذمة أحد لأنها شريك في الوطن مع الجماعة الإسلامية. هذه النقلة النوعيّة تشكّل خطوة مهمّة نحو المواطنة الكاملة التي يؤلّف فيها الفرد البشري حجر الزاوية. نظام الملل الطائفي يجعل من المواطنة حالة غير مباشرة، إذ عليك أن تكون عضواً في ملّة معترف بها أوّلاً كي تنعم بالحقوق كافة كمواطن ثانياً. ميزة الطائف تكمن في أنّه يحصر إلى حد كبير هذه الآلية غير المباشرة في حالتين فقط، ويعمل بالمناصفة بين جماعتين من دون اعتبار وزنهما الديموغرافي. فهو لا يمارس المحاصصة بين أكثر من سبع عشرة ملّة. لذلك لا يمكن الطائف أن يحظى بموافقة أي ذهنيّة إسلامية لأن مضمونه لا يتفق مع الاسلام السياسي كـ”الإخوان المسلمين” ولا الإسلام الجهادي مثل “القاعدة” أو “داعش” ولا إسلام “ولاية الفقيه”، ناهيك بأنّ مبدأ المناصفة لا يتفق مع ممارسات الأنظمة الشمولية والقمعية التي تمارس مبدأ الشرذمة كي تبسط سيطرتها.

لذلك يبدو اتفاق الطائف طفلاً غريباً وضعيفاً في ربوعنا لأنّ المجتمعات الشرقية لم تدخل بعد إلى ثقافة الحداثة. لكن، وعلى الرغم من عيوبه وأوجه القصور فيه، لا خيار بديلاً من الطائف للبنان في المستقبل القريب. الخروج عن الطائف هو الخروج عن هذه الثقافة المستنيرة التي جسّدها مجلس شورى بيروت في الماضي البعيد، والدخول في أزقّة التسويات الجزئية. الطائف والمناصفة يؤمّنان إطار العيش الواحد في وطن ذي مجتمع متعدّد. لذلك يمثّل هذا الاتفاق نموذجاً لأكثر من بلد عربي اليوم. وإذا أراد اللبنانيون أن يتخلّوا عن المناصفة فلن تكون هناك مثالثة ولكن فسيفساء غير متجانسة وغير متماسكة من عصبيات الملل المتعددة في قبضة فرعون جديد أو سلطان أو قيصر. وهذا مشروع فتنة لا نهاية لها، كالتي حرقت أوروبا أيام الحروب الدينية. وهذا هو بالتحديد مشروع ما يعرف بتحالف الأقليات.